تحل الذكرى 71 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، في الوقت الذي يَتَزَايَدُ فيه الوعي بالمفهوم العميق للاستقلال الوطني الذي يَتَجَاوَزُ في مضامينه ودلالاته وتجلياته، المعنى المباشر، والمفهوم التقليدي، والمدلول الحرفي للاستقلال. ففي مثل هذا اليوم الأغر المجيد من سنة 1944، اتخذ حزب الاستقلال؛ طليعة الحركة الوطنية المغربية، قرارًا تاريخيًا شجاعًا وجريئًا، ولكنه قرار حكيم وحصيف ورشيد، بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، إلى جلالة السلطان محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس)، وإلى الإقامة العامة الفرنسية، وإلى ممثلي دول الحلفاء لدى المغرب، وإلى وزير الخارجية الفرنسي في باريس، في خطة سياسية مدروسة ومُحكمة، تم اتخاذها بالتشاور والتنسيق التام والتفاهم الكامل مع جلالة السلطان، من طرف قادة الحزب الوطني الذي كان محظورًا منذ خريف سنة 1937، وهم رواد النضال الوطني، والقادة المؤسسون لحزب الاستقلال الذي هو الامتداد الطبيعي للحزب الوطني الذي تأسس في مطلع سنة 1937، ولكتلة العمل الوطني التي تأسست في سنة 1934. تحل هذه الذكرى الوطنية ذات القدر العظيم والرمز النضالي الخالد، في هذه المرحلة التي يواجه فيها المغرب تحدياتٍ صعبة، تنطوي على مخاطرَ جمةٍ تهدد المصالح العليا للوطن، وتمس باستقراره وبأمنه وبسيادته، من جراء السياسات العدوانية التي تنهجها دولة الجوار الشرقي، لإطالة أمد الأزمة المفتعلة التي كانت هي، ولا تزال، من يقف وراء نشوئها قبل أربعة عقود، ومن قِبَل المواقف المعاكسة للمغرب التي تتخذها الدولة التي كانت تستعمر بلادنا، والتي انتفض الشعب المغربي، تحت قيادة العرش، وثار ضد احتلالها للمغرب، وكان الحدث التاريخي الفاصل الذي وقع في الحادي عشر من يناير سنة 1944، إحدى أبرز محطات تلك الثورة الوطنية الكبرى التي التحم فيها الشعب بالعرش في ملحمة بطولية سجلها التاريخ بمداد من الفخر والشرف، نستحضرها اليوم لنستمد منها، ومن غيرها من الملاحم الوطنية، دروسًا في الثبات على المبدإ، والصمود في وجه المخاطر، ومواصلة النضال لترسيخ القواعد لمغرب التقدم والازدهار، ومغرب القوة والمناعة، ومغرب الإبداع والإشراق. وإذا كانت الدلالة التي تنطوي عليها هذه الذكرى تَتَجَاوَزُ استقلال المغرب وتحريره من الاستعمار الفرنسي، ثم الاستعمار الإسباني في مرحلة لاحقة، فإن من المعاني العميقة للاستقلال الوطني، تحرير المغرب من القيود التي تعرقل مساره الديمقراطي، ومن العراقيل التي تعوق مسيرته الاقتصادية والاجتماعية، ومن كل ما من شأنه أن يفرط في حقوق الوطن وأن ينال من مكاسبه التي تراكمت منذ نحو ستة عقود، وأن يضعف قدراته على مواصلة التقدم الذي انطلقت مواكبه، والذي بلغ شأوًا بعيدًا في هذا العهد السعيد تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس باني المغرب الجديد على قواعد دستورية وحقوقية، وركائز سياسية وقانونية، وأسس اقتصادية واجتماعية. مغرب مواجهة التحدي بتحدّ أقوى، وبإجماع وطني هو ثمرة من ثمار الوثيقة التاريخية التي نحتفل اليوم بذكراها السبعين. وما أحرانا اليوم أن نعود إلى هذه الوثيقة التي دخلت التاريخ، لا لتمكث فيه مثل أي وثيقة تاريخية، ولكن لتنفث روحًا جديدة في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني، ولتضخ دماءًا فوّارة بالحياة في شرايين الوطن، لينهض ويحث الخطى على درب التحديث والتطوير، نحو التقدم الذي يرفع المغرب إلى المقام العالي الذي يستحقه، والذي يليق بتاريخه وأمجاده وملاحمه التي منها هذه الملحمة العظيمة التي تحل اليوم الذكرى 71 لانطلاقها.