في مثل هذا اليوم قبل تسع وخمسين سنة (18 نوفمبر 1955)، ألقى جلالة الملك محمد الخامس، بعد يومين من عودته المظفرة من المنفى (16 نوفمبر)، خطابًا تاريخيًا ظل الشعب المغربي ينتظره سنوات طويلة مليئة بالمعاناة، زفَّ فيه إلى الشعب بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الاستقلال والحرية. وفي ذلك اليوم المشهود الذي يخلد الذكرى الثامنة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه الأماجد، دخل المغرب المرحلة الجديدة من النضال من أجل بناء الدولة العصرية المستقلة ذات السيادة الكاملة على جميع التراب الوطني دون استثناء، ترسيخًا للاستقلال، وتكريسًا للحرية، وتأكيدًا لإرادة الشعب المغربي الذي عبر عنها خلال سنوات المواجهة والتصدي للسياسة الاستعمارية، منذ أن استيقظ الضمير الوطني بظهور طلائع الحركة الوطنية الأولى في سنة 1927، تزامنًا مع اعتلاء الملك الشاب سيدي محمد بن يوسف العرش على إثر وفاة والده السلطان مولاي يوسف بن السلطان مولاي الحسن الأول في 16 نوفمبر من السنة نفسها. لقد انتصرت في مثل هذا اليوم التاريخي الأغر، إرادة الشعب المغربي، وتكسرت إرادة المستعمرين ورضخت للأمر الواقع الذي تأسس بعودة جلالة الملك وأسرته الملكية من المنفى الذي دام ثمانية وعشرين شهرًَا، من 20 غشت 1953 إلى 16 نوفمبر 1955، موزعة بين جزيرة كورسيكا في البحر الأبيض المتوسط، وبين جزيرة مدغشقر في المحيط الهندي جنوب شرقي أفريقيا. فقد كانت عودة الملك الشرعي للبلاد هدفًا استراتيجيًا مقترنًا بهدف الحصول على الاستقلال، فلم يكن هناك ما يفصل بين الهدفين، ولم يكن ثمة من يقبل أن يحصل المغرب على الاستقلال مع بقاء الملك منفيًا خارج الوطن. ولذلك أجمعت الحركة الوطنية، بجناحَيْها السياسي والعسكري، على أن يكون الاستقلال مشمولا ً بعودة الملك، وأن تكون الحرية شاملة للمبادئ التي قامت عليها الحركة الوطنية، والتي تضمنتها وثيقة الحادي عشر من يناير سنة 1944 التي قدمها حزب الاستقلال إلى الإقامة العامة الفرنسية، وإلى جلالة الملك، وإلى ممثلي الحلفاء في المغرب، وإلى وزير الخارجية الفرنسية. وعلى هذا الأساس ارتبط في العقيدة الوطنية، عودة الملك من المنفى بالاستقلال، وبالحرية، وببناء الدولة العصرية في إطار الملكية الدستورية والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبذلك كان المفهوم الوطني للاستقلال جامعًا بين الحرية والملكية الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن هذا الترابط الوثيق بين الاستقلال والحرية وبين الملكية الدستورية، هو الذي عبر عنه جلالة الملك في الخطاب الذي ألقاه في مثل هذا اليوم حينما بشر شعبه الوفيّ للعرش، بانتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الاستقلال والحرية. فالاستقلال بهذا المفهوم الوطني العميق، هو منظومة من القيم والمبادئ والثوابت لا تنفصم عراها ولا تتفتت عناصرها، وهي ليست ذات دلالة واحدة، ولكنها ذات دلالات عميقة مترابطة متلاحمة لا تتوقف امتداداتها عند مرحلة تاريخية مخصوصة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، الفصل بينها. ولذلك كان الاستقلال الذي أعلن جلالة الملك عن بزوغ فجره، تحديًا شديد القوة وبالغ الجرأة وساطع الشجاعة، للإرادة الاستعمارية، لأن الاستقلال أعلن على لسان ملك البلاد قبل مائة وأربعة أيام من التوقيع على الاتفاقية المغربية الفرنسية يوم 2 مارس سنة 1956، التي تقضي بفسخ معاهدة الحماية المبرمة في ظرف غامض بفاس بين السلطان مولاي عبد الحفيظ وبين ممثل للدولة الفرنسية، في الثلاثين من مارس سنة 1912. فكان الاستقلال الذي أعلن عنه يوم عيد العرش على لسان جلالة الملك، الضربة القاضية للاستعمار الفرنسي، تعززت بها الإرادة الوطنية، فكان العهد الجديد الذي فتح أمام المغرب الأبواب الواسعة لبناء الدولة العصرية المتطورة على قواعد الديمقراطية والانفتاح على العالم واحترام حقوق الإنسان والتنمية البشرية الشاملة المستدامة في ظل الأمن والاستقرار والتفاف الشعب حول العرش القائد.