بعد نصف ساعة من إقدام سلطات الحماية الفرنسية على نفي جلالة الملك المغفور له محمد الخامس والأسرة المالكة، وجه الزعيم علال الفاسي من إذاعة صوت العرب من القاهرة. نداء تاريخيا إلى الشعب المغربي، يدعو فيه إلى الثورة تحت قيادة الملك الشرعي للبلاد، وفيما يلي نص نداء القاهرة: ٭ لقد قضى القضاء وبلغت الغطرسة بالفرنسيين إلى حد أن يبعدوا ملكنا الشرعي عن عرشه، نعم، لقد توجه الجنرال جيوم اليوم بعد الظهر إلى القصر الملكي بالرباط، محفوفا بالجيوش والدبابات الفرنسية، وطلب من جلالة السلطان ان يتنازل عن العرش. لكن جلالته رفض بكل إباء وشمم. فما كان من ممثل فرنسا إلا أن نفذ الجريمة النكراء، فأسر الملك وولي عهده الأمير مولاي الحسن وأخاه الأمير مولاي عبد الله حيث نقلتهم طيارة حربية إلى منفى كورسيكا، الذي اعتاد الفرنسيون منذ القدم أن يعتقلوا بها (القرصان) المسلمين الذين يخطفهم لصوص البحر الفرنسيون، وكان الجنرال جيوم قد أصدر أمره بفض القبائل التي كانت واردة كالعادة للمعايدة مع الملك ومشاركة جلالته في حفلات عيد الأضحى المبارك. إن القوة الفرنسية قد عملت عملها ذلك ما كنا نتوقعه في كل وقت، لأن محمد الخامس أكبر من أن يظل على مرأى ومسمع من الجلادين الفرنسيين، وقد أقر ممثلو الجمهورية الفرنسية اليوم نظاما يركز على قوة الحديد والنار، حيث أصبح كل مغربي مسجونا في منزله، ومنعت إقامة صلاة العيد وحفلاته. وهكذا أصبح اليوم الاسلامي الكبير يوم حداد للمؤمنين في مراكش. لقد انتهكت فرنسا بعملها هذا كل مبادئ الحق والعدل، واثبتت براءتها من كل المواثيق الحرة. وحتى من الطبيعة الانسانية، ولقد اعتدت على سيادة مراكش، وعلى عرشها وعلى الاسلام والعروبة فيها وعلى كل ما التزمت فرنسا باحترامه في المعاهدات المذيلة بإمضائها وشرفها وفعلت أكثر من ذلك، إذ قهرت كل مراكشي ومراكشية، بل كل مسلم ومسلمة، وعربي وعربية، على وجه الأرض في شخص محمد الخامس، الذي كان يمثل بحق عزة المؤمن، وقوة المكافح، وكرامة العربي. وإننا كزعيم حزب الاستقلال، وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين. أعلن رسميا أن الملك الشرعي لمراكش كان وسيظل محمد الخامس. وأن ولي عهد المملكة الشريفة هو مولاي الحسن النجل الأكبر لسلطات مراكش. وإننا لن نعترف بأي سلطات أو رئيس صوري تنصبه السلطات الفرنسية باسمها أو باسم أذنابها أو من ترغمهم بالقوة على ذلك. كما أننا لن نعترف بأي قرار أو تشريع وتدبير أو إجراء أو معاهدة أو اتفاق تصدره فرنسا أو تستصدره من هذه الصور أو الهيئات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. ونؤكد أن نظام المغرب هو النظام الذي سنقره نحن باتفاق مع شعبنا، ومع ملكنا محمد الخامس يوم يتم استقلال مراكش وجلاء الجيوش الفرنسية عنه، وإنني أهيب بالشعب المراكشي أن يواصل كفاحه من أجل الغاية الوحيدة التي هي استقلال البلاد، وان يبذل معنا كل ما يستطيعه من الوسائل للذب عن كرامة ملكنا الشرعي، وإعادته إلى عرشه عالي الرأس موفور الكرامة. إنني أهيب بالعالم الإسلامي كله أن يذكر مراكش في محنتها وأن يؤيد حركتها ويبذل لها وسائل العون، فإن مراكش وملك مراكش لم يعملوا إلا للذب عن الإسلام واللغة العربية. ولم يصابوا إلى حين غضبت فرنسا من أجل تعلقهم بدينهم الإسلامي وقومهم العرب. وإنني أؤكد لجميع المراكشيين والمسلمين وللعالم عن خطتنا إلى أن نحقق أمال الأمة في الحرية والاستقلال وطرد الغاصبين . ومادام الله معنا فالنصر لنا. ميثاق من أجل المشروعية والاستقلال والديمقراطية تحل اليوم الذكرى السابعة والخمسون لثورة الملك والشعب التي انطلقت يوم عشرين غشت سنة 1953 عندما أقدمت السلطات الفرنسية على نفي جلالة الملك محمد الخامس وأسرته الملكية الى جزيرة كورسيكا، أولا ثم إلى جزيرة مدغشقر في المحيط الهندي بعد أن رفض في إباء عظيم الإذعان للسياسة الاستعمارية والانصياع لمخططاتها والتنازل عن العرش إرضاء لما كانت تخطط له سلطات الحماية من أهداف شريرة تمس بالمقدسات وتنال من السيادة الوطنية المتمثلة في اختصاصات العرش وسلطات جلالة عاهل البلاد. كانت ثورة الملك والشعب رفضا وطنيا عارما للوجود الاستعماري بأكمله، وتعبيرا عن الغضب الشعبي والسخط العام على نظام الحماية بصورة عامة، الذي فرض على المغرب فترة ضعف، وفي ظل تواطؤ القوى الاستعمارية الأوروبية ضد المغرب انطلاقا من القرن التاسع عشر، بقدرما كانت ملحمة من الملاحم العظام التي أظهرت قوة الشعب المغربي وصلابته وشدة بأسه، وأكدت تعلقه المتين برمز سيادة وضامن وحدته وجامع صفوفه، وهو العرش والجالس عليه الملك الشرعي الذي رفض الشعب البديل المزيف له، وهو الدمية التي اختارها الاستعمار وأراد أن يفرضها على المغاربة دون وجه شرعي أو سند قانوني. فأبى الشعب إباء عظيما، ورفض رفضا لا هوادة فيه، فانتفض وثار انتفاضة الأبطال وثورة الأحرار، واضعا أمامه هدفا مقدسا وهو عودة الملك محمد الخامس إلى عرشه، وإلغاء عقد الحماية، وتحرير الوطن وإعلان الاستقلال التام، ولذلك فإن ثورة الملك والشعب التي لا مثيل لها في الثورات التحريرية المعاصرة على الصعيد العالمي، تنطوي على دلالات بالغة الأهمية، تتمثل في الربط بين التمسك بالسيادة التي تتجسد في ملك البلاد، وبين رفض معاهدة الحماية، وتحرير المغرب وإعلان استقلاله، تطبيقا لإرادة الشعب المعبإ وراء الحركة الوطنية بقيادة حزب الاستقلال الذي اقترن انشاؤه في طوره الجديد بإعلان وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير سنة 1944. لقد ربط الشعب المغربي في ثورته ضد السلطات والحماية بين المشروعية والديمقراطية والحرية والاستقلال، وكانت الأهداف الوطنية التي ناضل من أجلها، معبرة عن هذه المبادئ، أقوى ما يكون التعبير، وموضع إجماع الشعب المغربي برمته الذي بلغ مستوى رفيعا من الوعي الوطني ارتقى الى ذروة النضال بقيادة حزب الاستقلال الذي كان العدو الأكبر للاستعمار الفرنسي، والذي كان على وفاق تام وتفاهم كامل وانسجام مطلق مع جلالة الملك يربط بينهما ميثاق مقدس، هو ميثاق الحركة الوطنية التي واكبت عهد الملك محمد الخامس منذ اعتلائه عرش آبائه وأجداده في 18 نوفمبر سنة 1927. لقد كانت ثورة الملك والشعب ترجمة عملية للمبادئ التي تضمنتها وثيقة المطالبة بالاستقلال، لأن الربط بين هذه المبادئ قام على أساس مشروع، وهو أن حرية المغرب وسيادته الكاملة في رجوع الملك إلى العرش، وأن استقلال المغرب لابد وأن يكون انطلاقا لبناء دولة المشروعية على أساس ديمقراطية وفي إطار المبادئ والقيم التي قامت عليها الدولة المغربية المستقلة ذات السيادة الكاملة منذ القرن الثاني للهجرة. وكان الانطلاق من هذه القاعدة هو البداية الطبيعية لبناء الدولة المغربية العصرية على مبادئ المشروعية والديمقراطية والملكية الدستورية وفي هذا الاتجاه سارت الملكية الدستورية وأرسيت قواعد دولة القانون، ثم حدثت انتكاسة فوتت على المغرب الفرص الكثيرة، وضاعت إمكانات وافرة الى أن تجددت الإرادة الوطنية، واتجهت الى تصحيح المسار، فكان الاجماع الوطني على تطوير التجربة الديمقراطية وعلى تجديد الإرادة الوطنية، واتجهت الى تصحيح المسار، فكان الاجماع الوطني على تطوير التجربة الديمقراطية وعلى تجديد العهد على إقامة دولة القانون والمؤسسات، والقطع مع عهد الانفلات والانحراف عن الخط السوي. ولقد ظلت ثورة الملك، والشعب النبراس الذي يضيء معالم الطريق ، وقوة الدفع في تطوير علمية البناء الديمقراطي، والقاعدة الذهبية للعمل الوطني في إطار الوحدة الوطنية، والالتفاف حول جلالة الملك، والدفاع المشتركة بقيادة العرش، من أجل حماية المصالح العليا للوطن، والحفاظ على مكوناته ومقوماته، وصون وحدته الترابية، وتقوية نسيج الكيان الوطني الموحد. وبذلك لم تبق ثورة الملك والشعب ذكرى من الذكريات الوطنية، وإنما أصبحت وقودا للعمل الوطني، ومفجرا للطاقات الحية، وقوة ومثالا لالتحام العرش بالشعب لبناء وطن حر لمواطنين أحرار. هذا هو الدرس التاريخي الذي يجب علينا استخلاصه من الذكرى 55 لثورة الملك والشعب، صعودا في اتجاه المستقبل، وليس هبوطا الى الماضي لمجرد التعلق بذكرياته. إن ثورة الملك والشعب تفجر فينا طاقات العمل الوطني لبناء مغرب ديمقراطي، بمؤسسات ديمقراطية، وبمجتمع ديمقراطي، بمؤسسات ديمقراطية، وبمجتمع ديمقراطي يستند الى هويته الحضارية، ورلى قيمه ومقوماته الثقافية والتاريخية والوطنية. ثورة ملكية شعبية انتصرت للديمقراطية والوحدة كان الاستعمار الفرنسي في المغرب حذرا أشد مايكون الحذر، ولم يكن احتراسه ذلك مماثلا في البلدان التي كان يحتلها، ذلك أكده ليوطي الذي درس المجتمع المغربي والإنسان المغربي، فكان محترسا في العمل العسكري الذي يقوم به، ولكن خلفاءه من الضباط العسكريين لم يكونوا مسلحين بنفس السلاح لحسن الحظ ولو كان خلفاء ليوطي في مثل دهائه السياسي لما فكروا في الخمسينيات بعقلية عام 1912 م، ولأقاموا الف حساب لتطور المجتمع المغربي سياسيا ووطنيا، بوجود الحركة الوطنية التي خلقت الوعي في الشعب المغربي... لقد كان العمل الذي قام به ليوطي وهو يرغم السلطان مولاي عبد الحفيظ على التخلي عن العرش مرهونا بوقته، لأن السلطان نفسه لم يكن ممن تشبث الشعب به بعد أن ثار على أخيه أولا، وبعد أن أمضى عقد الحماية. لهذه الأسباب لم يدرك خلفاء ليوطي مكانة جلالة الملك محمد الخامس في قلوب المغارب، ولم يتبينوا قدره كملك مناضل وطني مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل بلاده وشعبه، وتلاحم العرش العلوي والشعب المغربي، ولم يقرؤا أبعاد خطاب طنجة التاريخي، ولا أبعاد وثيقة 11 يناير التاريخية. ثم ان الاستعمار الفرنسي في المغرب لم يطور عقليته في الأربعين سنة التي قضاها في هذه البلاد قبل 1953. فقد جمدت الإدارة الاستعمارية في فرنسا وفوق التراب المغربي عند العقلية العسكرية التي افترضت ان ما فعله المارشال الأول، يمكن أن يفعله أو يكرره أيضا المرشال الأخير، ولم تقم وزنا لحروب مسلحة خاضها المغاربة ضد الاستعمار في الأطلس والريف والمدن. ولم تقم وزنا لحجم الفدائيين الذي تضاعف وتضاعف حتى عم كل أرجاء الوطن، فقد كانت حرب التحرير النهائي تربح معركة تلو معركة، ومواجهة تلو مواجهة، والعقلية العسكرية الفرنسية اغفلت هذا الجانب عند المغاربة ولذلك فإذا كانوا قد اطلقوا آخر رصاصة في ايت عطا مثلا سنة 1934 ، فإنهم وجدوا القنبلة والبندقية والمسدس بسهولة سنة 1953، ولم يكونوا ينتظرون إلا المناسبة، وتلك منحها لهم المرشال جوان والجنرال غيوم وهما يفكران وينفذان اعتقال محمد الخامس وعائلته الكريمة ونفيهم الى مدغشقر. وظنت الإدارة الاستعمارية أن الحكم المباشر هو كل مايمكن أن يبتدعه عقل استعماري الحكم الذي يعطي كل شيء للإدارة الفرنسية والمستوطنين الفرنسيين (معمرين وإداريين واقتصاديين ورجال أعمال) ويسترخص أي شيء لأبناء الوطن في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، فاطلقت الإدارة الفرنسية العنان للإضطهاد والقمع والعنف... وكانت العناية الربانية نصيرة للحق ومزهقة للباطل، فانفجرت الثورة من جديد يوم الحدث الأكبر، حدث اعتقال محمد الخامس ونفيه، وتنصيب سلطان مزيف لم يبايعه الشعب. ودخل المغرب مرحلة جديدة من مقوماتها المواجهة الشاملة مع التحالف الفرنسي الاسباني حتى عودة الشرعية، وتحرر الوطن من ربقة استعمار غاشم. لقد قاد محمد الخامس أعظم ثورة عرفها الإنسان في هذا العصر، ثورة ملكية شعبية، انتصرت للديمقراطية والوحدة والنماء، وجعلت لها امتدادا على التخلف الاقتصادي والفكري والاجتماعي.