خلال المدة الأخيرة راكمت بعض الأطراف الفرنسية العديد من الإشارات السلبية تجاه المغرب والإساءة إلى رموزه ومؤسساته،حتى أن المتتبع قد يقتنع بأن هذه الإشارات أصبحت ذات طابع ممنهج ومنظم،تنقصه فقط البصمة الرسمية،ومع ذلك فقد ظل الموقف الحكومي في بلادنا متسما بالتبعية والانبطاح . وكانت الكثير من ممارسات بعض الأطراف الفرنسية الحاقدة،بعيدة كل البعد عن الأعراف والتقاليد الدبلوماسية التي من أهدافها الأساسية توفير شروط تنمية العلاقات وليس تسميمها،واختارت بعض وسائل الإعلام الفرنسية التوظيف السياسي لهذه الممارسات بهدف الإساءة المقصودة للمغرب .. وفي كل مرة ينتظر فيها المتتبعون انجلاء السحاب المعكر لأجواء العلاقات بين البلدين،تظهر من جديد قضية أخرى تزداد فيها الوضعية تأزما،حيث تلعب العقلية الاستعمارية دورا مركزيا في تصعيد التوتر. لقد ارتكب القضاء الفرنسي خطأ فادحا عبر القيام بتوجيه استدعاء لمدير الاستخبارات المغربية خلال تواجده بباريس للاستماع إليه في قضية تعذيب،وتلاها بعد ذلك التصريح الذي نسب للسفير الفرنسي في واشنطن. وبعد ذلك تم إخضاع وزير الخارجية المغربي لتفتيش مهين في المطار وتعرضه للإهانة مثله مثل أي مواطن مشبوه متهم بالمحظورات،وهناك أيضا الحادث،الذي لا يمكن أن يكون إلا مقصودا،وهو السماح لضابط مغربي سابق بالتهجم على الجنرال عبد العزيز بناني،وهو يتلقى العلاج في المستشفى الفرنسي فال دو غراس. وإذا كانت تصرفات القضاء الفرنسي بمثابة إهانة للشعب المغربي وللدولة المغربية ولرموزها ومؤسساتها،فإن تصريحات السفير الفرنسي في واشنطن،الذي قال إن «المغرب كالعشيقة التي نجامعها كل ليلة رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها»، كانت أدهى وأنكى مقارنة ما سابقتها وجاءت لتصب المزيد من الزيت على النار الملتهبة . وإذا كان الأمر كذلك،فإن الضرورة كانت تقتضي من الطرف المغربي تقوية منسوب الجدية والكثير من الصرامة للتصدي لهذه الأطراف المتحاملة على مصالح المغرب. لكن المؤسف في كل ذلك أن مواقف الحكومة المغربية،التي يقودها حزب العدالة والتنمية،ظلت متساهلة إن لم تكن منبطحة،إزاء هذه التحرشات التي تريد النيل من سمعة البلاد عبر إلحاق الأذى برموزها ومؤسساتها . إن هذه الأطراف التي تبذر بذور التشنج والخصومة بين المغرب وفرنسا، يجب أن تعي جيدا الأدوار التي قام بها المغاربة عبر التاريخ لفائدة فرنسا،سواء في الأعمال البطولية خلال معركة التحرير ضد القوات الألمانية، حيث يعلم الجميع بأن المغاربة شكلوا القوة الضاربة ضمن القوات الفرنسية في تحرير منطقة كورسيكا من القوات الألمانية والإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في شهر أكتوبر من سنة 1943،أو أثناء مرحلة بناء الاقتصاد الفرنسي،والمستمرة حتى الآن،عبر العمال المغاربة المقيمين بالديار الفرنسية والذين يفوق عددهم مليون وثلاثة مائة ألف نسمة من بينهم أطر وكفاءات عليا في مختلف الميادين .. إن هذه الأطراف الحاقدة،يجب أن تقتنع بأن العلاقات الجيدة بين الدول لا يصنعها اختلاف الحكومات باختلاف الانتماءات الحزبية والإيديولوجية،وإنما تستوجبها الواقعية السياسية في العلاقات الدولية المبنية على الاحترام المتبادل، وتفرضها مستلزمات المصالح المشتركة. إن هذه الأطراف،انطلاقا من نزعتها الاستعمارية الاستعلائية،التي تشكل عنصراً أساسياً في الثقافة السياسية الفرنسية،تعتقد أن لفرنسا حقاً في مستعمراتها،وهو احتقار للشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار كما هو الشأن بالنسبة للشعب المغربي.. ولا أعتقد أن هذه الأطراف تجهل أن قادة فرنسا الاستعمارية قد حاولوا تقسيم بلادنا وتفريق أبنائها،واستنزفوا خيراتها وشردوا شعبها،وتسببوا في تأخره سياسيا واقتصاديا وثقافيا وهو الأمر الذي كان يقتضي على الأقل تقديم اعتذار علني للشعب المغربي ،لكن العكس هو الذي حصل،حيث يتطاول حفدة الاستعمار على رموز ومؤسسات دولة ذات سيادة . ولا أعتقد أن هذه الأطراف تجهل كيف نكل قادة فرنسا الاستعمارية بأبناء الشعب المغربي،وكم قتلوا من المغاربة المدافعين عن حريتهم وسيادتهم واستقلالهم،وكيف دبروا جرائم التدمير والتخريب ضد المواطنين العزل في مناطق مختلفة من المغرب،وخلال فترات مختلفة من عهد الحماية المشؤوم، وهذه الأطراف تدرك جيدا أن المغرب الذي احتله الفرنسيون وأفقروه،لم يسبق له أن اعتدى على فرنسا،ولم يقتل أي فرنسي على الأراضي الفرنسية،وأن المغرب لم يسبق له أن استغل الإعلام من أجل التحريض ضد مصالح فرنسا بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان،علما بأنها ضليعة عبر التاريخ في ملفات من هذا النوع،ولم يسبق له أن استقبل أي مواطن فرنسي له صراع مع الدولة الفرنسية،ولم يدعم أي مظاهرة لفرنسيين يطالبون بحقوقهم فوق التراب الفرنسي،في حين أن الأطراف المذكورة تحشر أنفها في كل صغيرة أو كبيرة تهم الشأن المغربي،بل إنها تحاول فرض نفسها وصية على الشعب . من المؤكد أن هناك مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية قد يعرفها المجتمع المغربي كما هو الشأن بالنسبة للمجتمع الفرنسي،ولكن معالجة هذه المشاكل،لا يمكن الحسم فيها إلا من قبل المغاربة أنفسهم الذين كافحوا بالغالي والنفيس من أجل الاستقلال،ولا يمكن بأي حال أن تتم معالجتها من قبل الذين يحنون للعهد الاستعماري.ومن المؤكد أن هناك خلافات قد تحصل بين دولة وأخرى كما هو الشأن بين المغرب وفرنسا،ولكن حلها لا يمكن أن يتم عبر المنطق الاستعماري،وإنما من خلال علاقة التعاون والاحترام المتبادل. وقبل هذا وذاك،يجب على الحكومة المغربية أن تكون في مستوى تمثيلها للشعب المغربي،وفي مستوى التحديات التي تواجهها بلادنا وترد بقوة على الفرنسيين وبالضبط الذين يحنون إلى العهد الاستعماري،لكي يتخلصوا تماما من عقليتهم الاستعمارية ونظرتهم الاستعلائية تجاه المغاربة .