فرنسا تحتل أوربيا آخر مراتب "التنوع الانتخابي" وأبناء الهجرة لم يستفيدوا من ثقل عددهم ليشكلوا قوة انتخابية وازنة حطمت الأحزاب السياسية المتنافسة في إطار الانتخابات المحلية المقررة في 23 و30 مارس الجاري رقما قياسيا بإيداع أكثر من 926 ألف ملف ترشح للتنافس على 36.800 جماعة، بينما لا تتجاوز مشاركة ممثلي الجالية المغربية نسبة 2% ممن وضعوا على رأس اللوائح الانتخابية، وهو ما يفرض إعادة طرح السؤال حول سبب تهميش الجالية المغربية والمغاربية بشكل عام التي لم تستفد حتى اليوم من ثقل عددها (ثلاثة ملايين ناخب) لتشكيل قوة انتخابية وازنة. وقد وجدت الجالية المغربية ممثلة في شريحة من المثقفين والأطر، نفسها متحمسة لخوض الاستحقاقات البلدية وأمامها من جهة، تراكمات الماضي الصعب الذي عاشه جيل الآباء في ظل اختلاف سلم القيم وأنماط العيش، ومن جهة ثانية حالة الإقصاء التي فرضت عليها أن تدخل المعترك الانتخابي المحلي بقائمة من الأسماء سواء ضمن الهياكل الحزبية القائمة علي الازدواجية التقليدية يمين/يسار، أو في إطار تنظيمات حزبية أخرى وسطية و يسارية، أو على قوائم مستقلة غير ذات لون وفق قناعات المرشحين وحساباتهم الانتخابية المختلفة. ومن بين المرشحين من استقدمتهم أحزابهم إلى دوائر انتخابية غير مضمونة النتائج فوضعتهم على قوائم شقراء لتلوينها قليلا بسمرة المنحدرين من أصول مهاجرة لغرض الديكور والاستخدام الانتخابي، ومنهم من وضعتهم في أسفل اللوائح لاغتيال كل أمل لديهم في الفوز. ومهما يكن، فإن الضعف التمثيلي المغاربي يقع جزء كبير منه على عاتق أعضاء الجالية المغاربية أنفسهم فيما أصبح عليه وضعهم، خاصة مع ما يتوفر لديهم من فرص للدفاع عن حقوقهم ضد ثقافة التهميش والانفصال عن المجتمع المحيط. فلم تتمكن هذه الجالية حتى اليوم من صياغة مرجعية سياسية مشتركة أو مؤطرة بشكل يسمح بالتلاقي حول أهداف انتخابية محددة وتطلعات سياسية واجتماعية موحدة، وما زالت منقسمة بين من يتبنى مرجعية يمينية وآخر يسارية إلى ثالث يحاول حصر انتمائه بالحدود الجغرافية لبلده الأصل فقط. موقع أبناء الهجرة على اللوائح الانتخابية لا يتيح لهم فرص كبيرة للفوز. ومعظمهم انسحب ساخطا على سياسة التنوع "المغشوشة" التي تمارسها غالبية الأحزاب ومن ضمنها حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، الذي لم يقدم أكثر من عشرين مرشحا على رأس اللوائح الانتخابية، والحزب الاشتراكي الذي قدم 23 مرشحا، والخضر (سبعة مرشحين) والحزب الشيوعي ( خمسة مرشحين) والحركة الديمقراطية (ثلاثة مرشحين). ومن هنا فإن المجموع الكامل للمرشحين المغاربيين والأفارقة على رأس اللوائح الانتخابية لا يتجوز 60 مرشحا من ضمن آلاف المرشحين، كما أفادت اللجنة الوطنية المكلفة بتطبيق التنوع الانتخابي في الاستحقاقات المحلية التي وضعت فرنسا في آخر مراتب "التنوع الانتخابي" على المستوى الأوربي بعد بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا... خزان فكري وتتساءل اللجنة كيف أنه في بلد يضم حوالي ستة ملايين من أبناء الهجرة الإفريقية والمغاربية والإسلامية بشكل عام، أي ما يمثل عشرة في المئة من السكان، لا توجد شخصيات سياسية مغاربية من العيار الثقيل على رأس القوائم الانتخابية. ويعزو العارفون بالشأن الداخلي الفرنسي، إصرار النخب الفرنسية على إقصاء الهجرة الإفريقية والمغاربية، إلى تخوف الكثير من الأحزاب التقليدية الفرنسية من أن يحقق أبناء الهجرة اختراقات سياسية قد تقصي الكثير من رموزهم في العقود القليلة القادمة. فهؤلاء المهاجرون، وفي مقدمتهم المغاربة ممن ازدادوا في أحضان الاغتراب والتهميش، تمكنوا مع تلاحق سنوات العطاء والصمود في وجه الاستفزازات العنصرية، من رسم معالم شخصيتهم من خلال المعادلة التي أقاموها بنجاح بين الانخراط في قيم البلد المضيف وتحصين الهوية الوطنية. ويشكل هؤلاء اليوم خزانا فكيرا حقيقيا تنهل من ينابيعه الكثير من الفعاليات الاقتصادية والثقافية الفرنسية. وتمكنوا من إثبات ذواتهم وولوج مراتب هامة داخل المجتمع الفرنسي لا كوزراء فحسب، بل كفاعلين سياسيين واقتصاديين، وكمثقفين أيضا أسهموا بنصيبهم في فنون المسرح والسينما والرواية والشعر والتشكيل.. ويمكن التأكيد على أن حالة الجالية المغاربية هي أفضل بكثير مما كانت عليه من قبل. فهناك تفوقات حقيقية في مجالات الإدارة والأعمال والبحث العلمي والطب والتعليم الجامعي، وهناك أيضا حضور قوي في وسائل الإعلام إلى درجة الظهور المستمر على شاشات الفضائيات وفي البرامج الإخبارية والسياسية والثقافية، حيث أصبحت أسماء خالد وسعاد ومحمد ورشيدة لا تثير أي نوع من ردود الفعل العنصرية التي ألفناها في الثمانينات حينما كانت الأسماء العربية لا تذكر إلا في أخبار الانحراف والإجرام والتخلف والبطالة. ومع اندماج الجالية المغاربية في هياكل المجتمع بفضل النجاح في الدراسة والتميز في العمل، تحولت مواقف الكثير من الفرنسيين من الخوف غير المبرر من العربي المسلم إلى نوع من الاطمئنان، في مجتمع متنوع الأصول والتقاليد والأديان. ومع هذا التحول انقطع الأمل لدى نخب الجيل الثاني والثالث في العودة إلى الوطن الذي لم يعد بالنسبة إليهم أكثر من بلد إجازة قصيرة لاكتشاف أبناء العم والجلوس إلى الخالة والجدة. تراكمات الماضي وفي سياق هذا التحول الذي أصاب المجتمع الفرنسي في عمقه من دون أي يكون لذلك انعكاس أو تأثير ظاهري على نُخبه السياسية، وجدت الجالية المغربية ممثلة في شريحة من المثقفين والأطر، نفسها متحمسة لخوض الاستحقاقات البلدية وأمامها من جهة، تراكمات الماضي الصعب الذي عاشه جيل الآباء، وواجه خلاله العنصرية والتمييز المجحفين على المستويين التمثيلي والقانوني، وكذلك الإقصاء الثقافي والاجتماعي، واختلاف سلم القيم، وأنماط العيش والتفكير. ومن جهة ثانية، فإن صورة اضطرابات الضواحي التي تسكنها أغلبية مغاربية، والتي حدثت في خريف سنة 2005 لا تزال ماثلة في الأذهان، لأن وعود الساسة بمعالجة الاختلالات الكبيرة في هذه المناطق كانت مجرد كلام في كلام.. تحمس أبناء الجيل الثاني والثالث لاقتحام ميدان السباق المحلي، وإن كان يأتي في وقت انطوت فيه صفحة طبقة سياسية شاخت وبلغت سن التقاعد، فإنه يعتبر برأي المرشحين أنفسهم، ردا طبيعيا على حالة التهميش التي طالت آباءهم، بعد أن أصرت أطراف سياسية مختلفة على حرمانهم من اكتساب حقوق المواطنة على نحو طبيعي، أسوة بالمهاجرين الذين قدموا من البلدان الأوربية مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا. وفي غياب أي استطلاع للرأي بشأن اتجاهات التصويت في الأوساط المغاربية، لأسباب قد تكون مرتبطة بمحاولة التقليل من أهميته، أو عدم إعطائه الفرصة لكي يصبح احد المكونات الفاعلة في العملية الانتخابية، فإن الشيء المؤكد هو أن النتائج ستكون أكثر من باهتة بالنسبة للمرشحين المغاربيين وخاصة المغاربة الذين لا يتوقعون اختراقا يذكر على اعتبار أنهم ببساطة في أسفل اللوائح الانتخابية. وقد يكون للربط بين الهوية والهجرة الذي تبنته عدة أحزاب سياسية، وقعا خاصا على هذه الانتخابات بعد أن اقتنع الكثير من الفرنسيين بمن فيهم المحسوبين على التيار الاشتراكي، بأن المهاجرين في بعدهم العربي والإسلامي يمثلون الخطر الفعلي على الهوية الفرنسية. غياب الصوت العربي ثم إن نفور الفرنسيين انتخابيا من أبناء الهجرة، يقابله أيضا العزوف عن المشاركة والغياب المألوف للصوت العربي في مثل هذه الانتخابات، وأيضا غياب حركة توعية تقوم بها الجمعيات المغاربية لدفع أبناء الضواحي للتعبير عن أنفسهم على نحو تمثيلي والقيام بنهضة مواطناتية تحوّل انتفاضة الضواحي من انتفاضة سخط واحتجاج إلى انتفاضة صناديق الاقتراع. ويكشف عبد العزيز لشبر (49 سنة من أصول تطوانية)، لجريدة "العلم" أن "حالة العزوف ليست استثنائية، بل تعكس سلوك الأغلبية الساحقة من شباب الضواحي الذين يرفضون سياسة الإقصاء ويناهضونها بالمظاهرات وأعمال الشغب، لكنهم لا يبذلون أدني جهد لمواجهتها سياسيا عن طريق صناديق الاقتراع. ولا يوجد في دائرة "شوازي لوروا" الانتخابية سوى 460 اسما مغاربيا من بين 21237 مسجلا للتصويت، وهو ما يبرر غياب الاسم العربي على رأس المجالس البلدية. ويستهجن عبد العزيز، وهو محامي متدرب لم يحالفه الحظ في ضاحية "شوازي لوروا" الباريسية، بالأصوات العربية التي تشكل حوالي ثلاثة ملايين ناخب ولا تمثل برأيه "أي رقم في المعادلة الانتخابية"، فضلا عن كونها "غير ذات وزن في تحديد أعضاء ورؤساء المجالس". أما ادريس بنحمزة، صاحب مطعم من أصول ريفية، الذي اختار دخول المنافسة في دائرة "سان دوني" الباريسية، باسم الحزب الاشتراكي فيقول إن "بعض الكوميديين والفنانيين والرياضيين المغاربة يقومون بدور هام في دفع شباب الضواحي لتسجيل أنفسهم باللوائح الانتخابية، واختيار المرشحين الذين يعبرون عنهم في الانتخابات المقبلة، غير أن المواطن المغترب لا يهتم بما يجري، وهو إلى جانب ذلك موزع بين عدة اتجاهات، من اليمين التقليدي إلى الوسط واليسار الاشتراكي وحتى اليمين المتطرف، مما يعكس ضعف النضج السياسي وحالة العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية التي ستترك الجالية المغربية مهمشة طيلة عقود، على حد قوله. مسئولية الجالية والمثير في هذه الانتخابات، التنافس الشديد بين المرشحين الفرنسيين على الصوت العربي، حيث إن الجميع بما في ذلك اليمين التقليدي يبذل جهدا كبيرا لتغيير أسلوب تعامله مع الجاليات العربية والمسلمة، وهو الأسلوب الذي اتسم في السابق بفوقية واحتقارية للقيم العربية والإسلامية بدءا من مواجهة الحجاب إلى الاستهجان بذبائح العيد واعتبار الإسلام مرادفا لاضطهاد المرأة. وتطلُّع الفرنسيين للأصوات العربية يعكس من جهة الثقل الذي باتت تمثله الجالية العربية في المشهد الفرنسي العام، ومن جهة أخرى قدرتها على التأثير في مجرى الحياة السياسية في فرنسا، مما يطرح بقوة فكرة إقامة تكتل عربي قوي وقادر على مواجهة الأخطار المترتبة عن بعض إشكال التطرف السياسي والاجتماعي. والوقع أن الضعف التمثيلي المغاربي يقع جزء كبير منه على عاتق أعضاء الجالية المغاربية أنفسهم فيما أصبح عليه وضعهم، خاصة مع ما يتوفر لهم من فرص في المجتمع الفرنسي للدفاع عن حقوقهم ضد ثقافة الغيتو والتهميش والانفصال عن المجتمع المحيط. فلم تتمكن هذه الجالية حتى اليوم من صياغة مرجعية سياسية مشتركة أو مؤطرة بشكل يسمح بالتلاقي حول أهداف انتخابية محددة وتطلعات سياسية واجتماعية موحدة، وما زالت منقسمة بين من يتبنى مرجعية يمينية وآخر يسارية إلى ثالث يحاول حصر انتمائه بالحدود الجغرافية لبلده الأصل فقط.