تختنق الكلمات وتنقهر، كلما انطفأت شمعة من شموع المحبة، وفاجأتنا برحيل رجل مبدع لا يعوض. مبدع شغل الناس بذكره وأفاض ماء الإبداع بشعره. مبدع تحبه من أول نظرة، حين يشدك بسحر الكلام وطيب الخاطر. تراه ينصت إليك في إمعان ويحاورك في وداعة، من غير ما تعصب أو ادعاء. كلما اقتربت منه اكتشفت معدنه الأصيل، عريقَ المنبت، خفيف الظل، صاحب نكتة. إن سألت عن نسبه استجاب وأجاب: (مكسور الجناح) يا لمسول على نسبي إيلا ذكرتو ما شي كافي خصني نكون مربي رحات قمحي تجيب الصافي انا بكاي مخبي معروف راشق حلافي طامع يصفا لي شربي ويوصل لي رزقي وافي اللغا مضوي دربي وجنان حلتي بقوافي الحاضرين دخلو زربي من غيرهم نوري طافي إنه الشاعر والباحث محمد الراشق، واحد من الأصوات المغربية اللامعة في درب الكتابة والإبداع، وقلمٌ من الأقلام التي ساهمت بشكل بارز ومائز، في تطوير القصيدة الزجلية، بما هي شكل من الأشكال التعبيرية والجمالية، لا تقل أهمية وشاعرية عن نظيرتها الفصيحة. بموته تفقد الساحة الأدبية إحدى لبناتها الأساس. فيا موتُ مرحى لنا اللهُ فيمَنْ فَقَدْنا بهذا الزّمان البكيء! لنا الصبر حتى تُذيعَ النّوارِسُ ألحانَها في ضياءِ الشُّموس وتشْدو القوافي بعطْر الصّبوح .. و يرثي الحمامُ: "على العابِرين السّلامُ" صعيدا من شَذاهُ نعيدُ الحياةَ إلى بدْئِها مثلَ فجْرٍ أمير.. (من ديواني أطياف مائية) كان محمد الراشق صاحب مشروع بحثي في الأدب والموروث الشعبي والديني. خبر فن الملحون واستعذب متونه. ولع بالحكاية وتراث البادية. اختار الزجل تعبيرا شعريا وانتصر للّسان الدارج، في انفتاحه على اليومي والهامشي، لكن دون تكلف أو ابتذال. حرص في شعره على صدق المشاعر وجدة الموضوعات وجودة التصوير وبلاغة الإيقاع. يقول في عشقه لفن الزجل: ونا غير زجال نبت ف ضيق الحال ما بغيتهاش غير دمعة وتفوت غدا بحالك يهزمني الموت بغيت نعبّر بلا نفاق وبعيد على راديو وبواق أنا فقط من العشاق عشقتك أنت والخبز الحرفي وعلى محبتك يشهد ربي بلا ما تعرفنيش آش نكون؟ ونا غير قشة ف هاذ الكون يمكن نكون زجال عمري وهبتو لهاذ الفن ويمكن نكون بوهالي مسالي قبو مجنون لكن كلامي صادق وتسباكو متقون.. (مكسور الجناح ص58-59) محمد الراشق من طينة الشعراء المجيدين. رسم لنفسه مسارا شعريا خاصا أذكته ذائقته الشعرية والنقدية، في آن. كنت أسمع عنه وأقرأ له ما تيسر أمامي، قبل أن ألتقي به مصادفة، منذ سنوات خلت، 2006 تحديدا، ذات زيارة للمعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، حيث تبادلنا التحية وقليلا من الكلام أخبرني من خلاله أنه قارئ متابع لما أنشره، هنا وهناك، من دراسات ومقالات نقدية، فغمرني ذلك، من حيث أدري ولا أدري، بدعمه وتشجيعه. وقد توجت تلك اللحظة الرمزية بأن أهداني ديوانه "مكسور لجناح"، على سبيل الصداقة والتواصل الأدبي. ديوان رشيق قرأته بمحبة كبيرة، هزني منه طريقة الشاعر في نحتِ الألفاظ وانتقاءِ العبارة وتوظيفِ الأغاني والأمثال. يقول من قصيدة طويلة (موال الدواخل): "لالا واه يا لالا حس البارود في دكالة ما يموتو غير لْجهالة مي لحبيبة الله يهنيك" من صغري طليتو خضر واليابس يعلم به مولاه من زمان سقفنا قطر ولكلام الزين بمّاجو الداه ونا نعاين قد ما نصبر ك الطير معلق في سماه (مكسور الجناح ص 48) ثم تشاء الأقدار والمناسبات، أن تجمعنا لقاءات وندوات ثقافية في مجموعة من المدن كالخميسات والبيضاء وبنسليمان والعرائش وسلا، هذه المدينة التي كانت آخر محطة شاركت فيها إلى جانبه، حيث استمتعت بشهادة بديعة دبجها في حق صديقنا المشترك الشاعر أحمد لمسيح ذات تكريم في فبراير 2013. كان أنيق العبارة هادئ النفس سريع البديهة، حريصا كل الحرص، في قصيدته، على ركوب الحرف والتمسك به سلاحا لهزم الخوف والضعف، ومقاومة الموت والنسيان. يقول: وكلامك مرة نجمة مرة رعود وفين تهرب؟ واش دخول الحرف بحال خروجو؟ نشاورك يا شيخ لكلام آش يعمل اللي ضلوعو حروف؟ إياك تهرب اكتب اكتب اكتب اكتب راه دخول الحرف ما شي بحال خروجو..( مكسور الجناح ص16-19) محمد الراشق إنسان وديع وبديع على قدر كبير من النباهة والذكاء. أحب الحرف والقصيدة بكل ما أوتي من قدرة ومهارة. استوقفتني تجربته الممتدة في الزمان والمكان، عبر قراءة متأنية في أعماله الشعرية (الزطمة على الما)، (مكسور الجناح) و(ثريا د الروح). كما قرأت له بعض الدراسات النقدية حول الزجل والثقافة الشعبية، فوجدته في النقد باحثا رصينا يعنى كل العناية بالموضوع والمنهج، ووجدته في الشعر مبدعا جرفته سيول القصيدة، حيث الأفق المفتوح على الذات والعالم والأشياء. كابد كغيره من الشعراء ألوانا من المعاناة وضيق الخاطر وقلق الذات إزاء ما يجري حولها من تقلب وتغيرات. عندك الحق فهاذ الزمان كلشي يدور مقلوب ما تعرف غالب من اللي مغلوب بالحق سيادي وناسي يعرفو هاذا مكتوب الحق يبان يبان وخا يكون مصلوب ويبقى ديما لحجر حجر والطوب طوب واللي صح صح واللي كذوب كذوب.. (مكسور الجناح ص33) ومع كل إصدار جديد له، أجدني مشدودا باللغة والإيقاع والموضوعات، الواقعية منها والمتخيلة. ولنا أن نتأمل مجمل نصوصه وبعض عناوينه المختارة، لنجد أنفسنا أمام قامة إبداعية تحتفي بالتراث وتبحث في الإيقاع، تقلب التاريخ وترصد أحوال الناس، في محاولة لإعادة ترتيب الأشياء ومنح القارئ لحظة إبداعية شائقة، نتلمس فيها أثر الجرح ومواجع الإنسان المغربي، على حد سواء. لنتأمل انخراطه في بعض القضايا الشائكة، التي تقض مضجع الفرد والجماعة. يقول في موضوع الهجرة: شوفو حالنا قطع قلب تمثال منحوت كول يالحوت/ شواهد الكلية كل يالحوت/ الحماس والتضحية كل يالحوت/ الدرعان المنسية كل يالحوت مبروك عليك قوارب الموت تفتح ليك شهية كول يا لحوت قليني ولا فورني ولا رقدني فزيوت (مكسور الجناح ص73) هكذا لم تخلف القصيدة موعدها مع الشاعر، فكانت له خير أنيس ورقيب. قصيدة تنوعت موضوعاتها وتباينت بحسب المواقف والحالات الإنسانية. لذلك لا غرابة أن نجد في أشعار الشاعر تنويعات وإيقاعات ترصد ملامح الذات وعلاقاتها بالعالم والموت والحياة. قصيدةٌ بقدر ما تأخذك بعيدا، إلى أجواء روحانية ووجدانية، عبر أجنحة المجاز والاستعارة، بقدر ما تقترب من الأرض كثيرا، بحكم الانتماء للمكان والوطن. ما تقسنيش حيث لا قستيني تطلع من بحوري نار وتلوح جبالي حجار ويا حفيظ فين تهرب؟ من أطلس شامخ برجال، وتاريخ كل أبطال أنا المغرب كن على بال واللي برجالو ما يتغلب... (مكسور الجناح ص99) ولأن الشعر إحساس بالذات والعالم ومساءلة للواقع؛ فإن حضور القضايا الإنسانية والاجتماعية بقوة داخل منجز الراشق يعكس طبيعة الصلة التي تربطه بالمحيط. قضايا كشفت مدى هشاشة الواقع وتراجعه، بسبب تقاعس أهله عن ركب الحضارة وانشغالهم بتوافه الأمور والعادات. يقول في مقطع قصيدة: الغربي يقرا في الدار يقرا في الطوبيس ويلا ولات حتى ف "لكنايف" والعربي يخاف من البوليس وما يحشم من لا ماليف الغربي يعظم كتّابو والعربي ضيع كتابو تبقى طريقو مظلامة.. (مكسور الجناح ص29) هكذا بكم أثر شعري ونقدي، سيظل محمد الراشق، محطة إبداعية وثقافية بامتياز. وإن كان قد مات وغاب أثره؛ فإن عمله، بالتأكيد لم ينقطع. فيا محمد نم هانئا سنلتقي حتما لتجمعنا تربة واحدة. إحالات: نص الشهادة التي قدمت خلال حفل تأبين الراحل محمد الراشق، نظم من طرف جمعية المنتدى الثقافي والاجتماعي، وذلك يوم الجمعة 4 أكتوبر 2013 بمقر جمعية أبي رقراق بسلا.