الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    تقرير إسباني يكشف مفاجأة بشأن اعتراف الصين بمغربية الصحراء    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    مأساة جديدة في إسبانيا.. حريق يودي بحياة عشرة نزلاء في دار للمسنين    تخليد الذكرى ال69 لعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    المغرب يترقب اللحظة المواتية لخروج الخزينة إلى السوق الدولية        مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    الرباط.. اختتام أشغال مؤتمر دولي حول الزراعة البيولوجية والإيكولوجية    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    "كوباك" تدعم التلاميذ ب "حليب المدرسة"    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة        التحاق 707 أساتذة متدربين بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بدرعة-تافيلالت    كيوسك الجمعة | المغرب يسجل 8800 إصابة بسرطان الرئة سنويا    الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب        زيارة المسؤول الإيراني للمغرب.. هل هي خطوة نحو فتح باب التفاوض لإعادة العلاقات بين البلدين؟    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    النيابة العامة وتطبيق القانون    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نون..وما يظنون!
نشر في العلم يوم 14 - 11 - 2013

كل جُمْلةٍ ينبِس بِها فمي، أوتلتقطها أذني، لاتَمُرُّ هكذا، دون أن أفكرَ فيها طويلا، وأجْتَرَّها مَرّةً تِلْوَ أُخْرى، متسائلا بيني وبين نفسي: ماذا تعني؟..ولِماذا قيلتْ؟..وما هي خلفيتها؟..وماعلاقتها بِي؟!.. وماذا يُمْكِنني أنْ أجْنِي منها؟..إلى غيرها من الأسئلة الْمُتناسلة!..ثُمَّ إمَّا تَحْتفظ بِها ذاكرتي، أو أقذِفُها إلى سَلَّتي، فأنا لستُ من أولئك الذين يبلعون أيَّ شيء بلا هَضْم ولا تَمَثُّلٍ، وإنْ كنتُ، أحيانا، لا أبْدي تَحَدِّيا أوعِنادا، كيلا أعَكِّر مزاجي!
إنَّ الآراءَ التي يرشُقُني بِها البعضُ، تظل تطِنُّ في أذُني سنواتٍ، رُبَّما تَتَجاوز عشرين عاما، بلا مبالغة أو مُغالاة، ثُمَّ تُشْرِق، فَجْأةً، في ذهني، وأنا أغط في نومي، أو أمتطي حافلة، مثلا، لأُعيدَ فيها التفكيرَ والتَّمْحيص، وغالبا ما أرتكزُ عليها في كتابة قصة، أو أتَّخِذُها موضوعا لِمَقالٍ، أي تُلْهِمُني قضية ما!
إذن، أليس الإنسان كائنا مفكِّرا؟!..فلو حُرِمَ من نِعْمةِ التفكير والتعبير، لأصْبح حيوانا أخرسَ، لا يسعى في هذه الْحَياة غيرَ حَشْوِ بطنه بدرجة أولى، وما بين فَخِذَيْه بدرجة ثانية!
ما أنْ وضعتُ قدمي في أول مدرسة عَمِلْتُ فيها بإحدى القرى القريبة من مكناس، حتى بادَر مُعَلِّم يسألني، والْمُدير وباقي زُمَلائه يصْغون إليه بإمْعانٍ، وينتظرون مني جوابا كافيا شافيا، كأنَّهم يترقَّبون بصبر نافد نتائجَ مباراة، سيتحدد فيها مستقبلُهم ومصيرُهُم: ما الذي أغْراكَ في مِهْنةِ التعليم الشَّاقّة، وأنت من عائلة غنية، ماشاء الله، يَشْهَدُ لَها الكبير والصغير بالثَّراءِ، وبُحْبوحَة العيش في كل الْمُدن الْمَغربية والدول الإفريقية؟!
لقد أثارَ فِيَّ سؤالُه جُمْلةً من الأفكار الْمُتَخَلِّفة، الْمُتداولة في مُجتمعنا، مِنْها أنَّ كُلَّ (جَلُّونِي أوعَمْراني أوبَنَّاني...) يولَد و في (فَمِهِ ملعقةُ ذهبٍ) كما يقال في الْمَثَل السائر.كأنَّ الغنى والفقر يُوَرَّثان، أوكأنَّ الأولاد والأحْفاد سيقتفون خُطى آبائهم وأجدادهم في فقرهم أوثرائهم، ولنْ يُفيدَهُمُ جِدُّهُمْ وكَدُّهُمْ، ولامواهبُهم وميولُهم، وقُدُراتُهُم العقلية وتَجاربُهُم الْمُكْتسبة، لأنَّ القدَر، في ظنهم، أراد لَهُمْ أنْ يكونوا كَذَلِك، وأراد للآخرين أن يكابدوا الفاقة والْخَصاصة والْحِرمان، كَمَنْ يرِث اللونَ والطول والقِصَر..وحتى هذا الشكل من الإرث فيه نظر!
وبالنسبة لي، فَإنَّهُمْ يقيسونني ببعض الأغنياء الذين يَحْتَلُّون الطَّليعةَ الْمالِية مغربيا وعربيا وعالَمِيا، ويَحْشُرونَني بينهم، لِمُجَرّد أنني أحْمِلُ اسْمَهُمُ العائلي. وبالتالي، يعُدُّونني مُنافِسا ومُضايِقا لَهُمْ في مهنة التعليم، وما كان لِكَتِفي لتُزاحِمَهُمْ فيه!..وهُمْ لا يَدْرون، أولا، أنني عانَيْتُ الشيءَ الكثيرَ من شوكة الْفَقْر، التي غَرزَتْ دَبُّوسَها الْحادَّ في لَحْمي لِحَدِّ عَظْمي؛ إذْ توفي والدي، وأنا طفل صغير، تاركا وراءه أفواها مفتوحة على الْمَجْهول، لَمْ تَجِدْ من يسُدُّها سوى أمي، التي كانتْ تشتغل، تارةً خادمةً، وتارة بائعةَ ملابس بالية، وبالكاد توفِّر لنا قوتا، في زَمَنٍ لَمْ يَكُنْ يُسْمَح للمرأة بالْخُروج من بيتها للعمل، أو للتسوُّق، أو حتى الْمُرور في الطريق العامِّ. كما أنَّ أقرباءَنا حرمونا من كل شيء، حتى الأغطية، فكنتُ أتكوَّمُ في حِضْنِ أمي، تَحْتَ غِطاءٍ واحدٍ لأُدْفِئَ جِسْمي!..وبالْمُناسبة، أذكر أن قابلتي (مولدتي) التي كنتُ أعُدُّها بِمَثابة أمي، نزلتْ، ذات ليلة شتائية، ضيفةً عندنا، ولَمْ يكُنْ لنا غطاءٌ إضافي، ويستحيل أن تعثر عليه لدى الْجيران، وهُمْ مثلنا (ربَّنا خلقتنا) فكان لابُدّ أنْ نَجِدَ حلاًّ، لأنه لا يُعْقَل أنْ تَقْضِيَ الليلَ كلَّه عاريةً، فانْحَشَرْتُ، أنا الصغير النّحيل الْجِسم، بينها وبين أمي.وفي الفجر، نَهضَ شيْئي، مستجيبا لنداء الدفء والنعومة، فأحسّتْ به، وبدأتْ تَبتعدُ عني شيئا فشيئا، وهي تردد: وَيْلي وَيْلي، ما هذا؟!..اللَّهُ يَخْزيك، يا شيطان!
ولَمَّا شعرتْ بالبرد يلسَعُ ظَهْرَها، عادتْ لتحتكَّ بي، وهي تُرَدِّد: شيء مُنْتَصب خير من برد قارس!
وكنت، بين الفينة والفينة، أُطْلِق ضحكةً خفيفةً، فتظنني أضحك مع الْمَلائكة، وليس عَمْدا، أوناتِجا عَنْ شُعوري بِما أفعله لَها، لأنَّ الاعتقاد السائد في الوسط الشعبي، أنَّ ضحِكَ الطفل في النوم، هو لقاء بينه وبين الْمَلائكة، ولا يَجوز في هذه الْحالَة، أنْ يوقَظ، أو تُضاءُ الغرفة، كيلا يُمَسَّ بِمَرَض عقلي!..ويبدو أنَّه لَمْ يغمُض لَها جَفْنٌ طَوالَ تلك الليلة الْمَشْؤومة، لأنَّها باتتْ تتقلّب على جَنْبَيْها. وصباحا باكرا، نَهَضَتْ من نومِها قلقة، فلَبِسَتْ بسرعة جِلْبابَها، وغطَّتْ بالقُبِّ رأسَها، ثُمَّ أسْدَلَتْ لِثامَها على وَجْهِها. وقبل أن تنصرف، وشْوَشَتْ في أذن والدتي على عتبة باب غرفتنا، وهي تودِّعُها باسِمةً، فيما كنتُ أسْتَرِقُّ السَّمْعَ من فُرْجة الباب: نصيحتي لكِ، يالَلاَّ فاطمة، أن تُحاولي توفيرَ غطاءٍ لينام ابنُك وحده، فتبارك الله أصبح رجلا، يعرف كلَّ شيء!..كما أنصحكِ، منذ الآن، بألاَّ تأخُذيه معك إلى الْحَمَّام، وليُرافِقْ شقيقَه الكبيرَ سيدي عبد الوهاب!..أمّا أنتِ، فَلَمْ تدَعيني أذوق ولو ساعة من النوم، كأنك جندية في الْحَرب العالَمية الثالثة، إذْ أمطرتِني بفُسائك، حتى عَمِيتْ عيناي!
اِحْمَرَّتْ وَجْنتا أمي، فَحَنَتْ رأسَها لَحْظة، كأنَّها تقرأ مابين سطور نصيحة قابلتي، ثُمَّ رفعتْه قائلةً لتغير مَجْرى الْحَديث: لَيْتَك، يا لَلاَّراضِية، تزورينَنا ثانيةً، لتُؤْنسينا بأُحْجِياتك، وتُمْضِيَ معنا عيدَ الأضْحى!
أجابتها ضاحكة: إنْ شاءَ الله!..سآتي قُبَيْل العيد، وسأُحْضِر بَطَّانيتي الصوفية، كيلا يفْسد وضوئي الكبير!
سألتها أمي ذاهلةً: أصادقة في كلامك، أم تَمْزحين معي كعادتك؟!
رَدَّتْ عليها بسؤالٍ: ألَمْ أقلْ لكِ إنَّه أصبح رجلا، وأيَّ رجلٍ؟!..لوكنتُ شابّةً لَخَطَبْته منك، ودفعتُ لك في الصَّداق ما تشترين به عَشْرَةَ أغْطية!..كفى كلاما، ودعيني أذهبْ إلى الْحَمَّام، قبل أن يُدْرِكني الظُّهر!
إذَنْ، أين هذا العبد الفقير، الذي يشترك مع أمه وقابلته في غطاء يتيمٍ من ذوي اليد الطولى في الْمال؟! ..وثانيا، يعتبرون (مِهْنةَ التعليم) مَوْقوفةً عليهم، بل يَعُدونَها شُغْلَ مَنْ لا شُغْل له، لَمْ تُخْلَقْ إلا للضُّعفاء والبُسطاء، ولفاقدي الأمل في (مِهْنةٍ أفضَلَ) ترفعهم إلى السماء السابعة، ليُحَقِّقوا بِها الْمُعْجِزاتِ ويَرَوْا النَّبوءاتِ!..ولولا صهري الراحل، الذي أدخلني الْمدرسة، وأنفق الشيء الكثير على تعليمي، لكنتُ نسيا منسيا!
ما علينا!..فاجأني السؤال، ولَمْ أجِدْ ما أردُّ به، سوى أنْ أجيبه بِغُموضٍ: حقا ما تقول!..لكنني أسعى إلى شيء آخر، رُبَّما ستعرفه مستقبلا!
تبادل مع زُمَلائه الغَمْز في دهشة، ثُمّ أردفَ قائلا: ماذا تقصد؟!..أفْصِحْ أكثرَ!
ضِقْتُ ذَرْعا بِفُضوله الزائد، فأقْفَلْتُ فَمَهُ بسؤالٍ حاسِمٍ، مِمَّا جعل الْمُديرَ يَجْذبني لنذهب إلى بيته:
باللهِ عليك، قُلْ لي: لِماذا تريد جوابا فصيحا كصوتِ الديك؟!..ماذا ستجْني منه، يا تُرى؟!..ألا تُشْغِل بالَك بأسئلة كُبْرى تَهُم البلادَ والعِبادَ؟!.
تراجع إلى الوراء، كأنه شعر بِي أتَّهِمُه بالتَّدَخُّل في ما لا يعنيه، ويَحْشُر أنفَه في ما لا يُرْضيه، ورُبَّما خشي أنْ يكون لي دور آخر في الْمَدْرسة غير التدريس. وفي تلك الْحِقبة، كان الناس في كل الْمُدن والقرى، يشُكُّون حتى في الْمَصابيحِ الْمُتدَلِّيةِ من سقوفِ بيوتِهِمْ، بِدَعْوى أنَّها تلتقِطُ أحاديثَهُمْ بتفاصيلها الدقيقة، لا تُفَرِّط فيها من شيء، ما يدلُّ على درجة الْخوف والرُّعْب والرَّهْبة الْمُتَفَشِّية آنذاك، أي أن الواحد منا كان لا يستطيع أن ينتقد الوضعَ حتى بين حيطان بيته!..كما كانوا يُوَزِّعون الاتِّهاماتِ الْمَجَّانية في كل الاتِّجاهات، يَمينا وشِمالا بلا حِسابٍ، ويُصَنِّفون بني آدَمَ؛ فيجعلون هذا معارضا، وذاك مواليا، ما جعل كافّةَ الْمُعلِّمين يَحذَرونَني ويَحْتاطون مني، ويضعون بينهم وبيني مسافةً، خُصوصا وأنَّ اسْمي الكامل ينطبق على الكاتب العام لنيابة التعليم، كما كتبتُ في مذكراتي السابقة. ولَمْ يَهْنأْ بالُهُمْ ويرتاحوا مني تَماماً، وأنا كَذَلِك معهم، حتى انتقلتُ من تلك الْقرية إلى مدينة مولاي إدريس زرهون، وهناك ستبدأ معاناة أخرى!
كان عليَّ أن أختار طريقا من اثنين، وليس لي أيُّ خِيار: إمَّا أنْ أسْتَمِرَّ في هذه الْمِهْنة، فأكسب رضا ضَميري، وأحافظ على مبادئي، وإمّا أنْ أعْمَلَ في مَجال التِّجارة، فأخوض بدوري في عالَمِ الأعْمال والْمال، و(أرَبِّي الرِّيشَ) كما يفْعَلُ السِّمانُ من الطواويس والدِّيَكةِ. وبِما أنَّني كنتُ مَشْحونا بالقيم الوطنية والقومية، والْمُثُل العليا، والْعَمَل النضالي، مِمَّا قرأته في كتب سلامة موسى ونيقولايْ كوكول..ومِمَّا نَهَلْتُهُ في اللقاءاتِ الْحزبية والنقابية، وأنشطة الْمُنظمة الفلسطينية التي تقدمها من حين لآخر..فقد اخترتُ التعليمَ على سائر الْمِهَن والْحِرَف، ولو كانتْ ستُدِرُّ علي أموالا طائلةً!
كيف أتنكّر لِهَذِه الْمِهْنة، التي ستُمَكِّنني من مُمارسة نشاطي الثقافي والتربوي والنضالي، وأنا أرى الأميةَ تغْمُر بلادي من قُنَّةِ رأسِها إلى أخْمَصِ قَدَمِها؟!..كيف لا، وأنا أُدْرِكُ أنَّ التعليم مَنْفَذ أساسي لكل تقدم وتطور في عالَمِ اليومِ؟!..عِلْماً بأنَّني سأجْتاز فيه ظُروفا شاقةً، تُمَيِّزني عن باقي أفراد أسرتي!..فأخي الذي عاد من فرنسا بثَرْوَةٍ كَوَّنَها من عَرَقِ جَبينهِ، أصبح صائغا للذهب في مكناس، وبنى له دارةً فَخْمةً بالشيء الفُلاني، وشُقَقا هنا وهناك. بل ألَحّ عليَّ أنْ أستقيل من مهنةٍ، لا أحْصد منها إلا "شكرا" وأشتغل معه نَظيرَ أجْرٍ كبيرٍ، فرفضتُ، وفضَّلْتُ أنْ أعيش مع الأرَضةِ بين الكتب والْمَجلاتِ، أمْتَحُ منها الأدب والعلم والْمَعرفة حينا، وأنْ يُزَجَّ بي في الزَّنازِن حينا، أو أعانِيَ من هاجِس الْمُلاحقة العلنية والسرية حينا آخرَ. لا لشيءٍ، إلاَّ لأنَّني أساهِمَ في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي تنظيم مُحاضَرات وندوات ثقافية، وأساهِمَ في العمل النقابي. و رغْم فقري، لَمْ أكُنْ أُبالي بِالْمال ولابالترقية ولابالْمَظاهر الْمادية، التي كان زُمَلائي يلهثون وراءها، ويتباهون بِها، فيكفيني أنْ أحْصُل على لُقمةٍ، وأقرأ كتابا، أو أشارك في ندوة...!
وهنا تَحْضُرني طريفةٌ للشاعر اللبناني خليل مطران، تنطبق عليَّ تَماما. أرسله والدُهُ إلى بيروت، وهو في مُقْتَبَلِ العمر، ليُكْمِلَ دراسته في مَعْهَدٍ للتِّجارة. فنظَمَ الابنُ خليل قصيدةً شعريةً، يُثْني فيها على فضل أبيه وجَميله، وعنايته بتربيته وتعليمه، ثُمَّ أرسلها إليه، ظَناًّ منه أنّ أباه سيطير فرحا بِها. ولَمَّا توصَّلَ الوالدُ بالقصيدة، أجْهَشَ بالْبُكاء، لأنَّه أحَسَّ أنَّ ابنهُ لنْ يُحَقِّق له رغبته في أنْ يكون تاجرا ناجِحاً، يُبْرِم الصَّفقاتِ التِّجارية، ويلعب بالأموال في الأسواق. فكتب له رسالةً، ينصحه فيها: ((اُتْرُكْ عنك، يا بُنَيَّ، الشعرَ، فما رأينا على ظهر شاعرٍ قَميصا))!
لكنَّ خليل مطران لَمْ يعمل بنصيحة أبيه، فأصبح شاعرَ القُطْرَيْنِ (لبنان ومصر) وإنْ كان خاوِيَ الْجَيْبَيْنِ!
إنَّ الطريقة التي نَهَجْتُها لنفسي مَحْفوفة بالفقر والْحِرْمان والْهَواجس الْمُقْلقة، ليلَ نَهارَ، لكنني كنتُ مقتنعا بِها، راضيا عنها، لا أستطيع عنها فكاكا، كأن هناك شيئا قويا يَجْذبني، ويشدني إليه. والْمُعلِّم الذي باغتني بسؤاله الْمُحْرِج، لَمْ يَكُنْ ليُدْرِكَ كُنْهَ رغبتي وبُعْدَها الوطني، وحتى لو أردتُ أنْ أشْرَحَها له، فسينعتني بالطائش أوالْعَنيد أوالقاصر، إلى غيرها من الأوصافِ والنُّعوت البذيئة، ليبرِّر جَهْلَهُ وحَيَوانِيَّتَهُ، لأن الرغبة في تَحْقيق شيء معنوي، تعاش ولا تُفْهَم!.. يقول فولْتيرْ: ((نَحْتاج إلى عصور كي نُدَمِّر رأيا سائدا؟!))!
ولا تَخالَنَّ، سيدي القارئ، أنّ مشكلتي مع شركائي في الْمَدرسة، انْتَهَتْ بِمُرور حوالي اثنين وأربعين عاما!..لا لا، فَما زالتْ تُطاردني لليوم، مثل حذاء
الطنبوري، بل وَرَّثْتُها لأبنائي!..ففي السنة الْماضية 2012 حصلتْ ابنتي على شهادات عليا في الْمُحاسبة، والتسيير البنكي، والنظام الْمَعْلوماتي، وتقدّمتْ بطلب للعمل في إحدى الشركات، وأثناء الْمُقابلة مع مديرها التقني، تفاجأتْ بسؤاله الْمُحْرج:عَجَبا لكِ!..ماذا تفعلين هنا؟!..أنتِ من عائلة غنية، كان عليها أن تتدخل لتعملي في بنك أو في شركة لَها، بدون وجَع الرأس!
جذبتْ من يديه ملفها قائلة: ألَمْ تسألْ نفسك: لِماذا أعْشَتْ هذه الشابةُ عينيها في الدراسة سنواتٍ طويلةً؟!..لن أرضى أن أحظى بوظيفة عبر الوساطة!
كانتِ الأيامُ القليلةُ التي أمْضَيْتُها في تلك الْمَدْرسة، كافيةً لتؤكِّد لي أنَّني أحرُثُ في بَحْرٍ، وأنفخ في رماد، وأصيح في واد، وأنّ طُموحاتي وآمالي مُجَرَّد أوْهام واهيةٍ، لكنني لَمْ أتراجعْ إلى الوراء، وبقيتُ أسير في طريقي بالأفكار ذاتِها، ولَمْ أتنازل عنها قَيْدَ أُنْمُلةٍ، إلى أنْ تَقاعَدْتُ عن العمل!
في تلك الأيام، وأنا مازلتُ في بداية الطريق، صَمَّمْتُ على أنْ أُؤدِّيَ عَمَلي بدقّةٍ وتَفانٍ، وبإرادة الشباب، وأنْ أعتبرَ هؤلاء الأطفالَ بُذوراً طيبة لزراعةٍ حسنةٍ في أرضِ بلادي، ولايَهُمُّني الآخرونَ وظنونُهم. وللحقيقة والتاريخ، أقول إنّ الثورة السوفياتية تركتْ في نفسي وفكري وسلوكي أبلغَ الأثَر، لأنَّ خُطْوَتَها الأولى، كانتْ هي نشْر التعليم في كل الْمُدن والقرى، والسهول والْجِبال، لا فرق بين أطفال الْحَواضِر والبوادي، ولا بين أبناء الأغنياء والفقراء. الكل سواسية كأسنان الْمُشْط!..لذلك أحْبَبْتُ أطفالَ هذه القرية حُباًّ عارما، فكنتُ أحضُرُ إلى الفصْل الدراسي باكراً، قبل التلاميذ، لإعداد السبورة، ووسائل الإيضاح من صور وموادَّ، ثُمّ أدخلهم واحدا واحدا لأُلَقِّنَهُمُ الأناشيدَ، ريثَما يرِنُّ الْجَرَس إيذانا ببدْء الدراسة، أو أوَزِّع عليهم قصصا يقرأونَها، أو مشاهد مسرحية يُمَثِّلونَها.كما كنتُ أزور الغائبين منهم في أكواخهم، لأطَّلعَ على أحْوالِهِمْ. فكان بعضُ الْمُعَلِّمين، يتلصَّصونَ عليَّ مِنْ بين شُقوقِ وثُقوبِ النَّوافِذِ الْمَخْرومة الْمُسَوَّسة، وهُمْ يتغامزون ويسخرون مني، فأسْمَعُهم يتهامَسون هازئين: هل يظن نفسه جان جاك روسو، أوجونْ ديوي؟!..مسكين، وأي مسكين هذا الْمَديني الْمُغَفّل؟!..إنَّهُ يَمْلأ فَراغَه بتلهية الشياطين الصغار! ..كيف يتعلم من يأتي الْمَدرسةَ برجلين حافيتين، ومُخاطٍ سائل، وبطنٍ خاوٍ...؟!
وكنتُ أتساءلُ بيني وبين نفسي حائرا: هل فِعْلا أنا أسير في الطريق الْخاطئ؟!..لِماذا لا أقْتَدي بِالذين سبقوني في هذه الْمِهْنة، وهُمْ يَمْتلِكون خِبْراتٍ أكثرَ مِنِّي، فأنْزَوي وأنْكَمِش مثلَهُمْ، وأعتني بِحالي، بَدَلَ الْحُضور باكرا، وإرْهاقِ ذاتي، وإجْهاد فكري بلا أيِّ طائلٍ يُذْكَر؟!
ويوماً ما، كنتُ، في فترةِ الاسْتِراحة، جالسا بعتبة باب حُجْرتي الدراسية، أطالع كتابَ ((الأيام)) للدكتور طه حسين (وهذه عادتي، لَمْ أحِدْ عنها مدى السنين الأربعين التي قضيتها في التعليم، إذْ كنتُ أغتنم رُبعَ ساعةِ استراحةٍ للمطالعة صباحا، ورُبعا آخرَ مساءً، وهي عملية حسابية قُمْتُ بِها. فقراءةُ عشْرِ صفحاتٍ يوميا، حصيلتُها في نِهاية السنة الدراسية حوالي ألف صفحة، بعد حذف العطل الدورية والصيفية. وتصوروا معي كم صفحةً في أربعين عاما، فَضْلا عن الصفحاتِ الْمَقْروءة في ساعاتِ الفراغ؟!)!
بينما أنا هائم في أيام طه حُسين، إذْ بأحَدِهِم قصير القامة، مُحْدَوْدَب الظَّهْر، مثل قِنِّينة غاز، يُباغتني، فيجذب الكتابَ من بين يدي بصَلافةٍ، كأنه يُلاعبني، ثُمَّ أخذَ يقلبُ صفحاته في سُخْرية، صفحةً صفحةً، ويتظاهر بقراءتِها، وأنا أتفرَّس هذا الْمَخلوقَ بأعصابٍ هادئة. لَمْ أعْترِضْ بَتاتاً، أو أعبِّر عن
تَبَرُّمي من معاملته، وتقبّلْتُ سلوكَه الفَظ ببرود تامٍّ، لأنَّ هدوئي وطَبْعي اللَّيِّن شجّعاه على ذلك التَّصرُّف!..حَدجني بنظرةٍ خبيثة، ثُمَّ تساءلَ هازئا:
يا للعجب!..بصير يقرأ لأعْمى؟!
تعمّدتُ ألاّ أظهر له توتري، فقلتُ ضاحكا: لاتنسَ أنَّ الأعْمى عَميدٌ للأدب العربي، ووزير للتعليم، يُسَيِّر ملايين الْمُبْصرين من موظفين وتلاميذ، ويُدَبِّر أمورَهُمْ، كما حضر من مصر إلى الْمَغرب في سنة 1958 لينبِّهَ أمثالَك إلى فضائل القراءة، فأين أنا وأين أنتَ معي من قامة الرجل العِمْلاقة..!
قاطعني، وهو يُحَمْلِق في طفلة بدينة تلعب في الْفِناء مع صديقاتِها (كانت الْمَدرسة تستقبل أطفالا كبارا، بدون تَحْديد السِّنِّ): خُذْ، خُذْ كتابَك، وانْظُرْ جيدا، أيُّها الأعْمى!..أعِوَضَ أنْ تُمَتِّع عينيك بِالْمُؤَخِّراتِ الزَّاهِياتِ التي تُعْرض قُدَّامَك، تُزْجي أوقاتَك في مُطالعةِ هذه الكتب الْخَيالية؟!
نَهضْت واقفا، ووضعتُ الكتابَ على الكرسي، ثُمَّ صرخْتُ في وَجْهِهِ، وصوتي أكثر غِلْظةً، وهذه ليستْ عادتي، لكنَّ الدَّمَ غلا في عُروقي، ولَمْ أرَ أسلوبا آخرَ لائقا، غير أنْ أقول له بصوتٍ عالٍ: اِمْشِ اِمْشِ من أمامي، أيَّتُها الْبَهيمة الْجَرْباء، وإلاّ كَنَستُ بك هذه الساحة الْمُتْرَبة، أمام أعْيُنِ التلاميذ!..أنتَ لستَ أهْلاً للعمل في هذه الْمِهْنة الشريفة، التي تصنع أجيالا للوطن!
لَمْ يَكُنْ ينتظِرُ مني هذه الصّرخةَ، فأحسّ بأنَّ روحَه هَبَطَتْ بين قدميه. زَمَّ فَمَه، وطأطأ رأسه خَجَلا، وشفتاه ترتعشان، وعيناه تَجْحَظان، حتى صارتا في حَجْمِ كأسين، ثُمَّ سار بِخُطى مضطربة، نَحْو أصْدقائه، عفوا، أمثاله!..وما أنْ تناهى صراخي إلى الْمُدير، حتى هَرْوَل إلَيَّ يُهَدِّئني ويسألني:مالك؟!..هل أقلقك ذاك السَّافل؟!
أجبته قلقا: أجل!..بالله عليك، أجِبْني بصراحة: كيف تثقون في ذاك الْحقير، فتسمحوا له بتعليم هؤلاء الأطفال الأبرياء، أمل بلادنا في الْمُسْتَقْبَل؟!..أين أنت، أولا؟..أين جَمْعية الآباء، ثانيا؟..أين الْمُفَتشون، ثالثا؟..أين نيابة التعليم، رابعا؟..أين الوزارة التي تُفَرِّخ هذه العينة الْمُشَوَّهة من الْمُدرسين، خامسا؟..كلكم غائبون!..هل تدري ماذا قال لي؟!
هَزَّ رأسه موافقا، وهو يُرَبِّتُ على كتفي: أجل!..أعرف جيدا ذاك الْحَقير!..إنَّ عينيه زائغتان، لا تستقران أبدا، إلا على الْمؤخرات السمينات!..والْمُصيبة أنّ عقلَه أفْرغُ من قلبِ أمِّ موسى، فَهُو لا يَحْفَظ من الشعر إلا ما قاله أبو نواس في الغِلْمان!..ويا ما نصحته بأنْ يركِّزَهُما على الفتيات الكبيرات السِّنِّ، فيتأهّل بإحداهن، فَلَمْ يَعْمَلْ برأيي!..(يقصد ابنته الْمُطلقة)!
كم يلزمُك، ياوطني، كي تنهَض من كَبْوَتِك؟!
فهذه عَيِّنَة من الرِّجال الذين يُعَوِّل عليها شعبُك!..لكن، لاينبغي أنْ نضع البيضَ كلَّه في سلة واحدة، فَهُناك ذوو الضَّمائر الْحَية، لاتَقِرُّ عُيونُهُمْ، وتسعد قلوبُهُمْ، إلابِخِدْمتك!..غير أنَّهُمْ، ويا لأسفي الشديد، قلائلُ...!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.