لا شك أن الأزمة التي يعرفها الاقتصاد الوطني، والتي أكدها التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وإن انحصرت -إلى الآن- في مواجهة العجزين: عجز الميزانية العامة وعجز ميزان الأداءات، فإنها تثير تساؤلات عميقة حول قدرة الحكومة الحالية على تدبيرها بالفعالية والنجاعة الضروريتين لابتكار حلول عملية وسبل الخروج منها بأقل الخسائر. فإذا كانت الحكومات السابقة قد اعتمدت في تدبير الأزمات، على التوقع الاستباقي واليقظة وجعل المالية العمومية في خدمة التنمية الاقتصادية بهدف تحصين الاقتصاد الوطني وتعزيز مناعته وكذا وضع والشروع بأجرأة استراتيجيات قطاعية إرادية للاستعداد لما بعد الأزمة، فإن الحكومة الحالية، وعلى مدى سنة ونصف، أبانت على ضعف صارخ في إدارتها للاقتصاد الوطني وقصور فادح في تدبير إكراهات أزمة ترتبط أكثر بأزمة اقتصادية إقليمية ودولية تتفاقم، وتداعياتها على بلادنا ستتزايد خلال السنوات المقبلة. من دون شك، إن إدارة الأزمات تحمل في طياتها مقومات النجاح في تجاوزها كما تحمل أسباب الفشل. لقد كان من المنتظر، أن تعمد الحكومة إلى البحث عن ذلك النجاح من خلال مراجعة شاملة للمالية العمومية والوقوف على مكامن الخلل التي يترتب عنها ذلك الضعف الهيكلي للمداخيل الجبائية والارتفاع المتواصل لنمط عيش الإدارة، وكذا كان من المنتظر بلورة رؤية اقتصادية واضحة لتعزيز مناعة اقتصادنا وجعله أكثر قدرة على إنتاج النمو وفرص الشغل. لكن وأمام محدودية قدراتها في تدبير الاقتصاد الوطني، اختارت الحكومة الاستمرار في منطق "الحملات الانتخابية" وتبرير الواقع بتحميل الحكومات السابقة مسؤولية عدم أجرأة الإصلاحات الضرورية وإطلاق الشعارات الجوفاء التي تدغدغ مشاعر الفئات المجتمعية، التي هي في حاجة حقيقية إلى تحسين فعلي لظروف عيشها، مما أدى إلى إفراز حالة من الانتظارية وفقدان الثقة بين كافة الفاعلين والفرقاء من جهة وبين الحكومة من جهة ثانية ولعل أحد تجليات سوء تدبير الحكومة لاكراهات التوازنات الماكرواقتصادية يكمن في جعل وضعية المالية العمومية أسوء مما كانت عليه، بل وتزداد سوءا. فنتائج تنفيذ قانون المالية لسنة 2012، توضح مدى الوضعية الصعبة التي أصبحت عليها المالية العمومية. وفي هذا الإطار، نسوق بعض المؤشرات الماكرواقتصادية: تفاقم عجز الميزانية من 53.9 مليار درهم إلى 63.3 مليار درهم أي ب 17% ما بين 2011 و2012، حيث انتقل العجز من 6,1% إلى 7,3% من الناتج الداخلي الخام، تراجع صافي الموجودات الخارجية سنة 2012 إلى 4 أشهر من الواردات من السلع والخدمات عوض 5 أشهر سنة 2011، ارتفاع دين الخزينة، الخارجي والداخلي، من 431 مليار درهم سنة 2011 إلى 494 مليار درهم سنة 2012، حيث ارتفعت نسبة دين الخزينة من الناتج الداخلي الإجمالي، من 53 %سنة 2011 إلى حوالي 60% سنة 2012. وخلال سنة 2013، استمر مسلسل تصدع توازنات المالية العمومية، فإذا أخذنا السبع أشهر الأولى من هذه السنة، فإن عجز الميزانية يتفاقم من 24,3 مليار درهم إلى 39,5 مليار درهم أي بزيادة تفوق 62,5% ما بين يوليو2012 ويوليو 2013. وهنا لا بد أن تستوقفنا بعض التطورات المقلقة، التي تم تسجيلها أيضا خلال شهر يونيو المنصرم، لبعض بنود الميزانية: تفاقم عجز الميزانية على الرغم من تقلص نفقات المقاصة ب5,2%، ارتفاع نفقات التسيير والمعدات ب23%، مما يدل على أن الحكومة لم تقم بأي مجهود لتقليص نمط عيش الإدارة، وذلك منافي لتصريحاتها المتكررة بشروعها في التقليص من نفقاتها، في المقابل عمدت إلى وقف تنفيذ 15 مليار درهم من الاستثمارات العمومية على الرغم من التأثيرات السلبية لهذا القرار على الاقتصاد الوطني، تراجع المداخيل الضريبية ب2,5%، حيث تراجعت مداخيل الضريبة على الشركات ب11,7%، مما يدل على ضعف وتيرة النمو الاقتصادي. وتراجعت كذلك مداخيل الضريبة على القيمة المضافة ب0,5%، وهو مؤشر على تقلص استهلاك الأسر نتيجة ارتفاع الأسعار، وبالتالي على الطلب الداخلي الذي لا يزال ركيزة أساسية للنموذج التنموي لبلادنا، وبذلك يبدو أن الأزمة الاقتصادية بدأت تنتقل من أزمة توازنات ماكرواقتصادية إلى أزمة نمو اقتصادي، وما يعنيه ذلك من اضطراب شديد في خلق الثروة والتشغيل. لقد عمدت الحكومة إلى معالجة اختلالات المالية العمومية باللجوء إلى الاقتراض الخارجي والداخلي، وهي بذلك تلتجئ للحلول السهلة متجاهلة أو متناسية لأبسط قواعد التدبير السليم للميزانية ولأبجديات السياسات الميزانياتية. الاقتراض سيوقع ماليتنا في الدائرة المفرغة: عجز يتفاقم يقابله اقتراض يستفحل وهكذا... مما سيؤدي بالاقتصاد الوطني على المدى المتوسط إلى دخول دائرة الركود. وهكذا، فالأزمة الحقيقية هي في كيفية تدبير ومعالجة اختلالات المالية العمومية. الم يكن من الأجدر بالحكومة العمل على تحسين المداخيل الجبائية باستخلاص الضرائب المتراكمة(الباقي استخلاصه) والتقليص من الاعفاءات والامتيازات الضريبية؟ الم يكن من الأجدر بالحكومة إجراء فحص دقيق لنفقاتها في اتجاه تقليص نمط عيش الإدارة؟ الم يكن من الأجدر بالحكومة مواصلة أجرأة الاستراتيجيات القطاعية بالفعالية الضرورية ووضع رزنامة من التدابير العملية والناجعة للمحافظة على وتيرة النمو الاقتصادي ولما لا، رفعها، كما التزمت بذلك في برنامجها الحكومي. إننا أمام اختلالات تتم معالجتها بأخطاء فادحة وبطء مريب، سرعان ما ستتراكم لتؤدي إلى اختلالات هيكلية لن تساهم إلا في تعميق الأزمة.