الشجرة التي تعلق أغصانها في السماء، تأتيها العصافير والرياح، تداعبها النسمات، يمنحها علوها شيئا من الرفعة والسمو، هذا الصعود إلى الأعلى لا يمحو حقيقة ثابتة؛ هي ارتباطها الوثيق بالأرض. بل إن حياتها رهينة بتلاحمها الحميم بتراب الأرض. وليس بتبره..تماما كالشاعر الذي يحلق بأنفه في سماء الوهم مترفعا عن الشوارع الخلفية، تعاليا، وليس انشغالا عن أمكنتها وكائناتها وفضاءاتها. أستغرب كيف ينبت الآباء ? آباؤنا ? من منزلقات التاريخ الأدبي، متبوعين بالتطبيل والتزمير والشطح على الركح .. والدفع عموما. هو ذلك الدفع ما خلف خرابا عميقا وشرخا صارخا بين مواقع خرائطنا الأدبية. أستغرب أيضا لشاعر يدعي دون حياء، أنه شاعر عالمي، بينما صوته يخرج مبحوحا لا يتجاوز مرمى قدميه، خطواته تتعثر في إشكالات الوجود المجاني الذي يرتفع على أرض متحركة. وبقدر ما تنجلي تهيؤات الوهم حين تصغي أو تقرأ قصائد شعراء المفرقعات، بالقدر ذاته يزداد السؤال إلحاحا حول معنى هذه المفارقات التي تتراكم في مشهدنا الأدبي. هذا السؤال الأساس يحيلنا إلى أسئلة عدة تفرض نفسها على المتتبع، ذاك الذي ينظر إلى المشهد في مساحاته المختلفة.. طبعا ليس بمنظار الإعلام وأنوار المفرقعات الموسمية، بل بالعين المشتعلة الباطن (1). لماذا يتنكر المركز للهامش، رغم الحاجة إليه في بناء وجوده كمركز أولا، واستمرارية هذا الوجود ثانيا؟ الشعراء الذين يجلسون على رأس المائدة، كانوا ذات افتقار يتنفسون هواء المؤخرة (2)، لماذا هذا الجحود لحليب الأمهات؟ الشوارع الخلفية هي المعنى الآخر للمدن السفلى والمقاعد الخلفية ... هي الهوامش، المؤخرة .. الظل. وأعود إلى راس المائدة، حيث يقول الروائي العربي عبد الرحمان منيف: «بعض الناس يستحقون الاحتقار، وآخرين الاحتقار الشديد، وبعضهم يجب أن يضرب بالحذاء، لأنهم مدعون وأغبياء وعديمو الموهبة، ولكنهم، مع ذلك يفرضون أنفسهم ويجلسون على راس المائدة !» (3). ونحن في سياق موضوعنا يمكننا الحديث عن الموهبة الأدبية وأعني بذلك القدرة على الإبداع. هنا تبرز قدرة شعراء الشوارع الخلفية في التقاط الصورة من المشاهد اليومية، وتحويلها إلى لوحة شعرية بامتياز، الأصوات التي تحدثها جلجلة كتاباتهم قد تخمد ضجيج العالم. غير أنها تصدر عن الأمكنة وذوات خارج التصنيف (الأممي) وبعيدة عن ألغام الإعلام العابرة للقارات. يؤسفني أن يضيع شعراء يبدعون في الشعر، أصواتهم مختلفة تماما. يأبون المشي على إيقاع حوافر الحصان، لا يأبهون لآثار حوافر خيول القوافل السابقة، أن تبدع يعني أن تكون واثقا من نفسك وإمكاناتك، قادرا على تحريك الثوابت .. أي أن تفتح صدرك لكل تيارات الهواء المتضاربة، سواء في علاقاتك الخاصة بالكتابة أو بالمتلقي عموما. صحيح وكما يقال في كل مناسبة: الشعر فعل خاص، يرتبط بنخبة خاصة... لكن نخبوية الكتابة الشعرية كانت في جزء من تاريخها محصورة في الفعل والممارسة أو القول، أما على مستوى التلقي فالإهتمام كان عاما، بل إن عموم الناس كانوا ذات شعر أول النقاد. مستوى الاهتمام والمتابعة منحتهم القدرة على التمييز والإنصاف. الجهل الذي يحكم علاقة القصيدة بالمتلقي هو ما خلف وضعية التنافر واللاانتماء، حيت أصبح الشاعر يلتف حول علاقاته المحدودة جدا، وهم العالمية يحجب وحدته واغترابه القاتل. عندما تسأل عن الشعر تتلقى جوابا يحدث عن امرئ القيس أو زهير بن أبي سلمى ... واستثناء عن نزار أو درويش. ليس فقط من العوام بل من بعض المثقفين أيضا !؟ لا يتعلق الأمر بقناعات شخصية أو بذوق جمالية الشعر، هو الجهل بالحركة الشعرية الجديدة. عمق القيم الشعرية ذاتها، وقيم الاستهلاك السائدة بدءا من الصورة.. إلى الحياة اليومية، هي أسباب فاعلة في المأزق الشعري. غير أنه لا يمكن تجاهل مسؤولية مؤسسات الثقافة والإعلام .. والمؤسسات التعليمية أيضا، حيث البرامج تحكمها الدراسة التاريخية حتى في المكونات الأدبية والعلمية !! في غياب مواكبة جادة للمستجدات والمتغيرات الأدبية/ الشعرية على وجه التحديد ? اعتبار مسار النص ? لن تخرج الكتابة الشعرية من عنق الزجاجة. يؤسفني، أيضا، أن ينتشر في مشهدنا شعراء الهزائم البيضاء. يقولون: كي تكون شاعرا في المغرب، عليك الدخول من المشرق. ما يقال يطرح العديد من علامات الاستفهام، الإجابة عنها تجعل وضعنا مثيرا للشفقة !؟ -ماذا يضيف الاعتراف المؤسساتي للشاعر وتجربته الشعرية؟ -لماذا هذا السعي الحثيث إلى موائد آبائنا الشعراء !؟ هل هي مسألة الانتشار تمر عبر هذه الموائد، أم هي الرغبة في الجلوس على راس المائدة؟ ثم لماذا هاجس احتلال مساحة أكبر من الحضور؟ -لماذا نتحدث عن مسألة الانتشار، ولا نتحدث عن إشكالية الشعر؟ -العديد من الأسماء الحاضرة في الساحة الأدبية، تختلف طريقة دخولها إلى مساحة الحضور. يبقى السؤال: هل هو حضور مشرف يليق بالكتابة؟ هو حضور أدبي أم حضور سياسي؟ تلك عينات من الوجع. أستغراب كيف لا يلتفت مسؤولو مؤسساتنا الثقافية إلى ما يقال؛الدخول من الشرق ! عندما يتعلق الأمر بتواصل حقيقي، يطمح إلى الانفتاح على تجارب الآخرين أو توجد القيم والتصورات وتعميق الوعي بالكتابة الشعرية ..هنا، يختلف الأمر تماما عن الرغبة في الخروج ? فقط- من أجل الدخول. أو سعيا إلى تهميش مضاد؟ أعتقد أن الانفتاح الحقيقي هو انفتاح الكتابة.بمعنى:انفتاح الكتابة على الكتابة وليس اسما على الأسماء.انفتاح الكتابة على القيم والمتغيرات الشعرية، القصصية والروائية الجديدة..هاجس الكتابة وليس هاجس إعادة تشكيل المواقع !؟ هوامش: 1-وردت عبارة «عين مشتعلة الباطن» في إهداء كتاب الهوية المفتقدة للشاعر عبد الغني فوزي. 2- المؤخرة، ليس بمعناها الوارد في رواية الخبز الحافي لمحمد شكري. 3- ألآن ... هنا وشرق المتوسط مرة أخرى ص 380. الطبعة الخامسة (97) ? المؤسسة العربية للدراسات والنشر عبد الله بن الناجي. مايو 2006.