لو أردت أن أبدأ القصيدة من حيث انتهت، لقلت إن الشاعر المغربي محمد عرش، زارني ذات صباح بمكتبي محفوفاً بأجنحة «ديك الجن»، وهو المَيْسَمُ الذي آثره عنواناً لديوانه الجديد، الذي يستحق من الاستقراء الجمالي ما هو كفيل بتحرير معانيه لتداولية أوسع بين الإنس. يبدو أن الشاعر محمد عرش، وبالنظر لما سلف وقرأته من قصائد، يعتبر من طراز الشعراء القلقين الذين لا يحبون التَّملي في ذات المرآة أكثر من مرة، درءاً لتكرار التجربة؛ تجربة الصورة وما تكتنفه في بواطنها النضّاحة من حالة شعرية، ويمكن تحديدها في التيمة أو المعنى؛ وأصدقكم شعراً، إذا جزمت أني اندهشت للتحول الذي طرأ إيجاباً على جمالية النص الشعري لدى محمد عرش، في ديوانه «كأس ديك الجن»، حيث تلمس دون حاجة لمجسات الأصابع، صِنفاً من الانسلاخ عن جلد الإيقاع التفعيلي الذي كانت تتبدى نَقَراته عالية الصوت في الكثير من قصائد عرش، ليغدو الوزن الموسيقي في هذا الديوان باطنياً، وأخف من ريشة في سماء إبداعية تندغم في أفقها التخييلي، أكثر من ريح؛ وهي التي يمكن إجمالها في دهشة الصورة وألمعيتها الشذرية التي توحي بالمعنى المتعدد، وخِفة الإيقاع التفعيلي الذي ينسرب شفيفاً كخيط رَيِّقٍ ناظم للآلئ، ناهيك عن جمالية الإحالة التيماتيكية المستندة على تراثنا الشعري العربي الأصيل، من خلال استدعاء الشاعر السوري «ديك الجن»، بشرابه العتيق الذي ما عاد يصلح للحلم أو السكرة في زمننا الرديء من فرط هيمنة الفكرة في بعدها اللاهث جريا وراء المادة؛ أما الشاعر محمد عرش فقد صب هذا الشراب الفائض بالحياة في قالب حداثي يليق بدم اللحظة، فرصَّع كف ديك الجن ب (كأس) من زمننا، وليس (قدحاً) أو (دورقاً)، حتى تكون قناة تصريف المعاني التي مهما أوغلت في مرجعيتها التراثية، ستبقى تنتمي في شكلها الموصول بحواس الواقع، إلى زمننا الحديث، ويمتشق الشراب الشعري في لساننا أكثر من طعم ومذاق، ويأخذ في أعيننا حين تشِطُّ بسكرته الرؤوس، أكثر من صورة إشراقية، وبهذا تلتقي في البوتقة الكيميائية لقصيدة الشاعر محمد عرش، كل الأزمنة؛ ومن قال إن الشعر لا يستطيع مستحيلا، وقد جعل حتى للجن ديوكاً، غير أنها لا تصلح للذبح ولو في سوريا!