في البداية أشير إلى أن هذه القراءة لا تسعى إلى الإحاطة الشاملة بأبعاد الكتابة القصصية عند الأستاذ عبد الجبار السحيمي، فهذا موضوع يتطلب بحثا طويلا مفصلا نظرا إلى عمق وثراء تجربة الكاتب الإبداعية، وما نسعى إليه بالتحديد هو إبداء ملاحظات وإثارة بعض الأسئلة حول هذه التجربة ومحاولة مناقشتها بصورة مختصرة لإبراز بعض السمات العامة التي تميزها. وفي اعتقادي أن من المداخل الأساسية لهذا الموضوع هو الرؤية الفنية التي اعتمدها الكاتب في بناء النص القصصي، وهي رؤية تتألف من عناصر فنية وأدبية وفكرية تنتمي إلى اتجاهات وحركات أدبية مختلفة وفي مقدمتها الاتجاه الواقعي. هنا لابد من التذكير بحقيقة أكدتها الأبحاث التي قاربت الكتابة القصصية بالمغرب، وهي أن الحقبة التي ظهرت فيها قصص الأستاذ السحيمي عرفت سيادة الأسلوب الواقعي، بحيث أن كتاب هذه الفترة تأثروا بالمدرسة الواقعية واستلهموا آلياتها في الإبداع الأدبي(1) ، و لذلك نجد عددا من الكتاب المغاربة ارتبطوا باتجاهات هذه المدرسة وتعاملوا معها كل من منظوره وقناعاته الخاصة (2). وفي هذا الإطار نجد أن الرؤية الفنية، وهي فيما يبدو بؤرة الوعي في الكتابة القصصية، هي من العناصر الأساسية في هذا التعامل، ولدى عبد الجبار السحيمي يمكن القول إن مظاهرها تتجلى بصورة واضحة من خلال مستويين : الأول ، يتمثل في أسلوب السرد الذي نهجه الراوي في عدد من المقاطع السردية، بحيث ينقل المتن الحكائي بنوع من الحياد، أو الموضوعية وفق اصطلاح نقاد ومنظري الواقعية، فيكون بمثابة شاهد يكتفي بنقل ما يرى وما يسمع، و يتقيد بما تدركه الحواس عموما، و ما يستخلصه من خلال المظاهر الخارجية. في قصة «ميلاد» يرصد الراوي ما يجري من أفعال وأعمال حكائية في زمن محدد هو الآن (الحاضر) مستعملا الصيغة النحوية التي تناسبه وهي صيغة المضارع على النحو التالي:» انطلقت الصرخات دون أن تتوقف، الزائر الجديد قريب من الأرض، و النساء يرددن أدعيتهن القديمة المعروفة، و عمر الصغير يهرب إلى غرفة أمه حائرا من كل هذا الألم الذي يجعلها تصرخ هكذا ، و الرجل العجوز يضع يده على قلبه، لقد عاودته الأزمة مرة ثالثة هذا الصباح..»(3) هكذا يشخص حركات المرأة الحامل، وهي تشرف على الولادة، كما يشخص ما يجري حولها من أعمال النسوة اللواتي يحطن بها، والجد الذي لم تتوقف تعليقاته لكثرة ما خبر في هذا المجال» كان الرجل العجوز يتحدث بصوته الضعيف:الألم طريقنا إلى الحياة ، و نحن نتحمل الألم من أجل الحياة كلما كان ذلك ضروريا ، لقد حضرت ميلادكم جميعا ، كانت أمكم تصيح في الغرفة الأخرى كما تصيح الآن، لم يتغير شيء، بهذه الصرخات كنتم تعلنون مجيئكم..»(4) كما يتمثل هذا الحياد من ناحية أخرى في وصف الراوي بنفس الكيفية لملامح ومظاهر الشخصيات القصصية، وبالأخص الأساسية منها، التي حرص على نقل صفاتها المميزة التي تتناسب مع انتمائها الاجتماعي و الفضاءات التي تتحرك فيها. والملاحظ بهذا الشأن أن الشخصيات الرئيسية تنتمي إلى وسط اجتماعي فقير ومهمش، بحيث نجد العامل والصانع والموظف الصغير والعاطل.. الخ. وهذه النماذج اشتغل عليها السارد ضمن هذه المنظور وذلك بعرض مظاهرها الخارجية المتمثلة أساسا في الأوصاف الجسدية التي تدركها العين، و تم ذلك ضمن حيز محدود ركز فيه على انتقاء العناصر الدالة كما في قصة «حمدان» مثلا:»مرت الآن تسع سنوات على ذلك التاريخ المغرق في القدم. عيناه تجحظان في عينيها فيحس أن سمراء الطفولة بلا لون، بلا طعم، برائحة هي خليط من البصل و التوابل. كان صوتها، حين تصيح، يهدر كبحر..»(5) أما المستوى الثاني فيتعلق بالحالات التي يبتعد فيها السارد عن الحياد و يعلن عن حضوره بصيغ مختلفة. من أبرز هذه الصيغ ما نلاحظه في تجاوزه المظهر الخارجي الحسي في وصف الشخصية إلى تقديم المظهر النفسي العاطفي . هذا المستوى يمكن تحديده من خلال العلاقات التي تربط هذه النماذج مع نماذج تنتمي إلى فئات أخرى أرقى اجتماعيا، ذلك أن هذه العلاقات تتحكم فيها أفعال الاستعداء، والتسلط، والقهر، والاستغلال، وما إلى ذلك من أفعال تجعل الشخصيات على اختلاف طبائعها و ميولها تتوحد على الصعيد العاطفي في الإحساس بالإحباط، مثلما نجد في حالة حمدان و زوجته اللذين يعيشان إحباطا كبيرا لأنهما معا فشلا في تحقيق رغباتهما، حمدان بسبب عجزه المادي، وزهرة زوجته بإدراكها هذه الحقيقة، وبالتالي حقيقة أن ما كانت تطمح إليه وما حلمت به لا يمكن تحقيقه في الواقع «المسيح كان أعزب، من أجل ذلك تقبل أن يجمع في قلبه كل آلام البشر.أما حمدان الموظف الصغير بالمحكمة ، فكان قد قال نعم منذ تسع سنوات ، و منذ ذلك الوقت تقبل أن يعيش آلامه الخاصة ، منذ ذلك الوقت حكم على نفسه بذلك الألم..»(6) على هذا المنوال يتجاوز الراوي الوصف الخارجي إلى وصف عواطف الشخصيات ورغباتها، وما تفكر فيه وما يدور بذهنها من خواطر، وأحلام، وأفكار، على خلاف المستوى الأول الذي يكتفي فيه برصد المظاهر الحسية دونما تدخل أو تعليق. و يتبين لنا من خلال هذين المستويين أن الكاتب استعمل في بعض المواضع الأدوات الفنية و التعبيرية للواقعية التقليدية، و في مواضع أخرى استعمل أدوات التيارات الجديدة التي عرفتها هذه المدرسة أو الاتجاهات و الحركات التي انبثقت منها، و هذا الاختيار خاضع بطبيعة الحال لدواعي جمالية وفكرية. و هذا التعامل كان له تأثيره في بناء النص القصصي، و لا سيما في بناء الشخصيات التي تبدو في بعض الحالات تحت رحمة السارد أو الكاتب ، فاقدة لاستقلالها وتفردها ، و خاضعة لزاوية نظر محددة، مما جعلها تقترب من بعضها من حيث الطباع والانفعالات والمواقف ، لذلك جاءت في عدد من النصوص ذات شكل أقرب في بنائه إلى نموذج الشخصية التي نصادفها في الأدب القصصي الواقعي، فهي تتميز بصفات نوعية من حيث السلوك و العادات و المواقف على اختلافها وتعددها، إلى حد أنها تأخذ في بعض الأحيان رقما يعينها بدل الاسم الشخصي أو النسب كما حال العامل في قصة «حكاية حزينة» على سبيل المثال:» 1431 لطالما وقف أمام المرآة يحاول أن يكون شيئا آخر غير هذا الرقم، و لكن المرآة تطالعه بوجه آخر لا يعرفه أبدا، و من خلال دخان الفافوريت، يطلع الرقم كبيرا،1431، و لاشيء آخر، كرقم الآلة 11 في المعمل، هما معا يفعلان نفس الشيء و المدينة تكبر كل يوم، و يختنق هو بالدخان ، بالصداع ، بالحافلات الكثيرة، و قد رأى أول واحدة منها ، ترى أين هي اليوم الحافلة رقم1؟»(7) و في هذا السياق تم استغلال الحوار الذي يجري بين الشخوص، أو تحديدا بعض المقاطع الحوارية، للتعبير عن أفكار أو قضايا معينة ، فيما يبدو أن الحوار يشكل الفضاء الأنسب لها، مثلما هو الحال بالنسبة لعرض قضية الحرية في عدد من النصوص، ففي قصة «السجن الكبير» يدور حوار ممتع و عميق بين شخصيات عادية (سجناء) حول هذه القضية ينتهي إلى فكرة تختزل العالم في كونه سجنا كبيرا، لكن عقلا خفيا يدير هذا الحوار على الشكل التالي: « قال السجان: - ها أنت مرة أخرى تتمتع بالحرية ، ليلة أخرى تقضيها خارج السجن. - خارج السجن،داخل السجن،لافارق، فأنا سجين في كل مكان..أنا سجين لأني معك..محكوم علي بك..محكوم علي بإحساس أنني سجين. - لكنك سوف ترى الناس في المدينة.سوف تتفرج على حريتهم، و يتفرجون عليك مثلهم حرا.. - أنا خارج الناس، خارج حريتهم، أنا سجين حتى إذا لم أكن داخل زنزانة. و التفت السجان و قال بهدوء إنسان عرف كثيرا: - اسمع ، هل تريد أن تعرف الحقيقة، أنت سجين دائما حتى إذا لم يحكم عليك بالمؤبد..أنت سجين داخل نفسك . و عندما لا تنبع الحرية في أنفسنا و منها ، فان السجن سوف يكون لنا في كل مكان..»(8) وهذا ينطبق على مواضيع و قضايا أخرى تشغل بال الكاتب، أو الشخصيات الحكائية، من قبيل حديث محمود البواب في قصة «لقمة الخبز» (9) فهو بواب بإحدى العمارات، و مع ذلك يتمتع بقدرات خاصة على طرح و مناقشة مسائل تتعلق بالشيوعية والاشتراكية. غير أنه لابد من الإشارة إلى أن الحوار يؤدي في معظم النصوص وظيفته الفنية المكملة لوظيفة السرد، وفي هذه الحالة لا يكون عبارة عن كلام مباشر بين الشخوص، بل كلام يساهم في إبراز أبعاد الشخصيات العاطفية والفكرية، وبالتالي يبرز الأبعاد الدرامية للأحداث و الوقائع، وبذلك يشكل عنصرا بنائيا يتكامل مع العناصر الأخرى كما في قصة «قتل الأب»(10)، حيث ساهم الحوار في إبراز صفات الوعي والنضج في شخصية الطفل وعلاقته بأبيه. وهذا ما نلاحظه أيضا في نصوص أخرى مثل قصة «وتشرق الشمس دائما»(11) التي يشغل فيها الحوار حيزا مهما من المساحة النصية، بحيث يهيمن صوت صانع الأحذية على الأصوات الأخرى، لإظهار حدة التجربة التي خاضها من أجل الحصول على المال لإطعام أبنائه، وتتمثل في بيع دمه مقابل دراهم قليلة. ومما تقدم يتبين لنا أن عناصر النص تتكامل في ما بينها ويخدم بعضها البعض، وخاصة مكون الشخصية، وهو العنصر الأبرز في معظم النصوص. وقد أشرنا سابقا إلى أن الشخصيات تشترك في بعض الأحاسيس اختزلناها في الإحساس بالإحباط الذي يشكل بحق قاعدة عاطفية لتكوين الشخصية. وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الشخصيات، بما لديها من أحاسيس الاحباط و الألم و الغربة و الضياع و ما إلى ذلك، هي شخصيات سالبة ثابتة كما نرى في حالة الزوج الذي سئم من الحياة الزوجية في قصة «في منتصف الليل» :» و تنتظر أن يسود الصمت، و أن تنام بعمق، لكن الأنفاس الرتيبة إلى جوارك تقتل الصمت ، إنها ليست في هذه الدنيا، لا تحس بك، لقد ماتت، و ها هي أنفاسها الرتيبة العميقة تقتل الصمت. عشرون سنة يمتد إلى جوارك هذا الجسد ، و أنت لا تتحرر منه أبدا، الذبابة تقتلها حين تضايقك ، الساعة تبعدها ، الأنبوب تقفله بإحكام، لكن هذا الجسد الذي يرقد إلى جوارك هو لعنتك..» (12) هذا الإحساس و ما يترتب عنه من أفعال و ردود أفعال قد يعطي صورة عن عدم قدرة الشخصية على التحرر من أزماتها، كما يعطي صورة عن حدة المواقف العاطفية والنفسية لدى الشخوص التي توحي بأنها في بعض الحالات منفصلة عن واقعها الاجتماعي، والحال أنها عوامل دينامية متحركة، تتطلع إلى واقع أفضل، متحرر، وعادل، الأمر الذي طبع أقوالها وأعمالها في حالات معينة بملامح رومانسية خصوصا في الحالات التي تعترضها عوائق تحول بينها و بين تحقيق رغباتها المعلنة و المضمرة. و في ختام هذه الورقة القصيرة نؤكد أن بناء النص القصصي عند عبد الجبار السحيمي ظل في كل الأحوال مرتبطا بالاطار العام الذي اختاره لنفسه، ليس فحسب من حيث الارتباط بالواقع الاجتماعي و التعبير عن قضاياه و مشاكله، و لكن أيضا بما وظفه من آليات فنية و فكرية لهذا الغرض. و هذه الغاية هي التي سعى إليها أدباء حقبة الستينيات على العموم ، فحققوا كل من موقعه الانتقال التاريخي للشكل القصصي من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التجنيس، و بذلك رسخوا قواعد و تقاليد الكتابة القصصية في الأدب المغربي المعاصر. ____ هوامش * قدمت هذه الورقة في ندوة «مكونات الخطاب القصصي» بكلية الآداب و العلوم الانسانية جامعة ابن طفيل القنيطرة بتاريخ 27نونبر 2012. 1- على سبيل المثال أبحاث: أحمد اليبوري ، محمد برادة، ادريس الناقوري، أحمد المديني، نجيب العوفي .. 2- نذكر منهم: ابراهيم بوعلو، محمد زفزاف، ادريس الخوري ، محمد بيدي، ربيع مبارك.. 3- الممكن من المستحيل ، عبد الجبار السحيمي، عيون المقالات، الطبعة الثانية ، الدارالبيضاء 1988 ص 43. 4- السابق ص43. 5- السابق ص12. 6- السابق ص 12. 7- السابق ص83. 8- السابق ص25. 9- سيدة المرايا، عبد الجبار السحيمي، دار الثقافة ، الطبعة الأولى ، الدارالبيضاء 2007 ص77. 10- السابق ص29. 11- الممكن من المستحيل ص51. 12- السابق ص 61.