تتراكم التساؤلات حول الأبعاد الحقيقية للحرب في مالي موازاة مع إتساع عملية تدويل الصراع، والتي كانت إحدى بداياتها الهجوم واحتجاز الرهائن بالمجمع النفطي الغازي الجزائري بعين إمناس والذي إنتهى بشكل دام. عدد من الأوساط تحذر من أن الحرب في منطقة الساحل التي انطلقت شرارتها الأكبر حتى الآن في مالي ستتسع لتشمل دولا أخرى في كل المنطقة الأفريقية التي تقع شمال خط الإستواء. البعض يذهب إلى حد المقارنة بينها وبين حرب أفغانستان من حيث إسقاطاتها على دول الجوار وتحولها إلى معركة إستنزاف طويلة. حاليا يظهر أن باريس الرسمية لا تخشى من "أفغانستان جديدة" كما يحذر البعض، لكنها تشعر أنها تدفع ثمن أخطائها في الحرب على ليبيا، وفق ما صرح قائد القوات الفرنسية السابق في أفغانستان فنسان دوبورت لمجلة "لا ديفانس". مع العلم أن هذا التدخل يتمتع حاليا بإجماع رسمي وشعبي في فرنسا، ويقدم على أنه الحرب التي لا مفر من خوضها. لكن الخوف الحقيقي يتركز في خطر تحول مالي ومحيطها إلى محجة للجهاديين، حيث ستستقدم الحرب مع احتدام فصولها الجهاديين المتمركزين في الجوار، وأولهم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة "بوكو حرام" النيجيرية. هناك قلة من الملاحظين يحذرون من أن تكون واشنطن تستخدم فرنسا كرأس حربة تنوب عنها للحصول على الجزء الأكبر من المكاسب في منطقة الساحل. ويشير هؤلاء إلى أن جزء كبيرا من الأسلحة الموجودة في يد مختلف الفصائل المتمردة في شمال مالي والتي تتسرب إلى تونس وموريتانيا وغيرهما نقلت تحت أعين الأمريكيين أثناء التدخل في ليبيا سواء لمواجهة الجيش النظامي الليبي أو بعد قتل العقيد القذافي بدعوى حماية قبائل ليبية وأفريقية من بطش الجماعات الإرهابية. ويلفت هؤلاء الملاحظين إلى أن الذين قلبوا نظام الحكم المدني في مالي هم الضباط الماليين الذين دربهم الأمريكيون. يقدم مؤرخون أمثلة عديدة عن كيفية تشابك وتقاطع المصالح بين العديد من القوى الغربية وغيرها وكيف تستغل بعضها مصاعب البعض الآخر لتقفز لجني المكاسب وتقسيم الكعكة. هذا ما حدث مثلا في الهند الصينية والشرق الأوسط خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. عملية القفز وتقاسم اجزاء الكعكة تتم في كثير من الأحيان رغم خلافات تثور داخل الأجهزة التي تتحكم في القرار. تقسيم الغنائم في كتابه "الأزمة السياسية والعسكرية في الهند الصينية" كتب بريان كروزييه الذي عمل خبيرا لمجلة الايكونومست في شئون جنوب شرقي أسيا والشرق الأقصى ومراسلا لوكالة "رويترز" والمحاضر الدائم في بعض معاهد الدراسات: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حاولت باريس إعادة وجودها إلى فيتنام وبقية منطقة الهند الصينية ولكنها أصطدمت بمقاومة الفيتناميين والصينيين والسوفييت. خلال الفترة التي سبقت هزيمة الفرنسيين في معركة ديان بيان فو سنة 1954 ساند الأمريكيون القوات الفرنسية بالدعم اللوجيستيكي ولكنهم قفزوا ليحلوا مكانها عندما رحلت، ويكشف الكتاب عن أسرار غريبة، إذ يقول: دارت في ذلك الوقت حرب خفية بين شبكة المخابرات الفرنسية ومكتب الخدمات الإستراتيجية نواة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأن هذا المكتب أقام علاقات وثيقة مع هوشي منه. بالعودة إلى سؤال يطرحه كثيرون: لماذا تدخل الفرنسيون؟ يقول البعض اضطر الفرنسيون إلى التدخل في ما تبقى من الحديقة الاستعمارية الخلفية لباريس، بعد نصف قرن تقريبا من خروجهم منها. هناك تسيطر جماعات "القاعدة" والجهاد المتمركزة في المنطقة على قوس يخترق المصالح الإستراتيجية الفرنسية، في منطقة تتجاوز مساحة القارة الأوروبية ذاتها، من مالي فموريتانيا والنيجر. وتختزن المنطقة أضخم مناجم اليورانيوم، خصوصا في النيجر، التي حصلت شركة "أريفا" الفرنسية على امتياز استغلالها منذ عقود، وهي تزود بالوقود النووي ثلث المفاعلات النووية المنتجة للطاقة في فرنسا. كما أن القاعدة حولت شمال مالي الجبلي المنيع إلى حصن تهيمن منه على مساحة 250 ألف كلم مربع، وتشن منه الغارات على دول المنطقة، وتحتفظ في مخابئه الكثيرة بسبع رهائن فرنسيين. وقد انتعشت قوة "القاعدة" في المنطقة بعد تدفق الأسلحة التي خلفتها فوضى تدخل "الناتو" في ليبيا، وبعدما استولت "القاعدة" والطوارق العائدون من ليبيا على كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة من مستودعات القذافي أو من الامدادات الأمريكية، وهو ما يجعل خبراء الدفاع يسمون التدخل الفرنسي في مالي ب"حرب ليبيا الثانية"، لأن الفرنسيين يحصدون نتائج الأخطاء المرتكبة هناك. وتخوض فرنسا الحرب في مالي، تحت مسمى الحرب ضد الإرهاب، محولة مستعمرتها القديمة إلى شبه أفغانستان أفريقية لا بد من التدخل فيها، كما فعلت الولاياتالمتحدة تحت شعار إبعاد خطر "القاعدة" عن الأمريكيين. خلاف داخلي يوم الجمعة 18 يناير 2013 ذكرت صحيفة لوس انجليس تايمز ان البيت الابيض ووزراة الدفاع الأمريكية مختلفان حول الموقف الذي يجب تبنيه مع سيطرة جماعات إسلامية متطرفة في مالي وهجماتها في مناطق أخرى في غرب أفريقيا. وقالت الصحيفة نقلا عن مسئولين لم تكشف أسماءهم أن الحوادث التي تجري في مالي والجزائر اثارت جدلا حادا داخل إدارة الرئيس باراك اوباما لمعرفة ما إذا كان هؤلاء العناصر المتشددين يشكلون خطرا يمكن أن يتطلب ردا عسكريا. واوضحت ان عددا من مسئولي البنتاغون وضباطا كبارا يحذرون من ان غياب التزام أكبر من جانب الولاياتالمتحدة يمكن أن يجعل مالي ملاذا للمتطرفين كما كانت أفغانستان قبل هجمات 11 سبتمبر 2001. لكن عددا من مستشاري البيت الابيض يرون انه من غير الواضح ما اذا كان متمردو مالي وبينهم عناصر من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، يمكن أن يعرضوا الولاياتالمتحدة للخطر، حسب الصحيفة. وتابعت ان هؤلاء المستشارين يخشون أن تجر الولاياتالمتحدة إلى نزاع معقد ضد عدو لا يمكن السيطرة عليه في مالي بينما تقوم القوات الأمريكية بالانسحاب من أفغانستان. ونقلت الصحيفة عن مسئول في الإدارة الأمريكية قوله "لا أحد هنا يشكك في التهديد الذي يشكله تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على المستوى الإقليمي". وأضاف أن "السؤال الذي نحتاج جميعا إلى طرحه هو أي تهديد يشكله هذا التنظيم للولايات المتحدة ؟ وكان الرد حتى الآن: لا تهديد". صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قالت بدورها يوم السبت 19 يناير 2013 إن بعض المسئولين بالبنتاغون اتخذوا موقفا متشددا وأشاروا إلى المعلومات الاستخبارية تفيد بأن المسلحين بالمنطقة لعبوا دورا في الهجوم على القنصلية الأمريكية ببنغازي يوم 11 سبتمبر 2012. وطالب هؤلاء بتنفيذ ضربات تستهدف قادة المسلحين بشمال مالي، قائلين إن قتل القادة سيفقد المسلحين قوتهم فترة طويلة. وذكرت الصحيفة إن إدارة أوباما تبنت إستراتيجية القتل في بلدان أخرى مثل باكستان واليمن والصومال، بعد أن قرر المسئولون في البيت الأبيض والبنتاغون والاستخبارات المركزية أن المسلحين في هذه الدول مصممون على شن هجمات ضد أمريكا، والسؤال هو هل تفعل نفس الأمر في مالي والمناطق المجاورة ؟. تفسير آخر فواز جرجس رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بلندن أعطى تفسيرا آخر بشأن الموقف الأمريكي حيث قال: الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الأخرى ترى أن ما يحصل في مالي هو من تداعيات التحولات الأخيرة في بعض الدول العربية أو ما يدعى "بالربيع العربي"، أي أن القوى الإسلامية التي استلمت الحكم في عدد من دول شمال أفريقيا وصلت لمالي، وترى واشنطن أن جميع هذه الدول مآلها لحكم إسلامي ولا داعي للدخول بحرب ضدها خصوصا أن دول الجوار مسلمة. وأضاف أن قراءة الأمريكيين تفيد بأن التنظيمات المسلحة في شمال مالي وحولها هي محلية لا أممية، ورغم ارتباطها فكريا بتنظيم القاعدة فإن إمكاناتها وطريقة عملها بعيدة عن التنظيم الأم. وأشار إلى أن الأمريكيين يرون أن على دول غرب أفريقيا التعامل مع الأزمة في مالي لقناعة غربية بالابتعاد عن هذا المستنقع. أما فرنسا فما زالت تحليلاتها الإستراتيجية قديمة أي من قبل الربيع العربي وتفيد بأن كل "الجماعات الإسلامية متطرفة وإرهابية ويجب محاربتها". تدفق الأسلحة يوم السبت 19 يناير 2013 نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تحقيقا عن تبعات تدفق الاسلحة الى خارج ليبيا في اعقاب التدخل الغربي الذي اطاح بالعقيد معمر القذافي التحقيق أعدته مراسلة الصحيفة ابيغيل هاوسلوهنر وجاء فيه: "ألقت ازمة الرهائن في مجمع الغاز الجزائري ضوءا جديدا على مضاعفات حرب 2011 التي اطاحت بالعقيد معمر القذافي بالنسبة إلى المناطق المجاورة لليبيا. ويقول خبراء ان الكميات الضخمة من الأسلحة التي تدفقت، مع مقاتلين، يمكن أن تكون قد عملت كمحفز للأزمة المتوسعة في المنطقة. ولكن العملية الجريئة التي شنت على مجمع الغاز الجزائري بالقرب من الحدود الليبية خلال الثلث الثاني من شهر يناير، مقترنةً بالنجاح العسكري السريع للمتمردين في مالي، اثارت ايضا أسئلة حول طريقة تعامل حلف شمال الأطلسي "ناتو" مع الترسانات الليبية، وكذلك مع حدود البلاد، خلال شهور التدخل الثمانية. يقول بعض الخبراء ان قوات "ناتو" وحكومة الولاياتالمتحدة كانت مهووسة بخطر صواريخ ارض جو في اعقاب سقوط القذافي إلى درجة أنها أخفقت في وقف انتشار الأسلحة العادية الثقيلة العيار التي يمكن أنها تغذي الآن نيران التمرد في مالي ويمكن ان تنطوي على مضامين عظيمة الخطر بالنسبة إلى منطقة تعاني أصلاً من غياب القانون وتهديد متزايد من "القاعدة". وقد وصلت بعض هذه الأسلحة فعلاً إلى سوريا وغيرها. وبينما من المستحيل قياس الدور المحدد لحرب ليبيا والفراغ الأمني الذي اعقبها في القلاقل الحالية، فان محللين يقولون انه لولا الاسلحة الواردة من الساحة الليبية والمقاتلين المدربين "كثيرون دربهم الحلفاء الغربيون أو شركات الأمن الخاصة التي أجرتها عواصم غربية للتدخل في لبيبا"، لكان من الأصعب بكثير على الجماعات المتطرفة في مالي ان تسيطر على شمال البلاد الصحراوي الواسع. قال بيتر بوكاريت، مدير الطوارىء في منظمة هيومان رايتس ووتش التي يوجد مقرها في نيويورك والذي وثق اختفاء الأسلحة من ترسانات ليبية خلال الحرب: "انتشار الاسلحة الذي رأيناه ناجما عن الصراع الليبي كان على نطاق أوسع من أي صراع سابق – ربما كانت الأسلحة اكثر ب10 مرات من تلك التي رأيناها فالتة في أماكن مثل العراق، والصومال وأفغانستان". ويتذكر بوكاريت احاديث مع مقاولين للحكومة الامريكية كانت اولويتهم حسبما هو معلن هي الصواريخ ارض جو، التي كثيرا ما يشار اليها بأنها انظمة دفاع جوي محمولة يدويا. وقال ان اعينهم "كانت تبدو زائغة" عندما يتحول الحديث إلى ذكر تدفق أنواع الأسلحة الرشاشة والاسلحة المتوسطة والصغيرة الأخرى التي ظهرت منذ ذلك الحين في أشرطة فيديو للجماعات المتطرفة في شمالي مالي. وقد تصادف تدفق الأسلحة والمقاتلين إلى داخل مالي مع انهيار الأمن هناك بعدما خلف انقلاب فاشل في البلاد في مارس 2012 الجيش الوطني بلا قيادة وضعيفا. تعزز صراع دائر منذ مدة طويلة تحت السطح بين اقلية الطوارق في شمالي مالي والحكومة في باماكو بعودة المقاتلين الطوارق، الذين دربهم نظام القذافي وحاربوا دفاعاً عنه، آخذين معهم اسلحة وذخائر خلال فرارهم. وقال بوكاريت: "في احد الايام كانت قوات العصابات هذه تقاتل ببنادق اي كي 47، وفي اللحظة التالية اخذت تظهر ومعها صواريخ مضادة للطائرات وانظمة صواريخ غراد". يقول شاشانك جوشي، الخبير في شؤون الشرق الاوسط لدى معهد الخدمات الملكية الموحدة، وهي هيئة ابحاث بريطانية، ان القوميين الطوارق والمتشددين الاسلاميين بمن فيهم فرع "القاعدة" في المغرب العربي ومجموعتان اخريان من المتطرفين، حصلوا على السلاح بعد الاستيلاء على قاعدة عسكرية مالية كدست فيها أسلحة جاء بعضها بفضل أموال الحكومة الأمريكية. وبالاضافة الى ذلك فان الاسلحة الليبية تسللت ايضا عبر الصحراء الغربية المصرية، فخلال عام 2012، صادرت السلطات المصرية عددا كبيرا من الشحنات التي حملت بمدافع مضادة للطائرات وقاذفات هاون ومنظومات للدفاع الجوي قرب الحدود مع ليبيا، وكانت هناك شكوك بأن جزء كبيرا منها كان لتسليح جماعات ومليشيات مختلفة في مصر استعدادا لمرحلة جديدة من الصراع هناك. من ناحية أخرى، فإن أنباء مخيمات التدريب المتطرفة في مناطق مختلفة من ليبيا بثت الرعب من يصبح البلد ملجأ آمنا لمجموعات إقليمية متطرفة تهدد حتى جنوب أوروبا. خيبة أمل يوم الثلاثاء 15 يناير 2013 جاء في ورقة إخبارية لوكالة فرانس برس بعنوان المقاتلون في شمال مالي يستخدمون أسلحة مختلفة، أن اريك دينيسي مدير المركز الفرنسي للبحوث حول الاستخبارات صرح ان "القسم الأكبر منها اسلحة خفيفة للمشاة"، وهو يرفض الحديث عن اسلحة ثقيلة. غير أنه تبين وخاصة بعد بدء التدخل الفرنسي أن المقاتلين المتمردين في مالي يملكون مدافع من عيار 105 ملم وبعض صواريخ ارض جو من نوع سام7 بل ومدرعات خفيفة. وقد أوضح مسئول سابق في الاستخبارات الفرنسية طلب عدم الكشف عن هويته ان محاربي الصحراء في مالي يمتلكون بالتأكيد بعضا من صواريخ ميلان المضاد للدبابات، الموصول بسلك والفرنسي الصنع. وقد حصل المتطرفون على اسلحتهم، كما يقول اريك دينيسي، خلال عمليات عسكرية ضد الجيشين الجزائري او الموريتاني. واضاف انهم يمتلكون ايضا اسلحة سلمتها فرنسا في 2011 الى المتمردين الليبيين في جبل نفوسة على الحدود التونسية. وذكر خبراء أخرون أن اسلحة كثيرة جاءت على يد الأمريكيين. وقال مسئول سابق في الاستخبارات الفرنسية "انهم يشترون ايضا اسلحة وذخائر من السوق الدولية السرية حيث يستطيعون ان يجدوا كل ما يريدون". صحيفة الغارديان البريطانية وبعد أن تحدثت عن المرارة التي تشعر بها باريس نتيجة تخلف حلفائها خاصة الأوروبيين عن تقديم دعم جدي لتدخلها في منطقة الساحل، أشارت إلى ان رد فعل واشنطن لم يكن أكثر قبولا. اذ تقول ادارة اوباما انها تقدم دعما غير محدد. وذكرت الناطقة بلسان الخارجية الامريكية فيكتوريا نولاند "نقوم بالتشاور عن كثب مع حكومة فرنسا". اما وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان، فقال ان البنتاغون تعهد بالمساعدة اللوجستية وتوفير معلومات المخابرات عبر الاقمار الصناعية والقيام بالتموين اثناء الطيران بالنسبة للطائرات الفرنسية فيما وصفه ب"التضامن الكامل من قبل الولاياتالمتحدة". وكان على لودريان ان يلقي نظرة تفحصية واقعية. فالسياسة الامريكية في مالي وفي المنطقة المجاورة مقطعة الاوصال. فقد بحثت واشنطن صيف سنة 2012 موضوع تدخلها المباشر، لكنها قررت ان الأمر خطير للغاية. فالاسلوب الذي اتبعته الولاياتالمتحدة في السابق لبناء جيش مالي ليكون درعا في مواجهة القاعدة وانصار الدين والمجموعات المتطرفة الأخرى انقلبت الى ضدها خاصة عندما انقلب عدد من القادة الذين كانت ترعاهم الولاياتالمتحدة لينضموا الى صفوف المتمردين، وقد حملوا معهم الاسلحة والمعدات الأمريكية، بعد ان قام احد المتدربين الامريكيين وهو النقيب امادو سانوغو بقيادة انقلاب في باماكو في شهر مارس 2012. وصرح الجنرال كارتر هام، قائد القوات الامريكية في افريقيا "اصبت بخيبة أمل شديدة عندما قامت قوات لنا معها علاقات تدريب بالمشاركة في عملية انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة. وليس هناك من وصف لذلك أفضل من انه غير مقبول بالمرة". بينما قال ضابط من مالي لصحيفة "نيويورك تايمز" إن "ذلك كان كارثة". تقرير بانكي مون يشير ملاحظون أنه رغم الدعم المعنوي لباريس الذي يلوح به البيت الأبيض، يظهر أن واشنطن كانت ترغب في تأجيل أي تدخل خارجي في مالي وهو الأمر الذي أدرك قصر الاليزي أنه سيقود إلى سيطرة المتمردين على كامل تراب مالي وسيكون من الصعب بعد ذلك التدخل عسكريا لأنه سيكون ضد حكومة دولة قائمة. ويشار إلى أن تقريرا للامين العام للامم المتحدة بانكي مون في نوفمبر 2012 وهو عادة ما يعكس فكر الادارة الأمريكية كان قد حذر من مخاطر التدخل المتسرع وغير المنسق. وقال "ادرك تماما ان أي تدخل عسكري في الشمال ليس مدروسا ولا ينفذ بعناية، قد يزيد من سوء الوضع الإنساني الهش وتنشأ عنه اساءات كبيرة لحقوق الانسان". وتكرر فرنسا انها لا يفترض ان تظل وحدها في المغامرة المالية وقال لوران فابيوس يوم الخميس 17 يناير في بروكسل "اننا لسنا بمفردنا بل نحن رواد". وتحدث وزير الخارجية الفرنسي عن امكانية ارسال مقاتلين من دول اوروبية الى مالي لكن بدون ان يطلب ذلك من مجلس الوزراء خارجية الاتحاد الاوروبي. وفي بروكسل كان المطلوب الاسراع في نشر البعثة الاوروبية لتدريب الجيش المالي. واعلنت عشر دول نيتها في المساهمة بالرجال والعتاد في البعثة الاوروبية البالغ عدد عناصرها 450 منهم 200 مدرب بقيادة الجنرال الفرنسي فرنسوا لوكوانتر بينما قد ترسل اسبانيا ما بين اربعين الى خمسين رجلا وبولندا 15 وبلجيكا، 75 لكن المانيا لن ترسل جنودا. الاتحاد الاوروبي رفض ان يشارك الجنود الاوروبيون "في المعارك" في حين قرر تمويل انتشار القوة الافريقية بنحو خمسين مليون يورو ليرتفع مجمل التمويل الى ما بين 150 الى 200 مليون يورو. ولكي يخفف من الموقف الأوروبي، صرح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لجريدة "لوفيغارو" الجمعة "لا أستبعد وصول تعزيزات أوروبية على شكل جنود الى شمال مالي، ستكون عبر مباحثات ثنائية". وكتبت جريدة "الباييس" الجمعة 18 يناير أن باريس غاضبة من مدريد بسبب عدم اتخاذ قرار بإرسال جنود الى شمالي مالي. وأكد وزير الخارجية الإسباني مانويل مارغايو أن "اسبانيا لن ترسل قوات عسكرية" في حين كشف وزير الدفاع بيدرو مورينو أن اسبانيا ستساهم ماليا وسترسل طائرة للنقل العسكري ومدربين عسكريين. الأمر الذي ربما يثير ضحك البعض هو أن واشنطن أعلنت أن باريس ستدفع لها تكاليف مساندتها اللوجستيكية وخاصة تكاليف النقل بالطائرات الأمريكية. القمة الطارئة لدول غرب افريقيا يوم السبت 19 يناير في ابيدجان والتي شارك فيها فابيوس، تناولت مسالة الاسراع في نشر القوة الافريقية لاستعادة الأمن في مالي "ميسما" التي يفترض ان يبلغ قوامها خمسة الاف رجل لاحقا. مواقف لندنوواشنطن من الأمور التي يجب تسجيلها عند تحليل تطور الحرب في مالي، ما صدر من واشنطنولندن في أعقاب أزمة الرهائن الدموية في الجزائر في المركب الغازي الجزائري بعين إمناس. فقد توعد وزيرا الدفاع البريطاني والامريكي يوم السبت 19 يناير بملاحقة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، الا انهما أكدا انهما لن يرسلا أي جنود إلى منطقة شمال أفريقيا. وعقب محادثات في لندن رفض وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا ونظيره البريطاني فيليب هاموند انتقاد العملية التي قام بها الجيش الجزائري في موقع إمناس، منهيا واحدة من أكثر عمليات تحرير الرهائن دموية منذ سنوات. وقال هاموند في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي ان الخسائر في الارواح "مروعة وغير مقبولة، ويجب ان نوضح ان الارهابيين وحدهم يتحملون مسؤولية ذلك". وقال "نحن لا زلنا مصممين على هزيمة الارهاب ونقف إلى جانب الحكومة الجزائرية". واضاف "على من هم وراء الهجوم ان يتاكدوا ان القوة الكاملة للولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الحليفة ستصطف ضدها ولن يجدوا مكانا يختبئون فيه". اما بانيتا الذي كان يزور لندن في ختام جولته الاوروبية قبل ان يتنحى من منصبه، فقال انه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فان الولاياتالمتحدة "قطعت التزاما على نفسها بأن تلاحق عناصر القاعدة اينما كانوا واينما حاولوا الاختباء". وأضاف ان بلاده فعلت ذلك في افغانستانوباكستان والصومال واليمن، ولن يختلف شمال أفريقيا عن ذلك. وأضاف "الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن نتساهل معه او ناخذه من المسلمات هو ان يتواجد هؤلاء وان يقيموا قاعدة لعملياتهم في العالم. هذا أمر غير مقبول". واعرب الوزيران عن دعمهما للعملية التي ينفذها الجيش الفرنسي في مالي لقتال المتمردين ووقف هجومهم باتجاه الجنوب، إلا انهما اكدا انهما لن يرسلا قوات إلى مالي. واكد بانيتا "نحن لا نخطط لارسال قوات الى الميدان في تلك المنطقة"، كما شدد هاموند على انه "ليس لدينا خطط لاشراك القوات البريطانية في القتال في مالي". وذكر الوزيران انهما سيعملان مع الشركاء الاقليميين لهزيمة المسلحين المتطرفين في شمال افريقيا. وقال بانيتا "في مواجهتنا لهذا العدو، بذلنا افضل الجهود لنتمكن من ضمان القيام بذلك بشكل فعال، وهذا يشتمل على العمل مع تلك الدول في المنطقة". ورفض بانيتا انتقاد الحكومة الجزائرية على طريقة تعاملها مع ازمة الرهائن، وقال "هم في المنطقة، وهم يفهمون تهديد الارهاب أكثر بكثير من دول أخرى وقد طوروا قدرات لمحاولة التعامل مع الإرهاب". واضاف "من المهم مواصلة العمل معهم لوضع مقاربة اقليمية لضمان عدم حصول تنظيم القاعدة في بلاد المغرب على ملاذ آمن في ذلك الجزء من العالم". وقال "كل واحدة من تلك الدول لديها طريقتها للتعامل مع الارهاب، ولن اطلق احكاما على ما هو جيد او سيء". كما حرص هاموند على عدم انتقاد الجزائريين وقال انه "لا يوجد شك في التزامهم بالعمل ضد الارهاب الاسلامي". واضاف "ان لدى الدول المختلفة طرقا مختلفة للتعامل مع هذه الامور". وتابع ان "طبيعة التعاون في مواجهة أي تهديد عالمي هي ان نعمل احيانا مع ناس يفعلون الأمور بشكل مختلف عن الطريقة التي نفعلها نحن". يشار إنه في يونيو 2012، قلل مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية من احتمال "تهديد إرهابي" ضد الولاياتالمتحدة، قائلا خلال جلسة استماع بالكونغرس "المرتبطون بالقاعدة في مالي لم يثبت أنهم قادرون على تهديد المصالح الأمريكية بشمال أفريقيا أو غربها، ولم يهددوا بهجوم داخل الولاياتالمتحدة". تناقض في تناقض مع تصريحات وزيري دفاع بريطانيا والولاياتالمتحدة، كتبت صحيفة "واشنطن بوست"٬ يوم السبت 19 يناير٬ أن العلاقات الأمريكية الجزائرية تشهد "توترا" بسبب الموقف المتناقض للحكومة الجزائرية من أي تدخل عسكري في مالي٬ يروم القضاء على الجماعات الإرهابية التي تنشط شمال هذا البلد الإفريقي. وأكدت الصحيفة٬ في مقال تحت عنوان "الموقف الجزائري يقوض إستراتيجية الولاياتالمتحدة في المنطقة"٬ أن "القرار الأحادي الجانب للحكومة الجزائرية بمتابعة مرتكبي حادث احتجاز الرهائن بمجمع عين إمناس٬ مع التقليل من أهمية نداءات المجموعة الدولية باتخاذ أكبر قدر من الحيطة والحذر٬ يؤكد أن الجزائر لن تنخرط عسكريا في أزمة مالي". واعتبرت أن عملية احتجاز الرهائن هاته "زادت من حجم الشكوك في مصداقية الجزائر في الانخراط إقليميا في الجهود الرامية إلى تفكيك الجماعات الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة". ونقلت الصحيفة عن جيوف بورتير٬ الخبير المستقل المختص في القضايا الأمنية في شمال إفريقيا٬ قوله إن الولاياتالمتحدة خسرت نحو ست إلى ثماني أشهر من الجهود الدبلوماسية حول الإستراتيجية التي ستنهجها في مالي". وذكرت "واشنطن بوست" بأن إدارة أوباما أكدت في مرات عديدة أن تدخلا عسكريا بقوة متعددة الجنسيات يبقى ضروريا لتحقيق استقرار مالي٬ مشددة على أهمية إقامة تعاون مع بلدان المنطقة. واعتبرت أن الحكومة الجزائرية لا ينبغي أن تتخلي عن التزاماتها٬ خاصة أنها "تعد مسقط رأس تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"٬ مشيرة إلى أن "غالبية قادة وحلفاء هذه الجماعة الإرهابية هم مواطنون جزائريون٬ بما في ذلك زعيمهم٬ والعقل المدبر لعملية احتجاز الرهائن بعين إمناس مختار بلمختار". حرب بلا هوادة رغم شعور باريس بالمرارة من غياب مساندة حلفائها، اكد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يوم السبت 19 يناير ان فرنسا ستبقى في مالي "كل الوقت الضروري من اجل دحر الارهاب" في هذا الجزء من افريقيا. واضاف هولاند انه سيطلب من البرلمان "التصويت على مبدأ هذا التدخل اذا كان سيطول". وتابع الرئيس الفرنسي "المحك بالنسبة الينا ليس في السيطرة على ارض او زيادة نفوذنا او البحث عن أي مصلحة تجارية او اقتصادية، لقد ولى هذا الزمن". وقال أيضا "في المقابل على بلادنا، لانها فرنسا، ان تهب لمساعدة بلد صديق هو من بين الافقر في العالم وضحية منذ أشهر عدة لكي لا نقول منذ سنوات لهذا الإرهاب الذي بات يأخذ اليوم اشكالا اكثر خطورة". من جانبه أعلن وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لو دريان ان الفي جندي فرنسي منتشرون حاليا في مالي في اطار عملية "سرفال"، مشيرا الى ان هذا العدد سيرتفع وقد يتخطى العدد المحدد مسبقا والبالغ 2500 جندي. واضاف ان "حوالى 4000 جندي بالاجمال سيشاركون في هذه العملية"، ملمحا إلى القوات المتمركزة خارج الأراضي المالية والمشاركة ايضا في هذه العملية. على الجانب الآخر من الصراع أكد القيادي في حركة انصار الدين سند ولد بوعمامة في تصريحات نشرت يوم السبت 19 يناير ان الجماعات الاسلامية التي تسيطر على شمال مالي تملك من السلاح والرجال لمقاتلة "الفرنسيين وكل جيوش العالم" لعدة سنوات، متهما فرنسا "بالكذب" بشأن تقدم قواتها. وقال ولد بوعمامة ان "الامر واضح بالنسبة لنا: حرب هولاند ضد شعبنا في مالي هي المتسبب الوحيد لما جرى في عين امناس"، "هذه هي سياسة فرنسا تلغم المنطقة ليكتوي بها الآخرون وهو الحاصل في الجزائر". [email protected]