سبعة طيور: من مجهول إلى آخر بعيدا عن واقعنا، وعلاقاتنا، ولغتنا المكرورة المملة، تحدث أشياء كثيرة. أشياء في حقول الروح وأخرى في متاهات الماوراء. لقد كانت الروح، وما زالت، هي الميافيزيقا المباشرة للشعر، الذي ، لحسن حظ الأدب، ليس رأيا ولا توقعا، بل هو حفر في نفس الأرض، وبحث، في أوج المعركة، عن أسماء جديدة. وما أن يتم العثور على الأسماء الجديدة، حتى يحن الشاعر، إذا ما كان يحتمل ذلك، إلى تجربة البحث عن البياض الذي سيرسم عليه شيئا. وفيما بعد يصبح الرسم شيئا بغيضا لابد من القضاء عليه، لابد من محوه. وهكذا دواليك، في بنية مركبة، رأسها هو ذيلها، حسب تعبير بودلير. مثل ذلك كثير في المجموعة الشعرية الأخيرة لمحمد بنيس « سبعة طيور» (دار توبقال،2011). كانت الكتابة والمحو عند بنيس أفكارا لا يمكن مقاومتها. إلحاح فكري سيطر طيلة عقود على العديد من الكتاب المغاربة ، يقف في مقدمتهم بنيس وكيليطو.فالكاتب الذي يتغذى على وجبة من الفظائع، لابد أن يسعى إلى القضاء على التكدس، لابد أن يبحث عن اسمه. وهنا يلتقي بنيس مع صديقه الشاعر الفرنسي بيرنار نويل، الذي سبق أن ترجم له بنيس ، في وقت مبكر، قصيدة كاملة حول الاسم. إلا أن بنيس انتقل إلى مرحلة البحث عن «قبيلة من الأسماء»( قصيدة: شيء يتكلم أيضا،ص.9). والحق يقال، بين بنيس ونويل، المتوسطيان، معجم مشترك: الكلمات، البياض، الاسم، الكلام، الصوت...إلخ وهو اهتمام شهواني مبكر من قبل بنيس بهذه الكلمات/المجرات، تؤرخ لذلك ترجمته المشرقة لكتاب عبد الكبير الخطيبي «الاسم العربي الجريح» (1980)، ومجموعته الشعرية الأولى «ماقبل الكلام»( 1960)، و مجموعته الكاليغرافية «في اتجاه صوتك العمودي»( 1980). هذا دون ذكر مجلة»الثقافة الجديدة» التي لعبت دورا فكريا حاسما في ترسيخ الوعي بالكتابة والتجديد والمحو ودرجة الصفر، لا باعتبارها مقولات أدبية، بل بكونها رموزا قوية لمكابدة الكاتب المجدد. ولعلنا لا نحتاج الى تأكيد أن بنيس أيضا رسخ قلمه وعقله لواحد من أقوى المفاهيم :» الموت». فقصيدة « فانوس» ( ص.141) تذكرنا بديوان «نهر بين جنازتين» (2000). وبما أن الشاعر قد مل من ترديد أقوى الكلمات، فقد بحث لها عن أشقاء سيميائيين آخرين: الجثة. العدم. المقبرة. الصمت. إنها مرحلة ما بعد الكلام. مرحلة الصمت. ويعيد الشاعر الالتفاف على نفس الموضوع في قصيدة مجاورة :»عميان» ( ص143). هنا نقتنع بأننا يمكن الكتابة عن الموت دون ذكر كلمة»موت».ستظهر كلمات أخرى منافسة: العواصف. خلع الأنفاس. منحدر لا هو النهار ولا هو الليل. الدلب المنزوع الأوراق.كل نبات ننزع عنه أوراقه هو غير موجود. وليس أي نبات أو شجر يتم اختياره بالقرعة، إنه الدلب، أقرب الأشجار إلى قلب الشاعر. مع التقدم في القراءة، وتغير المعجم، كأن كل كلمة تؤدي دور أختها الكلمة، في مناوبة ممتعة، تشعر أن درجة حرارة الوعي ترتفع، كأن الشاعر، ومعه قارئه، يقومان في رحلة داخل فرن. والشاعر حاضر كخالق لا يستشار، «بغير إذن منه» ( برنامج يومي،ص.145). ونفس الشيء يحدث في قصيدة» فجر» ( ص.147)، حيث ال» فجر بيننا/ مجرور بقدمي سكران». دلالة على القوى العديدة، المرئية والخفية، الجادة والهزلية تقوم بالفعل تاركة لنا حمل الأثر، وشريعة اللافعل. هنا تقوم القصيدة بدورها كفعل شعري و أخلاقي أيضا. خصوصا عندما يكون الشاعر شاهدا على حرب بين اللغة والحياة « هل القبو/ هل الصخرة التي لك أن تحملها حيوات/ في الحياة/ هناك اسمنا يترك الأقدام دامية/ بين اسمنا والجسر/هاوية/عدم» ( عدم،ص.40، أنظر أيضا القصيدة الجميلة « نوافذ تلمسان»المهداة إلى الكاتب الجزائري محمد ديب،ص.85، والقصيدة المغاربية الأخرى «هواء قرطاج»، المهداة إلى سمير العيادي، ص.101، وقصيدة « سبعة طيور» المهداة إلى محمود درويش،ص.155). ونحن نقرأ مجموعة «سبعة طيور»، نجد أنفسنا ننتقل من مجهول إلى مجهول. وبنيس الشاعر الذي استدعانا لقراءته، تحول إلى ثلاثة: الشاعر والمترجم ودارس الشعر. ثلاثتهم كتبوا «سبعة طيور». فكلما كان الشاعر مفردا على العتبة، كلما أصبح جمعا في الداخل. أصدقاء» لمحمد بنيس: الشعراء و المدن: كلهم أصدقاء أراد محمد بنيس في كتابه «مع أصدقاء» ( دار توبقال، 2012) أن يكون كاتبا منسيا، و ألا يرى غير: سهيل إدريس، أدونيس، لوكينات باتاشاريا، عقيل علي، سركون بولص، عباس بيضون، محمود درويش، جاك ديريدا، إميل حبيبي، عبد الكبير الخطيبي، الخمار الكنوني، عبد الله راجع، محمد زفزاف، إدوار سعيد، محمد شكري، جمال الدين بن الشيخ، رشيد الصباغي، سيلفان صمبور، أمجد الطرابلسي، أحمد المجاطي، حسين مروة، هنري ميشونيك وبيرنار نويل. ولذلك فالكتاب هو نصوص عن الصداقة قبل أن يكون عن الأصدقاء، رغم أن كل نصوص الكتاب كتبت تحت سلطة أسمائهم. يؤلف بنيس كتاب « مع أصدقاء» مباشرة بعد ترجمة كتاب»القدسي» لجورج باطاي( توبقال، 2010). ومن يعرف بنيس أو يعرف مكتبته ومراجاعاته وقراءاته يدرك أنه قرأ باطاي و بلانشو وله تفكرات فيهما. وحين تسنح الفرصة للقول، يتذكر يوم أهداه عبد الكبير الخطيبي كتاب «بلانشو» إيقاف الموت» عندما كان بنيس على فراش المرض. وربما في نفس السنوات قرأ بنيس كتاب بلانشو «الصداقة»( غاليمار، 1971). وهنا نكتب بريشة «ج. ستاروبنسكي»: «استعادة مسهبة أو صمت؛ هذا ما يبدو نصيب جميع أولئك الذين يحاولون فهم بلانشو»، ( وربما جورج باطاي أيضا) ما دامت الصداقة هي موضوعة الفلاسفة بامتياز ومنذ أن قال سلفهم العظيم سقراط في قول نسبه العرب إلى سقراط: « إن ظن أحد أن أمر الصداقة صغير، فالصغير هو من ظن ذلك». وعندما يختار بنيس زمرة من الأصدقاء ليكتب عنهم و يتأمل، أو يستعيد، لحظات الصداقة التي جمعته بهم، من بين آخرين جمعته بهم تجارب السياسة والثقافة والتعليم، وهم كثر، ويكون و كأنه ينطق بلسان ابن عرضون: «اعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان». وهؤلاء القلائل الذين كتب عنهم بنيس في كتابه جواب ضمني على قلة الأصدقاء، و أن الصداقة «اسم بلا مسمى»، و أن الصديق هو «أي شيء عزيز، ولعزته كأنه ليس بموجود» حسب تعبير أبو حيان التوحيدي في كتابه «رسالة الصداقة والصديق». ينفي بنيس الصداقة ويثبتها. يثبتها لأن الأصدقاء موجودون ولا تكفي أعددهم وصفاتهم وجنسياتهم وألسنتهم. وينفيها لأنه يكتفي بعدد قليل من الأصدقاء، هو الذي عاش تجارب، والتقي أقواما ورجالا ونساء، وجاب أرض المغارب والمشارق، وسافر إلى ما وراء المحيطات. إنه على حق فالصداقة، فلسفيا، مفردة مبهمة وحجاب سميك. فكيف تكون واضحة وكل من انشغل بأمر الصداقة و الصديق قال إنه « إنسان لا يظهر، هو أنت إلا أنه غيرك» (بن هندور). وترجمة لهذه الفكرة يكتب بنيس:» ...كذلك عثرت على نفسي وجها لوجه مع شغف بالأصدقاء لازمني...» ( من نفسي إلى نفسي). ويضيف: هذه» نصوص لأجل أصقاء. كلمات عنهم ونداء مفتوح عليهم، من العزلة والصمت». عندما يكتب بنيس عن أصدقائه الذي أفقده الموت فيهم، يكون كمن يقف على قبورهم. ومعروف أن للعرب أقوال في واجب الصديق أن يحزن على صديقه سنة كاملة. وحزن بنيس على درويش، وسركون، وعقيل علي، و الخطيبي، والكنوني، وراجع، وإدوارد سعيد، وجل أصدائه الذين رحلوا متفرقين، يمكن أن يصل إللاى سنين. ونبرة نصوصه تقول ذلك و أكثر. صداقة بنيس هي أحد وجوهها سيرة تعلم. يصدق ذلك على صداقته بأدونيس مثلا في مجال الشعر، وبسهيل إدريس ( في مجال النشر؟). يقول: «منذ أكثر من ربع قرن و أنا أنصت إلى أدونيس و أتعلم مصاحبته.» وعن سهيل إدريس كتب:» إنه بلا ريب أحد الفاعلين الثقافيين العرب الكبار، بين الخمسينات والستينات. وهو أيضا، الصديق الكبير، المعلم والقدوة». لا مجال للشك هنا في أن بنيس هو جسر بين المغرب والمشرق. سواء في مجال النشر: تويقال و الثقافة الجديدة. أو في الشعر: دار توبقال، وقبلها مجلة الثقافة الجديدة، فتحتا أحضانهما للمشارقة، وهو أمر لامه المغاربة فيه كثيرا. ومن يتابع حركة بنيس يرى كيف يجمع أيضا صداقة المدن بالمدن: فاس ، بيروت، الدارالبيضاء، المحمدية، طنجة صديقته منذ 1966، بغداد، باريس،إلخ... بل إنه يتميز بميزة الديمقراطية حين يتحدث أو يكتب عنها بالتكافئ. منذ البداية أحب بنيس شاعر بغداد عقيل علي، ونشر له مجموعته الأولى «جنائن آدم». ربما كاظم جهاد هو من قدم الكتاب لبنيس. كان عقيل وقتها مغمورا، وبلا كتاب. اللهم بعض القصائد في «الكرمل» و «مواقف». هذه المجلة التي كانت جسرا أوصل إلى المغرب صديقا آخر لبنيس : عباس بيضون. الاسم الكبير في الشعر والصحافة. ورغم سجال سابق بينهما حول قصيدة النثر، احتفظت الصداقة بينهما على مكانها وهوائها في الحياة والنصوص. أما محمود درويش فهو الشوكة الكبرى. يبدو أن بنيس قد حزن على صديقه الفلسطيني سنة كاملة. يناديه دائما في حضرة أصدقائه بمحمود. يصمت كأنه يريد التأكد هل هو اسم أسطوري أم إنسان شاعر عاش و كتب و أنشد. أما الشاعر الفرنسي برنار نويل فيقول عنه إنه « هو القدوم دائما في ذبذبة الكلمات» ليجيب عليه برنار:» محمد، مرحبا بك في الصمت». كتاب «مع أصدقاء « فيه مسحة من التصوف ليس بسبب لغته، فلغته حديثة ولا تحليق فيها، بل هي لغة استعادية، مجروحة. إلا أن صوفية النصوص جاءت بفضل كاتبها يلغي الحد بينه وبين أصدقائه: هو هم، وهم هو.