لما أنهيت قراءة كتاب محمد بنيس «مع أصدقاء» الصادر مؤخرا عن دار توبقال، توقفت أمام السطور التالية من نص شعري موجه إلى الشاعر الفرنسي برنار نويل: «هذه الصداقة تفتح/ سردابا في برد الحدود/ وعلى نفسها تعثر أنا/ قد اختلطت بما تعدد من أنت». لن أبالغ إذا قلت بأنها من أعمق ما قرأت عن الصداقة، وقد يتبادر للوهلة الأولى أننا «أمام التعريف الأرسطي كما بلوره في أخلاق نيكوما وكما نقله التوحيدي في رسالة الصداقة والصديق»، ولكن بنيس الذي يعرف التوحيدي جيدا كما يعرف الكتابات المعاصرة عن الصداقة، ذهب أبعد من ذلك، ولربما ضد ذلك، فجاء السرداب والبرد والحدود، والصداقة التي تفتح الأنا على العالم والآخر، وليست تلك التي تغلق الباب مكتفية بذاتها، بالعقل أو بالشبيه، أما الأنا التي تعثر على نفسها، فهي لا تعثر عليها إلا لأنها فقدتها، «بدون هوية» في لغة ليفيناس، لأنها اختلطت بالآخرين، 'بما تعدد من أنت'، اختلطت لتفقد أصلها، فليس «الصديق أنت، إلا أنه بالشخص غيرك»، كما كتب التوحيدي نقلا عن أرسطو، بل هو لا يتحقق إلا فيما وراء منطق الشبيه وامبريالية النموذج، موغل في البعد، «مرتد فقط، أكون وفيا» يكتب سيلان، ففي خروجي من الذات، في تحققي كذاتية بدون ذات، كما تحدث بلانشو، في انتصاري للمسافة والبعد، تتحقق الصداقة. من النص التأبيني، إلى المقالة فالرسالة والنص الشعري، نحن أمام كتاب مختلف بامتياز، وأمام سيرة متوهجة لصاحب 'هبة الفراغ'، فيها نقف أمام وجوه مؤسسة في حياته الشعرية والفكرية، ونتعرف على شخصيات، لا نعرف بعضها، وسأتوقف طويلا أمام رسالة هي لا غرو من أجمل الرسائل في أدبنا العربي المعاصر 'إلى بغدادي صديق، إسمه عقيل علي'، نتعرف من خلالها على مصير الشاعر ومأساة بلد مزقته الحروب، تبهرني كلمات الرسالة، تقول ما لم يقله المؤرخ، إمساكها باللحظة، وصفها للقسمات، اشتغالها على الذاكرة المشتعلة.. أغلب نصوص الكتاب جاءت في وداع أصدقاء رحلوا، «قبر لكل واحد منهم. وأنا على حافة القبر، أنظر إلى جثثي القادمة»، يكتب محمد بنيس في لغة معجزة، قبر من كلمات لا تذروها الرياح.. يؤكد بنيس في مقدمة كتابه على تجاوزه لمنطق الشبه، لكنه يربط الصداقة بالوفاء، وفاء يتردد صداه في كل كلمة، عرفانا بالجميل، اعترافا وحبا، شكرا وحزنا لفقدان صديق، من سهيل إدريس 'الصديق الكبير، المعلم والقدوة' مرورا بأدونيس، وما خلفه 'كتاب التحولات' من أثر كبير على رؤية بنيس الشعرية، إلى سركون بولص ومحمود درويش وجاك دريدا وصديقه الخطيبي، اللذين كان لهما كبير الأثر على تطور بنيس الفكري، وشخصيات أخرى، بعضها نذكره وبعضها سقط ضحية الذاكرة القصيرة، فطواه النسيان أو كاد، لتأتي كلمات الشاعر وتبعث فيها الحياة، فهو في واقع الحال لا يبني قبورا لأصدقاءه، بل ينفخ من روحه فيهم، يمنحهم يوما آخر للحياة، للحزن أو الفرح، سطرا آخر أو كلمة أخرى.. هي الكلمة الأخرى التي يقولها هذا الكتاب وهو يتمرد على القول.. كلمة الصداقة.. سؤل أبو حيان التوحيدي عن أطول الناس سفرا، فأجاب:»من سافر في طلب صديق». تشاؤم التوحيدي مبرر، وكلنا يعرف معاناته من الدهماء والهمج كما نعاني اليوم منهم، ولكن ما أعظمه من سفر وإن طال وتاه وتخللته السراديب، وتربصت بنا فيه الذئاب، وكان البرد لنا فيه زوادتنا الوحيدة..