السؤال الذي يَنْطَرِحُ ناضجاً كتفاحة مُحَرَّمة من شجرة في فردوس الخيال، وأنا أقرأ الكتاب الجديد للشاعر «محمد بنيس» الموسوم ب «مع أصدقاء» (دار توبقال، الدارالبيضاء، 2012)؛ هل كل صداقاتنا الأدبية، التي كانت في حسبان الرمزي أو حتى الطوطمي أحياناً، لا تزال إلى اليوم على ذات جذوتها المُسْتَعِرة بالمحبة الإبداعية والشغف المعرفي، خصوصاً بعد أن تطورت هذه الصداقة الممزوجة بدم الحبر في مسارات الحياة، من النص إلى الشخص؟؛ أعترف أني قرأت غزيراً من الكتب، أتمنى اليوم لو لم أعرف أبداً أصحابها الذين ما أن ينبروا بالمثول لحماً ودماً وليس مجرد ورق، حتى تكتشف أنهم فعلا من ورق، وينهار ذلكم الوهم الجميل الأشبه بظمإ السراب الذي دفعنا للقاء بالمستحيل!؛ فلا نملك إلا أن نوسوس بمكر يعتريه بعض ألم: حمداً لله أن النص لم يكن في رداءة الشخص!؛ لذا ربما آثر الشاعر «محمد بنيس» ، أن يعتمر تقديمه الذي أرسله زاجلا من نفسه لنفسه، قبعة استهلالية سوداء لنيتشه الذي يقول: «وهكذا، فليتحمَّل بعضنا بعضاً، ما دمنا نتحمَّل في الواقع أنفسنا؛ ربما عندئذ ستأتي ذات يوم ساعة الفرح هي الأخرى، حيث سيقول كل واحد: كان الحكيم المحتضر يصرخ: «أيها الأصدقاء، لم يعد هناك أصدقاء!»؛ ويصرخ المجنون على قيد الحياة الذي هو أنا: «أيها الأعداء، لم يعد هناك أعداء!»؛ لن تُعَمر أو تُخيِّم طويلا، فوق رأس الكِتاب، هذه القبعة الإستهلالية بسوادها الممض الذي ينسرح بكثافات الظلال الحاجبة لفيوض الشمس، إنما سرعان ما تذروها أنفاس الشعري التي تدرأ في رئاتنا كل اختناق، مما يمكن أن يجره علينا، شطط في استعمال الصداقة؛ لينقشع غفير من التعاقدات الإنسانية التي بَرَمَ بنيس حياتها الممتدة إلى أفقٍ، مع أنداده من كبار الأدباء؛ لنوقن، وكَأَنَّا نستمسك بضماد رهيف يرأب بعض الصَّدع الفائر بالجراح، أن الإبداع ليس دائماً قاسياً لنفقد الإنسان!؛ لذا، ومن قُرة هذا الجوهر الشعوري النبيل، يصيخ «محمد بنيس» القراءة العاشقة بملء القلب، وهو على طريق القصيدة، إلى جمهرة الأصدقاء الذين منهم من تحول إلى مراثي بقوة متن الكاتب، لتبقى الشاهدة منتصبة لا يردمها نسيان، فقط يخترمنا الألم عميقاً إذ نكتشف أن الذاكرة تؤول مع الأيام، إلى مقبرة كبرى للأصدقاء؛ ومنهم الأحياء الذين يزدادون حياة في تناسخية قصوى لأرواح النصوص، شأن الشاعر السوري «أدونيس» الذي لمَّا يزل مترحِّلا في أقاليم النهار والليل، وقد خصه بنيس بكلمتين، الأولى انهمر حبرها عام 1992 تحت ميسم «أدونيس: الشعر وما بعده»، والأخرى عام 2000 باسم «صداقة أدونيس»، وهي التي رصَّع بنيس عتبة اندلاقها بالقول: «حياة من الصداقة، فيها تعلمت من أدونيس كيف لا أندم على اختيار حرية أو عزلة. درس في التواضع، حقا. وهو ما افتتح به أدونيس كتابة لها الآن أكثر من جناح، يحلق في أفق ما لا ينحد. وهذا النشيد، الذي كتبه بدمه، نشيدنا جميعاً. كتابة التحولات. وفي منعرجات المنفى ضوء به يظل النشيد صعقاً. وبه أشكر لغة التعلم، سعيدا بأن أعيش في صداقة أدونيس.» (ص 22)؛ لامراء أن هذه الصداقات التي يضعها الشاعر نُصْبَ مرآة الكتابة، هي صداقاتنا نحن أيضاً، باعتبارها إرثا رمزياً، نشترك في ثقافته جميعاً بالقراءة؛ محمود درويش، سهيل إدريس، أدونيس، لوكينات باتاشاريا، سركون بولص، جاك دريدا، إميل حبيبي، عبد الله راجع، محمد زفزاف، أحمد المجاطي، عبد الكبير الخطيبي، محمد الخمار الكنوني، إدوارد سعيد، محمد شكري، رشيد الصباغي، جمال الدين بن الشيخ، حسين مروة، سيلفيان صمبور، أمجد الطرابلسي، هنري ميشونيك، ثم ذلكم الشاعر البغدادي «عقيل علي» الذي يستقطر من النار، لؤلؤ الشعر مع العَرَق، وهو يصطلي بالاشتغال خبَّازاً، وليس بحاجة لمواقف نِفريَّةٍ حين خاطبه بنيس في رسالة مدوية : «من قبل كنت تلازم التنانير. لفحات النار، الموقدة طيلة الليل والنهار، هي ما كنت تكسب منه قوت يومك. وجهك أمام حرارة التنور. لهب النار المتصاعد. الدخان الذي يُجفّف الحدقتين، شيئاً فشيئاً. بعينين يجف ماؤهما كنت تلازم التنانير، الجوع حرفتك في الحالتين. تبحث عن قوت شاعر يكتب قصائده من أعماق العذاب اليومي. ومن جسد مُشبَعٍ بالصور الراقصة. لا تتباهى بقصيدة ولا بنظرية القصيدة، مثل ما نفعل نحن الغافلين عن مصيرك بين ساحتين. تمثال معروف الرصافي والميدان. وأنت تذرع الأرض لعلها تدل عليك زبوناً كريماً بنظرة إنسانية على الأقل» (ص 31)؛ تلكم النظرة الإنسانية هي ما تحتاجها صداقاتنا الأدبية أيضاً، التي تذرع الحياة من البيت إلى القبر، دون أن يعيرها أحد قلماً؛ صداقات تمضي أدراج النفاق الإجتماعي والمصلحي، ندفن محبتها الثمينة في أعماق كبرياء كاذب يجْتَرُّ الأوهام، ولا نذكرها ولو بِلَيِّ شفة، على الأقل في حق النص إن لم يكن الشخص؛ إن الشاعر محمد بنيس يمهر بهذا الكتاب موقفاً نبيلاً يجزم أنه لمَّا يزل مع أصدقاء (...) وأنه لم يبرح بيته الشعري الذي يوجد في ناطحة سحاب اسمها: القصيدة...!