من بعيد هذه الورقة: أذكر أني كنت طفلا صغيرا، سني لا يتعدى خمس سنوات، وملبسي كان عبارة عن جلباب صغير، ممزق من الخلف. كنا مجموعة من الصبيان، نجري ونلعب في سرادقات القرية، التي تمتد بجانبها أشجار مختلفة الأصناف والقامات، وربما تخللها ركام من الأحجار دأب سكان القرية أن يضعوها كموانع وحواجز، تمنع الرؤية إلى حيث توجد المنازل والديار، وقد بنيت بالطين والحجارة، وغطاها التبن غالبا، وقلما- في ذلك الوقت- أن تنظر إلى منزل وقد غطاه الزنك، هذا الأخير الذي هو عنوان ثراء الأسرة وتقدم مستواها المعيشي. وكانت هذه السرادقات الملتوية، والضيقة، أيام الصيف خالية من المارة، أما يوم الخميس، الذي يصادف السوق الأسبوعي، - خميس بني عْروس-، فكان السكون وعدم الحركة هما السمتان البارزتان اللتان تخيمان على مجموع القرية، فصباح الخميس كان السكان يهرعون إلى تسريج البغال والحمير، متوجهين فرادى وجماعات إلى السوق لقضاء الحاجيات: من سكر وطحين وزيت وألبسة وأغراض أخرى متنوعة، وربما حمل السكان على ظهور دوابهم بعض أمتعتهم قصد تسويقها أو تبديلها من: زيت الزيتون، وزيتون، وبيض، ودجاج، وعسل، وألبان، وزبدة، وملح، وجلود، وصوف، إلى جانب بعض الفواكه الجافة أو الطازجة، كالتين والبرقوق والبطيخ وغيرها. أما عن الصغار، ففي المساء بعد الظهر، كنا نسرع إلى طريق السوق للقيا السواقين فرحين بهم، وبما يمدونه لنا من هدايا وعطاءات. كنا نسميها-النَّفْقة- كانت عبارة عن: برتقال وتمر وحلوى مخلوطة من السكر والدقيق ومذاق عشبة «فلايو»، وقطع صغيرة من «الشباكية»... ويا لها من فرحة واغتباط ونحن نتسابق ونمرح مرددين: «اعطيني نفْقة.. اعطيك حزقة». هذه العبارة التي ترجع بي القهقرى إلى أيام الصبا والذكريات الحلوة الماتعة، وتطلعات الطفولة إلى حياة المدينة، وعشق غائر وغريزي إلى زيارتها، واكتشاف ما تزخر به من أسباب التقدم والمدنية... المهم أن اسم المدينة كان يوحي إلينا أيامها إلى أسرار ومفاتن وعجائب لا نهاية لها...