الكثير من تفاصيل التاريخ السياسي لبلادنا ظلت ضائعة لأن صانعيها وشهودها صاموا عن الكلام , وعندما ينتقلون إلى دار البقاء يأتي كتاب و فاعلون سياسيون لكي يحكوا للناس إنطلاقا من موقعهم وموقفهم من الأحداث و الأشخاص , والموضوعية قل ما تدرك في مثل هذه الكتابات لأسباب ذاتية وموضوعية , فالتاريخ كفرع من فروع العلوم الإنسانية يعاني بصفة خاصة من صعوبات إبستمولوجية مفروض علينا تقبلها مع إثارة إنتباه الفاعلين السياسيين إلى أهمية الحديث إلى الرأي العام وتنويره , بدل ترك الوقائع التاريخية تتحول إلى وسائل لتصفية الحسابات السياسية , وصياغة وعي مزيف للأجيال المختلفة بتاريخ بلادها. منذ حوالي ثلاثة أسابيع والسيد بوبكر الجامعي يجلس على كرسي الإعتراف بالصفحة الأخيرة من جريدة "المساء " , حيث تحدث عن وقائع عاشها شخصيا من خلال تجربتي الصحيفة ولوجورنال في لحظة مهمة من الإنتقال السياسي في المغرب , وتحدث أيضا عن وقائع أخرى كان ناقلا لها , إما لأنه كان صغير السن أو فقط كان مستمعا لها من مصادر مختلفة منها من قضى نحبه..لا شك أن أمر الحديث عن جزء من الذاكرة السياسية والإعلامية لبلادنا أمر محدود , خاصة عندما يثير ردود فعل لتصحيح وتوضيح بعض الأحداث والوقائع , وهنا نستحضر توضيحين وجههما كل من الأستاذ عبد الحميد عواد و السيد العلمي الصحفي المغربي بمكتب قناة الجزيرة بواشنطن , وعند قرائة التوضيحين , يظهر إلى أي حد تكون الموضوعية والحقيقة ضحية , سواء بالنسبة لما يروى عن الآخرين وهو ما كان موضوع رد الدكتور عبد الحميد عواد في إدعاء رمييه لزوجة خالد الجامعي بمرمدة ( طفاية ) عندما جائته تشكوا ضيق الحال بعد إختطاف زوجها, وكان عواد ساعتها مديرا لجريدة لوبينيون الجهة المشغلة للسيد خالد الجامعي , وفي التوضيح الثاني الذي قدمه السيد العلمي حول بعض الوقائع المتعلقة بلقاء أبوبكر الجامعي بزعيم جبهة البوليساريو بالولايات المتحدةالأمريكية , وهذه الواقعة يوجد فيها بوبكر الجامعي كفاعل ومع ذلك لم تسلم من توضيحات العلمي الذي سلط الضوء على الكثير من تفاصيل ذلك اللقاء لم نستطع كقراء بلوغها في ما قاله أبوبكر الجامعي, من هنا يتضح أن رواية التاريخ سواء رواية من عاش الوقائع أو من سمع عنها تبقى مطبوعة بالنسبية و هشاشة الموضوعية. في عدد نهاية الأسبوع الأخير وبالضبط الحلقة 22 من كرسي الإعتراف , تحدث أبوبكر الجامعي عن لقائه بإدريس البصري بعد إقالته من منصبه , ونقل عنه بدقة بالغة تثير الدهشة فقرات تحدث فيها عن الأستاذ عباس الفاسي الأمين العام لحزب الإستقلال , وهي فقرات فيها الكثير من الإساءة , منقولة عن رجل غادرنا إلى دار البقاء , وبالتالي من الصعب مناقشة ما نقل عنه , ولكن من واجبنا أن نضع القارئ في صورة العلاقة التي كانت تجمع وزير الداخلية الأسبق بحزب الإستقلال وقادته , وحتى إذا صدقت رواية البصري على لسان الجامعي والتي كلها قذف في حق الأستاذ عباس , فإن ذلك له ما يبرره من رجل جاهر بالعداء لحزب الإستقلال وهو في موقع المسؤولية كرجل النظام القوي, فالجميع يتذكر أن رفض الأستاذ آمحمد بوستة العرض السياسي بقيادة الحكومة إذا إستمر البصري وزيرا للداخلية , جر على حزب الإستقلال حقد إدريس البصري حيث كانت واقعة الرفض سببا في تأخر تجربة التناوب , وشكلت إنتخابات 1997 فرصة البصري الذهبية لرد الصاع صاعين لحزب الإستقلال , حيث أمعن في تزوير نتائج الإنتخابات وتعمد جعل حزب الإستقلال في نفس مرتبة حزب صديقه الكومسير عرشان حديث العهد , علما أن حزب الإستقلال كان قبل أشهر فقط الأول في نتائج الإنتخابات الجماعية , بل إن عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب في تلك الإنتخابات تجعله في المرتبة الثانية بعد الإتحاد الإشتراكي بفارق لا يتعدى 40 ألف صوت , بينما جعلت هندسة البصري هذا الفرق على مستوى المقاعد يتعدى 26 مقعدا برلمانيا , فكانت هذه النتائج سببا في عقد حزب الإستقلال مؤتمرا إستثنائيا , وفرضت على السيد عبد الرحمان اليوسفي المعين وزيرا أولا إنتظار إنهاء حزب الإستقلال لمؤتمريه الإستثنائي والعادي لتشكيل حكومته بعيدا عن الأرقام التي أعلنتها وزارة البصري في الداخلية ,وكان قرار الأمين العام الجديد لحزب الإستقلال السيد عباس الفاسي هو عدم اللإستوزار في حكومة اليوسفي إنسجاما مع موقف الأستاذ آمحمد بوستة برفضه وجود إدريس البصري في حكومته , ولا ينسى أحد أن وزراء حزب الإستقلال في حكومة اليوسفي هم الوحيدين الذين قاطعوا حفل تكريم إدريس البصري عند إعفائه من مسؤوليته كوزير للداخلية , وعند أول تعديل حكومي بعد ذلك شارك الأستاذ عباس الفاسي في حكومة اليوسفي كوزير للتشغيل والشؤون الإجتماعية, وبالتالي فعداء البصري لعباس الفاسي شيء لا يحتاج إلى دليل , وعندما يكون العداء ثابتا فإنه من الصعب إنتظار المديح. يبقى أن إفادات أبوبكر الجامعي ورغم ما يمكن أن تثيره من ملاحظات , فإنها أتاحت لنا الفرصة لتسليط الضوء على جزء من الذاكرة السياسية القريبة , والتي أصبحت بسرعة موضوع تأويلات تتعسف على الحقيقة.