القضاء في بلادنا غير نزيه وغير عادل وغير فعال، والحديث بصيغة التعميم لايعني عدم وجود قضاة نزهاء وعادلين وفعالين، ويتمتعون بقدر كبير من العفة والمروءة. هناك إجماع على أن القضاء عليل، والخطاب حول الإصلاح ليس جديدا، بل ظلت إشكاليته مطروحة منذ البداية الأولى للاستقلال ، حيث تبلورت بعض المبادرات في هذا الاتجاه، من أبرزها تلك المتعلقة بتعريب لغة القضاء في المداولات والأحكام والمستندات، وتأطير وتأهيل الكفاءات المغربية، وضمان استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتوفير المزيد من النصوص التشريعية المدونة لتسهيل مأمورية التقاضي ، وإدماج القضاء الأجنبي في القضاء المغربي في إطار التوحيد والمغربة، وتوسع دائرة المحاكم وتعميمها عبر مختلف المناطق والجهات من أجل تقريب القضاء من المتقاضين، وإذا كانت بعض هذه الأهداف تحققت فإن المنظومة القضائية، مع ذلك ، ظلت تشكو من مظاهر الاعتلال التي تفاقمت عبر السنوات والعقود وأفرزت تشوهات مزمنة أصبح علاجها أمرا مستعصيا، وهو ماكان له انعكاسات سلبية على الأمن والاستقرار وعلى التطور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وعلى البناء الديمقراطي بشكل عام.. لقد ظلت قضايا كثيرة تروج أمام المحاكم المغربية، لسنوات طويلة دون أن تجد طريقها إلى التسوية، بالرغم من مرورها عبر مختلف مراحل التقاضي، وهكذا تصدر المحاكم الابتدائية أحكاما تؤيدها محاكم الاستئناف، وعندما تصل إلى المجلس الأعلى، تعود بقدرة قادر من حيث بدأت، ليس بسبب أخطاء قانونية يستوجب الأمر تصحيحها، وإنما بسبب عوامل خارجية قد ترتبط بالفساد أو بالرشوة أو باستغلال النفوذ أو بالخضوع للتعليمات من أجل إبطال مفعول سلطة القانون، مما يزكي فقدان الثقة لدى المتقاضين في القضاء ورجاله. وهذا الأمر لا غبار عليه، فقد أشارت إليه الكثير من الدراسات والأبحاث، حيث حصل شبه إجماع على أن الجهاز القضائي ظل يعاني من معوقات واختلالات بنيوية كثيرة، وقدمت بخصوص إصلاحه العديد من المقترحات والمطالب من قبل الجمعيات الحقوقية والأحزاب السياسية، في مقدمتها محاربة الرشوة في قطاع العدل، وتحديث المنظومة القانونية، وإصلاح المجلس الأعلى للقضاء، وتكوين الموارد البشرية، والإسراع بتنفيذ الأحكام القضائية، وقبل هذا وذاك ضمان الاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية، وهو ما يستوجب ترجمته على مستوى تنزيل مضامين الدستور الجديد، ولاشك أن إعلان وزارة العدل والحريات عن إطلاق حوار وطني لأجل الوصول إلى ميثاق لإصلاح العدالة يندرج في هذا الإطار. وبهذا الخصوص لابد من الإشارة إلى أن جلالة الملك محمد السادس، سبق أن أكد في أول خطاب للعرش سنة 1999، على ضرورة ترسيخ دولة القانون، واعتبار إصلاح منظومة العدالة من أولويات الإصلاح الشمولي للبلاد، وهو التوجه الذي شدد عليه جلالته في أكثر من مناسبة، حيث دعا في ثاني خطاب للعرش سنة 2000 الى وضع مشروع خطة لإصلاح القضاء، وهي الدعوة التي جددها جلالته في سنوات 2003 و 2007 و 2008 و 2009 و 2010 . وبدت معالم الإصلاح واضحة في الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب، حيث تم تحديد ستة محاور أساس لإصلاح القضاء، تهم دعم ضمانات الاستقلالية، وتحديث المنظومة القضائية، وتأهيل الهياكل القضائية والإدارية، والرفع من النجاعة القضائية، وتأهيل الموارد البشرية، وأخيراً تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ، وكانت آخر محطة في مسلسل اهتمام جلالته بإصلاح المنظومة القضائية ، الخطاب الملكي السامي ليوم 9 مارس 2011 والمتعلق بالإعلان عن الاصلاحات الدستورية وتقديم تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية، ومن المفيد جداً أن يستفيد الحوار الوطني الذي أطلقه الأستاذ مصطفى الرميد وزير العدل والحريات من مختلف التراكمات التي سبقت الإشارة إليها مع التركيز على إعطاء جرعة قوية للتفعيل والانتقال إلى السرعة القصوى من أجل ترجمة الأقوال إلى أفعال..