وزير الخارجية السابق لجمهورية البيرو يكتب: بنما تنضم إلى الرفض الدولي المتزايد ل"بوليساريو"    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء        اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    الدار البيضاء.. حفل تكريم لروح الفنان الراحل حسن ميكري    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب        مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"        افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا صاح... !
نشر في العلم يوم 25 - 12 - 2011

الشمس شبه غائبة، البحر هادئ به زوارق شراعية رياضية أصحابها يعانقون الماء ولكن قبل الجلوس إلى طاولة المقهى للكتابة، في طريقي التقيت بصديقي عبد المالك، التقينا صدفة بجانب باطا قرب بار طارق قبلتنا المسرح البلدي. يرتدي بذلة رياضية زرقاء وسروال جينز، جاء إلى الجديدة في زيارة خاطفة لهذا لم يهاتفني ولم يحدد موعدا.
عبد المالك صديق قديم عرفته سنة 1975. في الإعدادي درسنا عند النعماني اليهودي المغربي كان أستاذ اللغة الفرنسية. كنا نشاكسه. منذ ذلك العام وعلاقتنا لم تخفت، بل زادتها الأيام صلابة ومرونة، عبد المالك صديق قاتل ومجرم في حق نفسه وأصدقائه ووطنه والتاريخ. انخرط في النضال منذ صغره في حزب كان آنذاك لا يجرؤ المرء على أن يشتري جريدته ويتصفحها في الشارع، المخبرون له بالمرصاد، حزب قدم تضحيات جسيمة وضرائب عديدة وما ازداد إلا صلابة، أنهكه الانتهازيون والمخبرون والسماسرة والقوادون فما نالوا منه لا حقا ولا باطلا، ما زال رائدا في الساحة المغربية رغم الداء والأعداء، حاولوا الإطاحة به دون جدوى.
عبد المالك ينتمي لهذا الحزب الذي خرج من جبته، مفكرون وقصاصون وشعراء ونقاد وفنانون وصحفيون وإذاعيون ووزراء وعقول بنت المغرب الحديث.
عاش طفولة قاسية في بادية نواحي الجديدة، درس في الجديدة. نزل ضيفا على خالة والده، وجد نفسه وحيدا. وفي عطلة الصيف يحمله أبوه إلى البادية يشغله في جلب الماء وغيرها من الأعمال الشاقة. كابر وكبر درس ونجح وتغلب على الصعاب، اشتغل قبل أن يحصل على البكالوريا. حاز استقلاليته، سكن في حي القلعة. بيني وبين مسكنه أمتار. زرته مرارا في بيته، حكينا دردشنا شربنا، هو الذي عرفني على كتابات حنا مينه، كلامه أكبر من سنه يتفوه بالحكمة نظرا لقساوة الطفولة واحتكاكه بمناضلي الحزب ومثقفيه من كل حدب وصوب.
أفلت من الاعتقال في سنوات الثمانينيات في أحداث 1984 التي أتت على الأخضر واليابس وقتل فيها خلق كثير.
صديقنا المشترك بوشعيب اعتقل وتعذب ونال حظه من التنكيل وخرج صلبا قويا وعاش مناضلا حقيقيا وما زال نظيفا إلى الآن، ألتقيه بين الفينة والأخرى، كان شعلة نشاط ونضال لكن الأيام هضمته حقه ولم تترك له بين أنيابها إلا الفتات. أخيرا انفصل عبد المالك عن زوجته وابتعد عن ابنتيه. أحسه يعاني الأمرين لكنه قوي يعقلن الأمور. يهرب في بعض الأحيان إلى القنينات يكرعها، يتحدث بعصبية. حينما أخبرني بذلك، صدمت، جثمت علي سحابة كادت أن تجود بمطرها لولا عزة النفس، صال وجال، خير النساء أحب، تزوج ورزق ابنتين، وحال الفراق بينهما وهو الآن يمر من مرحلة عصيبة أكيد سيتغلب عليها. يبحث عن ذاته من جديد.
صديقي هذا أعزه. تركته واتجهت إلى المقهى لكن كما سبق أن قلت عبد المالك مجرم. في حق نفسه وأصدقائه ووطنه والتاريخ، لأنه ببساطة منذ نعومة أظافره وهو يرسم لوحات آية في الروعة لكنه وأد موهبته، لو صقلها ودفع بها بعيدا لكان اليوم من زمرة الفنانين التشكيليين الذين يملأون البلد.
البحر مازال أمامي لم يرحل، مويجاته الآتيات أكثر من الرائحات كما قال حجا. ومقهاي مازالت هي هي والذكريات من عهد عاد.
صديقي قبل الافتراق سألني سؤالا لا أستطيع تصنيفه أهو سؤال ساذج أم ساخر أم فلسفي عميق أم نكتة، سؤال يستحق أن نقف عنده.
سألني عبد المالك:
-أفلاطون، أرسطو، ابن رشد، ابن خلدون، فوكو، ماذا تركوا للبشرية، ولعامة الناس، إنهم لم يفعلوا شيئا سواء كانوا أم لا، تفلسفوا أم لا. فالبشرية جمعاء سائرة في طريقها وليست في حاجة إليهم. هل العالم سيقف بدون ابن رشد؟
ضحكت على هذه النكتة، السؤال، الساخر الساذج العميق.
وفي اللحظة تولدت لدي تساؤلات.
ولكن العلماء والمخترعين تحتاجهم البشرية، فعامة الناس في حاجة إلى البنسلين وشراب ضد السعال إلى الدراجات والسيارات والشاحنات والطائرات والقطارات والبواخر والهواتف والأسلحة والكهرباء والمضادات الحيوية، وليسوا في حاجة إلى إشكالية العقل والنقل أو العقل الخالص أو موت المؤلف أو التاريخ.
ثم تولد لدي تساؤل ثالث:
أليس الساسة والحكام هم الذين يحتاجون إلى النظريات الفكرية والفلسفية لتوظيفها حسب هواهم ومعتقداتهم ليتسلطوا على رقاب العامة؟
دامت التساؤلات بضع دقائق وافترقنا وضحكة مدوية اشتركنا في تفجيرها، تركته وانسللت إلى مقهى Face à la mer لأكتب، لكني وجدت نفسي أكتب عن عبد المالك وكأنه جاء خصيصا ليوجه شراع الكتابة.
صيفا من أصياف الله مكث معي في المنزل، قضينا أجمل أيام العمر، كانت الراح راحتنا ناقشنا الأفكار ضحكنا ضحك طفلين معا وعدونا فسبقنا ظلنا. نقضي يومنا على الشاطئ ومساءاتنا في شرب الخمر أو نذهب إلى الحانة، ومن النكت التي كانت تولد من تلقاء نفسها: حكيت له مرة قصة وقعت لي وأنا في القسم الخامس ابتدائي سنة 74، فرغنا من كتابة درس في النحو درس «الممنوع من الصرف» وكنا آنذاك نكتب بالريشة والمداد، انتهيت من نقل الدرس من السبورة إلى الدفتر ولم أنتبه إلا والمعلم يتأمل دفتري ويأمرني بقراءة العنوان قرأته، «الممنوع من الصرف»، وإذا بصفعة تدوي على صفحة خدي وأمرني بإعادة القراءة ،قرأت تحت سوط الدهشة «الممنوع من الصرف» وإذا بصفعة ثانية توقظني من دهشتي،إثرها انتبهت وغرقت في بركة خجل، أمرني أن أمحو الزلة وأن لا أعود إلى هذا السلوك المشين، وأقسم بأغلظ الإيمان ما اقترفت الزلة ولكن اللاشعور هو الذي قبض على ريشتي وأبدل الفاء ميما فصار العنوان الممنوع من الصرم» والصرم في دارجتنا المغربية إن لم تكن الكلمة فصيحة تعني فرج الطفلة التي لم تبلغ.
وما أن أنهيت الحكاية انفجر صديقي بالضحك وأضاف تلقائيا وكنت يومها عاطلا عن العمل وأعزب.
- ومن يومها وأنت ممنوع من الصرم ومن الصرف.
انتابتنا عاصفة من الضحك ونحن على الرمال ضحكنا حتى سالت دموعنا. عبد المالك عمر. شباب وبداية كهولة، خمس وثلاثون سنة ،ومحطتنا متواصلة لم تنقطع مهما افترقنا دائما الخيط الرفيع يشدنا إليه. خيط الحياة. خيط الإبداع. خيط الهم، خيط النظر، خيط الأحلام المتقاربة.
طلاقه من زوجته أرقني أحسست بيتم. شيء في الصدر لا أعرف مصدره، هل سيظل بعيدا عن ابنتيه هو الذي يملك قلبا كبيرا لا تسعه الجبال، مهما كابر مهما تمرد مهما تعقل فالأحشاء ثلج محبة سرعان ما يذوب مع أول لمسة حنان. مهما تحدث عنه، فمسيرة خمس وثلاثين سنة مليئة لن أوفيها حقها. هذه مجرد لفتة نحو هذا الصديق نحو هذا المجرم الذي ارتكب جريمة في حق الكل.
عبد المالك إذا رأيته رأيت فتى متوسط القامة لا يشتكي منه طول ولا قصر ،نحيفا حينما عرفته أول مرة، سمن مع الأيام شعره أسود غزير، وحين يضيف اللحية تظنه جيفارا أو مارسيل خليفة، دكالي الأصل من عائلة عريقة.
في فترة من حياته أزال اللحية وترك الذقن موضة العصر آنذاك شأن أغلب المثقفين والفنانين والوزراء، مستواه الدراسي لا بأس به لم يتميز في أية مادة لم يحصل على البكالوريا. اشتغل في وكالة توزيع الماء والكهرباء، استقر أخيرا. أصبح له دخل مادي، تغيرت ملامحه لأن الوظيفة تفرض هنداما ولياقة خاصة. أما سنوات البطالة والبوهيمية فالمرء يترك فيها الحبل على الغارب يعيش بالطول والعرض لا يأبه لصغيرة ولا كبيرة.
ظلت صداقتنا متينة لم تشبها شائبة ولم يشق لها غبار ولم يصبها عثار. عرفته فتى حيويا، وضع بين يدي بعض صوره منذ كان صغيرا مع صويحباته وبعض الأصدقاء مشتركين، رأسه مشلولة بالأفكار، أحسه منذ سنوات كطائر في قفص. يغني. يغرد. يرقص لكن مذبوحا من شدة الألم. شيء ما ينقصه بل أشياء. عجيب أمره كم قعدنا نحتسي البيرات في بار روايال، لفنا الحكي في دروبه لفا، نقفز من سنة لأخرى لا يحدنا حد ولا ننتهي. نتذكر أستاذنا النعماني اليهودي وقصة خصامنا حيث كنت أشاكس عبد المالك فنهض لتوه قاصدا مكتب الأستاذ وشكاني إليه.
لم أستسغ تلك الشكيمة فانقطع حبل الكلام لمدة لا أدري كم بلغت ثم عدنا نكمل المشوار. حدثني كثيرا عن زملائه في الحزب. هو الآن بين المطرقة والسندان في الشرنقة لا يعلم متى يخرج منها.
نلتقي بلا مواعيد. نغيب عن بعضنا أياما وشهورا لا أكلمه في الهاتف وتلك عادتي مع جميع الأصدقاء، لأني لست من هواة الأنترنيت واستعمال الهواتف. أعجب للذين يهاتفون الشمال والجنوب يزعمون صلة الرحم ولكنهم في الحقيقة أغنوا شركة الاتصالات فبلغت مبالغ خيالية ولو كانوا مثلي يتكلمون عند الضرورة لما اغتنى أباطرة البرق.
هو الذي يكلمني ويعاتبني على عدم مهاتفته فأجيبه كما يجيب باقي الأهل والأقارب والأصدقاء.
-تلك عادتي لا أنشغل بمحادثة الناس.
وأخيرا اقتنع الكل وتركوني لحال سبيلي.
ذات ليلة من ليالي الصيف، هبطت أنا وعبد المالك إلى شاطئ البحر بسراويل قصيرة وقد لعبت الخمرة برؤوسنا فانجر ينبوع الضحك. حكى لي نكتة:
« كان آسيدي فواحد القبيلة واحد الراجل كيدعي أنه يعرف العامل والباشا والوزراء في الرباط وكان يلبس مزيان دائما مشيك ومفركس والقبيلة ضاربة ليه ألف حساب كتحتارمو بزاف، واحد النهار القايد آمر باستدعاء القبيلة كلها وحتى واحد ما يتغيب وإلا غادي يتعاقب. إوا خينا جا مع الناس تفاجأ بالصف الطويل، الناس شادين السربيس، إو هو كيعرف الباشا والعامل والقيد والوزراء كيف غادي شد الصف، حار في أمرو لكنه دفع الجبهة وزاد دخل على القايدبلا ما يدق فالباب. ناض ليه القايد شبعوا تصرفيق وشرك ليه حوايجو ودفعوا برا خرج كيضحك ويصوب في حوايجو ويكول:
هاذ القايد اشحال عزيز عليه الملاغة والضحك»
ما أن أنهى عبد المالك هذه النكتة حتى استلقيت على قفاي من فرط الضحك ولم أقو على النهوض من على الرمال. ليلة قضيناها نائمين على عشب حديقة محمد الخامس حتى اقترب الصباح فرجعنا إلى الدار.
مساء من مساءات فصل الربيع كنا معا تواعدنا على اللقاء أمام المسرح البلدي، تمام السادسة التقينا توجهنا جهة البحر مررنا على مبنى النقابة وعرجنا إلى الكورنيش. السبت الأجواء مملوءة، عبد المالك يرتدي بذلة رياضية زرقاء، بانت جبهته. تناقص شعره وحينما جلسنا في المقهى بجانب البحر اكتشفنا أننا أصبحنا أصلعين، التقط لي صورة بهاتفه النقال فبانت صلعتي وأراني صوره فاكتشفنا زحف التعرية إلى الرؤوس.
حدثني عن مشواره حينما قدم استقالته من العمل رغبة في إتمام دراسته بعدما حصل على البكالوريا، تسجل في كلية الآداب بالجديدة، ترك الوظيفة كمحصل للماء والكهرباء وعاش حياة الطلبة والتسكع، لكن سرعان ما ندم وأراد الرجوع فكتب رسالة واتجه إلى الإدارة وكان على رأسها مدير يقام له ويقعد فسلم أمره لله وذهب، اتجه نحو السكرتيرة، وضع طلب الرجوع إلى الوظيفة تسلمته منه وأمرته العودة بعد ثلاثة أيام. ترك الرسالة، انصرف إلى حال سيبله تتقاذفه أمواج اليأس والرجاء.
اليوم الثالث قصد الإدارة ليستفسر فكان الفرج، لم يدر كيف؟
-سألهم المدير لم تخلى عن وظيفته؟
-أجابوه إنه موظف صالح ذهب دون أي سبب.
-قال لهم: ما دمنا في حاجة إلى موظفين جدد أعيدوه.
يحكي علي قصته والتأثر باد عليه عاد إلى الوظيفة وتابع دراسته لكنه لم يحصل على الإجازة لأن زوبعة قصفت بأحلامه. شتتهم المدير وأحدث انتقالات فأسقطته الزوبعة في خميس الزمامرة.
دق بابي ذات زوال وقفنا على ناصية الدرب بحي القلعة رأيت إنسانا آخر كان متذمرا أشد التذمر كره الابتعاد عن الجديدة يحدثني ويكاد يبكي استسلم لقدره ورحل. عاش حياة أخرى فتحت له أبواب وتأقلم. وتزوج ورزق بابنتين.
في المقهى حدثني عن استغراب والده.
-والدي شكك في رجوعي، ظن أنني أصبت بخبل وتحقق بنفسه. ولامني على عدم الإفصاح عن رجوعي محتجا:
-ماذا أقول للناس إذا سألوني عنك؟
-لا تقل شيئا. حينما كنت عاطلا سألوك عني. لا أحد مد لي يد العون كلهم يتفرجون علي. رجوعي إلى العمل لا يهم أحدا.
صمت الوالد وانفض اللقاء.
عبد المالك يتأقلم الآن مع وضعه الجديد يعاني الأمرين، لم يحصل على البكالوريا لكنه حصل على وظيفة، حصل على البكالوريا ترك الوظيفة وولج الجامعة عاد إلى الوظيفة فطوح به بعيدا عن الكلية ولم يحصل على الإجازة. تزوج ورزق بطفلتين لكنه طلق. الحياة تعطيه شيئا لتسلب منه آخر واحدة بواحدة تأخذ تعطي، تعطي تسلب وكأنها استأثرت عليه أكثر من عطاء.
يتأمل، يسرح ببصره بعيدا ثم يعود للحديث يتقلب هنا وهناك يتذكر حياته، يحن إلى الماضي إلى ربيع العمر أشياء انفلتت منه، دائما يرجع السبب له. عقدة أوديب تأسره هل فعلا هناك عقدة أوديب، عقدة قتل الأب؟
نحن ليست لنا عقدة أوديب بل عقدة إسماعيل الذي أراد أبوه إبراهيم أن يذبحه فرد عليه يا أبتي افعل ما تومر.
إسماعيل فدية والكبش هبط من الجنة. فلم ترفض يا عبد المالك أن تكون كبش فداء شأنك شأن القطيع.
حكى لي عشقه لمدينة الصويرة وأنه لم يزرها ثلاث عشرة، سنة يحكي عنها بجنون ويتذكر قصته فيها مع وجده وحنينه، مع قلبه الولهان الذي تناثرت نبضاته عبر صفحات شبابه المأسور.
افترقنا على أمل اللقاء يوم الأحد صباحا بالمسرح البلدي لمشاهدة عرض خاص بالأطفال. انتظرته داخل القاعة رفقة ابنتي لينة لكنه لم يأت.
في بحر هذه السنة اكتشفت انتفاخا في حنك عبد المالك، ظننته ضرسا مريضا أو التهابا فلم أعبأ بالأمر، لكن الانتفاخ لم يزل.
مرت أيام والانتفاخ على حاله.. حتى أثار انتباه الجميع. فقرر أن يزور الطبيب لمعرفة الداء.
في خلوتي، أتذكره، وكلي قلق وخوف عليه من هذا الورم الذي نبت في حنكه... كل الشكوك والظنون والتخوفات ذهبت إلى مرض السرطان.
أخذ الأمر على محمل الجد وشمر على ساعده وطرد الهواجس وقصد طبيبا صديقا له. ففحصه وطلب منه على الفور أن يخضع لفحوصات إشعاعية في الدار البيضاء، وذلك ما كان. صديقي عبد المالك في قفص المعاناة شوقه متعلق ببنتيه. يحمل همهما، تحطمت شراعه على صخر الحياة الأصم. طلاقه.. ديونه، وما كاد يتشبث بحبال النسيان حتى رزئ في موت والده.
والده هذا رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على صداقتنا لم يكتب لي أن أراه ولو مرة واحدة. حتى جاءني بمجموعة من صوره بعد وفاته. حكى لي عنه الشيء الكثير كان موشوما في ذاكرته، نقش في جسد الصبي حروف ملحمة كلنا عشناها. وعاشها الذين سبقونا.
حزن حزنا شديدا. لم أعلم بموته، أخبرني عبد المالك عبر الهاتف أديت واجب العزاء، والتقينا بعدها.. كان عبد المالك شخصا آخر ... هادئا، متأملا هدوءه استراحة محارب تكررت لقاءاتنا. كان يبثني لواعج قلبه. يشكوني همه... جاءني بدفاتره القديمة حكى لي عن أحوال القلب كان يتذكر يخرج ما في جوف البئر ... كل الخبايا طفت على السطح...
صديقي يتكلم، تحتدم الحكايا في نفسه، يجيش صدره. جلساتنا في المقهى. نراقب البحر كي لا يرحل، ميناء الجديدة، المون، النوارس تؤثث فضاء الشاطئ الذي تفجرت فيه ضحكاتنا، نكتنا، أفكارنا، تأملاتنا، أسرارنا، كنا نستلقي على رماله تحت حرارة الشمس الصيفية، وهات ما عندك يا ذكريات ويا أشجان، ويا حنين ويا زمن الوصل بالأندلس...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.