لعل من أبرز القطاعات التي توليها حكومة الرئيس عباس الفاسي كبير الإهتمام منذ التصريح الحكومي، هما قطاعا الصحة والتعليم، أولا لأنهما يجسدان بحق الحقوق الإجتماعية والكرامة بالنسبة للمواطن وثانيا لأنهما كانا يعرفان تأخرا كبيرا على جميع المستويات وبالتالي هما في حاجة إلى عناية خاصة، وثالثا لأنهما من أبرز المؤشرات بالنسبة للتنمية البشرية التي تعتمدها العديد من المنظمات الدولية في إعداد تقاريرها السنوية حول التنمية والتنافسية الإقتصادية، ويعلم الجميع حجم تأثير هذه التقارير على جلب الإستثمارات الخارجية وتطوير مناخ الأعمال وبالتالي كانت العديد من جهود التنمية والإصلاحات الماكرو إقتصادية التي بذلها وأنجزها المغرب، تضيع بسبب التأخر الحاصل في قطاعي الصحة والتعليم، هذين القطاعين اللذين يمسان ملايين الأسر المغربية بشكل يومي ويهيمنان على حقل الوظيفة العمومية بشكل واضح. كثيرا ما كانت طريق ودروب الإصلاح في قطاع الصحة أشبه بحقل ألغام، وكان زخم الإصلاح يرتبط جوهريا بحجم كاسحات الألغام التي يلجأ إليها كل وزير في القطاع، فصادف أن العديد من الوزراء كان لهم مرور عابر وبلا تأثير أو كانوا صوت اللوبيات التي أجادت التحكم في القطاع لسنوات طويلة ومع ذلك كانت هناك نماذج أقدمت على مبادرات لم تكن موضع ترحاب، وبكل تأكيد أحوال الصحة تنقسم إلى نوعين منها الجانب المؤسساتي والقانوني والسياسي والذي هو منوط بصفة موضوعية بالوزارة كجهاز حكومي سياسي، وهناك جانب آخر يتعلق بالسلوكات الفردية للعاملين في قطاع الصحة وهنا سيكون من الخطأ أن نجعل الجميع في سلة واحدة، ففي قطاع الصحة نساء ورجال يستحقون كل أنواع الأوسمة الممكنة والمستحيلة دون أن يمنع ذلك من الإقرار بوجود نماذج تستحق كل أنواع المشانق.... ياسمينة بادو منذ توليها مسؤولية القطاع وهي تتعرض للجلد اليومي وبلغ الأمر في مناسبات إلى الضرب تحت الحزام، بما يشكل دلالة على حجم السكين الذي أدارته جيدا في ثقب الفساد المتعفن في القطاع، وكما وجدت أنصارا كثر لمخططها الإصلاحي وجدت لوبيات تقاوم عملية الإصلاح بوجوه مختلفة وبشعارات تحاول أن تفتري على الحقائق وتلوي عنق الشعارات لكي تبلغ أهدافها، ويكفي التذكير بموضوع الطبيبات المتخصصات اللواتي رفضن الإلتحاق بمراكز التعيين عكس الأغلبية التي إستجابت لنداء الوطن والضمير المهني، فحاول البعض توظيف هذه الأقلية لضرب الوزيرة سياسي، لكن موقف الوزارة كان مبنيا على أسس متينة جعلت كل محاولات التشويش والتوظيف غير البريء تسقط بشكل متوالي، ويكفي القول بأن تشنج بعض الجهات جعلت البعض يلجأ إلى أسلحة الدمار الشامل في سابقة لم يعرفها العالم ككل وهي تعطيل المستعجلات للضغط على الوزيرة دون أدنى إلتفاتة لقسم أبوقراط ولا إلى المبادئ الإنسانية التي تجعل إستعمال المرضى رهينة لحسابات سياسية ونقابية أمر مرفوض جملة وتفصيلا. بداية هذا الأسبوع طلع علينا الدكتور محمد بناني الناصري في حوار مع « الوطن الآن» وصف فيه مشروع الإصلاح بقطاع الصحة هو مدخل للمتاجرة في الصحة، وفي سبيل التأكيد على ذلك لم ينس بناني أن يعرج على موضوع قرار وزيرة الصحة الإغلاق المؤقت لعدد من المصحات بناء على تقارير وقفت على عدم إستجابتها للشروط الدنيا لممارسة المهنة، وبدل أن يختار السيد بناني جهة وزارة الصحة خدمة لقضية نبيلة، فضل التصرف كباطرون نقابة بمنطق عتيق وخاطئ هو أنصر أخاك ظالما أو مظلوما, والواقع أن الوزارة تأخرت في إتخاذ مثل هذا القرار والمواطنون يعرفون بأن بعض المصحات تحولت إلى ما يشبه « الكرنة « وأصبحت عبارة عن مؤسسات أشباح، فعدد منها لا يتوفر على عقود عمل للأطباء والممرضين الذين يمارسون بها، والسبب هو أن عددا من أطباء القطاع العام اللذين يتقاضون أجورهم من الدولة، حولوا هذه المصحات إلى منجم للأموال غير خاضعة للضرائب، بل والأخطر من ذلك أصبح مرورهم في المستشفيات العمومية مجرد زمن لإصطياد زبناء للمصحات الخاصة، السيد بناني يعترض على مشروع يفتح المجال للرأسمال بالإستثمار في قطاع الصحة , ويقدم إعتراضه مقرونا بالتخوف بأن يتحول الأمر كله إلى تجارة , والواقع الذي يرتفع هو أن ما هو حاصل اليوم هو تماما ما يحذرنا منه السيد بناني ويدافع عنه بقليل من الشجاعة وبكثير من المغالطات...ما لا يريد قوله السيد بناني ببساطة هو أنه يرغب في أن يكون الإستثمار في قطاع الصحة إمتيازا وريعا خاصا بالأطباء الأغنياء وبغرابة حاول بناني الربط بين ممارسة المهنة التي لها بطبيعة الحال شروط علمية خاصة وبين الإستثمار في المباني والتجهيزات , علما أن الأسعار في القطاع لا تخضع لقوانين السوق كما يحاول أن يوهمنا بناني وحواريوه، بل هي أسعار تسير تدريجيا من خلال نظام التغطية الصحية لتصبح أكثر شفافية ووضوح وهذا الأمر يدركه كل المهنيين. لماذا قدمت الوزارة هذا المشروع ؟ ببساطة لأن التأخر الحاصل في البنيات الصحية نتيجة تراكم سنوات وفي أفق تنزيل التغطية الصحية وتعميمها على التراب الوطني , فإن الدولة لكسب هذا الرهان أصبحت ملزمة بفتح المجال لكل الآليات لتدارك هذا العجز , وإلا أصبح تعميم التغطية الصحية أمرا مستحيلا , وهو الهدف السياسي الذي يسعى إليه البعض اليوم وسعى له البعض الآخر في الجهاز الوصي على الجماعات المحلية بوزارة الداخلية , حيث كان البعض يتحجج بضعف بنيات الإستقبال الصحية للتأجيل المتكرر لتنزيل التغطية الصحية بمبررات أمنية صرفة تخفي الهدف السياسي غير المعلن. إجمالا يمكن القول بأن إستثمارات القطاع الخاص في الصحة ليست بدعة مغربية بل هو أمر جاري به العمل في العديد من الدول الديمقراطية، بل الواقع الحالي في المغرب لا يعكس سوى هذه الحقيقة، فالأطباء عندما يستثمرون في القطاع يستثمرون أموالا ويبحثون عن الربح ، ومن لا يميز بين المال والصفة العلمية يحاول عبثا أن يقنعنا بأن الشمس تشرق من المغرب... قطاع الصحة بحاجة إلى إقتراحات عملية وليس إلى بكائيات زائفة....