في 25 أبريل 1974 ، أفاقت البرتغال على وقع انقلاب عسكري أبيض ذو ميول يسارية قضى على الدكتاتورية الفاشية التي حكمت البلد بقبضة من حديد، و قد نظم الثورة رائد في الجيش بمساعدة ثلاثمائة ضابط معظمهم برتبة نقيب. ورغم أن العساكر ناشدوا الأهالي بأن يلازموا منازلهم و أن لا يغادروها، فقد خرجت جموع غفيرة إلى الشوارع وقدمت إلى الجنود السجائروالطعام. كان ذلك في موسم تفتح القرنفل. فوضعت إحدى نساء لشبونة زهرة قرنفل في ماسورة بندقية أحد الجنود. واقتدى بها الآخرون وأخذوا يقدمون أزهار القرنفل إلى باقي الجنود. انطلقت الثورة القرنفلية بعد خمس وعشرين دقيقة من منتصف ليلة الخميس 25 أبريل 1974 في لشبونة حين قامت الإذاعة ببث أغنية مدينة البحر، وكانت هذه الأغنية بمثابة إشارة انطلاق للوحدات العسكرية حول لشبونة لتنفيذ خطة انقلاب عسكري وضعت بعناية على يد الضباط الشبان الذين قادوا حركة القوات البحرية، وتم الانقلاب بفعالية ونجاح بعد مقاومة ضعيفة ، فاحتلت الوحدات العسكرية مباني الوزارات والمحطات الإعلامية ومكتب البريد والمطارات والاتصالات الهاتفية، وفي الصباح احتشدت الجماهير في الطرقات لتحية الجنود، وفي المساء كان الديكتاتور المخلوع مارشيلو كايتانو قد استسلم للقادة العسكريين الجدد للبرتغال، ومن اليوم التالي لترحيله إلى منفاه. لقد بدأت الثورة في البرتغال بقيام قطاعات غاضبة في الجيش البرتغالي بانقلاب عسكري. فقد أدت محاولة الحكومة الفاشية إبقاء سيطرتها على مستعمراتها في أفريقيا إلى دخولها حروبا لم تستطع أن تحتملها وانتهت في الأغلب بهزيمة الجيش البرتغالي. هكذا وفي الساعات الأولى من يوم 25 أبريل 1974 كان واضحًا لأي شخص في البرتغال يستمع إلى الراديو أن شيئًا خطيرًا قد حدث. وكان إذاعة أغنية ممنوعة لأحد المطربين اليساريين الشعبيين علامة على الانقلاب الذي حدث. ولأغلب مواطني لشبونة كان أول شيء عرفوه هو الاستيقاظ ليجدوا القوات المسلحة والدبابات تسيطر على الشوارع الرئيسية. وبمجرد ما اتضح إلى أي جانب تنتمي القوات انفجرت الشوارع في حفلات صاخبة يعانق فيها الناس الجنود ويضعون الورود على أسلحتهم. ولو سار الأمر على هوى الرأسماليين الكبار لتوقف الاحتفال عند هذا الحد. فقد أصبح الجنرال السابق أنطونيو دي سبينولا رئيسًا للبرتغال بهدف إحداث إصلاح سطحي للنظام القديم. وكان الأمر ليسير حسب المخطط إلا أن أمرًا واحدًا خرج عن الخطة أو الحسبان وهو تأثير هذا الانهيار المفاجئ للنظام الفاشي على الطبقة العاملة البرتغالية. فبعد أسبوع واحد من الانقلاب العسكري، قام العمال بالاحتفال بعيد العمال بحرية لأول مرة. حيث طاف حوالي 100 ألف عامل شوارع لشبونة، رافعين الرايات الحمراء، كما خطبت القيادة اليسارية العائدة من المنفى في الجموع. لكن العمال كانوا غير مستعدين لانتظار هذه القيادات حتى تقوم بالإصلاح. فالعمال وقعوا تحت ظلم شديد لأكثر من نصف قرن وحان الوقت ليضربوا مطالبين بالتعويض عن هذا الغين والظلم. ولم تكن مجرد إضرابات من أجل الخبز والزبد بل كان مطلبها الرئيسي هو «التطهير» أي التخلص من المديرين الفاشيين والمخبرين والجواسيس الفاشيين. في ذلك الحين ، كان الحزب الشيوعي البرتغالي هو المنظمة العمالية الرئيسية في البرتغال. وهو حزب كان يمتلك المقومات الصحيحة للقيادة. فقد كان يمثل العمود الفقري لأي معارضة حقيقية ضد النظام خلال الأربعين عامًا السابقة على الثورة ونما بشكل كبير خلال الأيام التالية على الانقلاب. و لكن للأسف كانت إستراتيجية هذا الحزب الضخم هي أي شيء ما عدا الإستراتيجية الثورية. في هذا الإطار رغب الحزب في أن يثبت لسبينولا ولكبار رجال الأعمال أنه قادر على السيطرة على الطبقة العاملة. وعني ذلك حملة من أجل إنهاء الإضراب بل أن الحزب ادعى أن الفاشيين كانوا وراء إضراب الخبازين في لشبونة وأدانه في جريدته (على الرغم من أن الإضراب كان من أجل إقصاء المديرين الفاشيين!!). بل أن الحزب رحب بشدة بتدخل القوات المسلحة لإنهاء إضراب عمال البريد على الرغم من أن أغلبية لجنة الإضراب كانوا أما أعضاء في الحزب أو مؤيدين له! في البداية بدا أن إستراتيجية الحزب الشيوعي في خفت وتقليل حدة الصراع قد نجحت، إلا أن إيقاع الصراع الطبقي كان يرتفع لا العكس. ارتبك بعض المناضلين المتأثرين بالحزب فلم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون إلا أن آخرين كان لهم رد فعل سريع بالتحول ضده والبحث عن اتجاهات أكثر ثورية. فبدأت المجموعات على يسار الحزب الشيوعي تكتسب نفوذًا وتأثيرًا في أكثر الأماكن نضالية. وهو ما ظهر عندما وافق الحزب الشيوعي على قانون منع الإضراب في صيف 1974 حيث قام خمسة آلاف عامل من عمال السفن بتحدي حظر التظاهر وطافوا شوارع برشلونة. وأدى تزايد عدد أصحاب المصانع الذين يغلقون مصانعهم أو يهددون بإغلاقها في محاولة لإخماد الحركة العمالية إلى أن يقوم العمال بالسيطرة على هذه المصانع وتشغيلها أو فرض إرادتهم على مديريها. وفي ربيع 1975 كانت هناك المئات من المصانع التي تدار بهذه الطريقة. ورغم إدانة الحزب الشيوعي والنقابات العمالية للتظاهر والإضراب قام ألف من ممثلي العمال في فبراير 1975 بالدعوة لتنظيم مظاهرة في لشبونة اعتراضًا على تزايد البطالة وعلى تهديد أسطول حلف شمال الأطلنطي بالاقتراب من البرتغال لقيت تأييد أكثر من 40 ألف عامل من معظم مصانع منطقة لشبونة رافعين الرايات الحمراء. وبدأ العمال المأجورون في الريف – بالذات في المقاطعات الكبرى في الجنوب – في مصادرة الأراضي من أصحابها الأغنياء الذين كانوا يقمعون ويستغلون آبائهم منذ قرون. وبينما كل هذا يحدث، بدأت الطبقة الحاكمة القديمة في تنظيم نفسها. وكانت هناك عدة محاولات انقلابية قادها الجناح اليميني والتي لو كللت بالنجاح لانتهت البلاد إلى حمامات دم ، لكن يقظة العمال ونضاليتهم وحدها حالت دون نجاحها. ففي شتنبر 1974 ألقى سبينولا خطبة دعا فيها الشعب للاستيقاظ ليدافعوا عن أنفسهم في مواجهة من أسماهم «السلطويين المتطرفين» الذين يحاربون في الظل. وبدأ في تنظيم مظاهرة لمن دعاهم الأغلبية الصامتة. ومرة أخرى أوقفت التعبئة الجماهيرية العمالية هذه المحاولة بل وأجبرت سبينولا على الاستقالة كرئيس وأن قرر أن يختار الوقت المناسب. وفي مارس 1975 حاول سبينولا القيام بمحاولة انقلاب أكثر جدية. حيث قام الضباط من الجناح اليميني بالسيطرة على واحدة من أهم القواعد الجوية العسكرية وإرسال الطائرات الحربية والهليوكوبتر لقذف الثكنات التي تحمي الطريق الشمالي للشبونة. وقامت قوات أخرى بحصار الثكنات كإشارة لضباط الجناح اليميني في كل البلاد للسيطرة على مقاليد السلطة. إلا أن نيران هذه المحاولة ارتدت إليهم. فبدلاً من أن يتراجع العمال نتيجة المحاولة الانقلابية ردوا باستعراض بطولي للقوة. إذ بمجرد إعلان راديو العمال عن المحاولة الهجومية قام العمال في لشبونة بغلق البنوك ومنع أي فرد من الدخول. وخلت المحلات والمكاتب بينما اندفع العمال للانضمام للمظاهرات ووضع المتاريس عند أهم المراكز الصناعية جنوب العاصمة ، كما تم تشغيل صفارات الحريق بالمصانع بشكل مستمر وإنشاء كمائن عمالية تقوم بوقف وتفتيش كل العربات قرب الثكنات التي تم قذفها. كما قام عمال التشييد بإقامة متاريس ضخمة بواسطة البلدوزرات وأطنان من الأسمنت. أيضًا ذهب ممثلو العمال للثكنات طالبين تسليح المزيد من العمال استعدادًا للقتال. وتم إغلاق الطريق الحدودي لإسبانيا وفي كويمبرا، شمال لشبونة، وضع العمال السيارات على مجرى الطائرات في المطار بعد أن شوهدت طائرة تحوم على ارتفاع منخفض فوق المكان. في الوقت نفسه، احتشدت شوارع لشبونة ولوبورتو والمدن أخرى بآلاف المتظاهرين. وفي بعض الوحدات العسكرية أبدى الجنود بشكل علني تعاطفهم مع العمال لدرجة أن بعض القوات التي أرسلت أساسًا لبدء الانقلاب تم كسبهم لأفكار العمال. هكذا أعطت محاولة الانقلاب الأحداث دفعة قوية جديدة لليسار، فتحولت موجة احتلال المصانع إلى طوفان يغمر البرتغال. وفي حالات كثيرة حيث سيطر العمال ونشطاء الاتحادات العمالية على المصانع كان يعلن ببساطة أن المصانع قد تم تأميمها، وفي الجيش بدأت القواعد من الجنود بل وبعض الضباط يتساءلون عن دورهم في المجتمع. وأصبحت المنظمة العسكرية «الكوبكون»، والتي أنشئت أساسًا من أجل حفظ النظام، أكثر تعاطفًا الآن مع نشاط العمال المناضلين أكثر من تعاطفها مع الحزب الشيوعي. هكذا نضجت الأشياء للانتقال لمجتمع يقوم على سلطة العمال الحقيقية. إلا أن هذا المزاج الثوري انكسر في نوفمبر 1975. فقد استخدمت السلطة محاولة انقلابية ضعيفة قام بها ضباط يساريون كذريعة لاستعادة «النظام» تحت قيادة الحزب الاشتراكي والذي شكل في وقت مبكر حكومة تضم اليمينيين وقد حصل في انتخابات المجلس التمثيلي (البرلمان) على أعلى الأصوات. وبدأ النظام يعود للقوات المسلحة، حيث تمت إقالة قيادات الجيش المتعاطفة مع حركة العمال وعلى رأسهم «أوتيلو دي كارفالو» رئيس «الكوبكون» وتم فرض النظام على القواعد من الجنود. وعلى النقيض من الماضي القريب لم تحدث تعبئة للعمال. فقد انتهت الثورة. ولكن ماذا حدث في الفترة ما بين انقلاب مارس 1975 ونوفمبر 1975 جعل الأشياء تتحول بهذا الشكل؟ كان تواجد الحزب الاشتراكي في وقت اندلاع الثورة غير ذي شأن، إلا أنه استطاع أن ينمو ويكسب نفوذ جماهيري نتيجة ضعف التيارات التي على يساره. وقد انضم هذا الحزب إلى كورس اليمين حول «الأهداف الديكتاتورية» للعمال وللحركة النضالية للجناح اليساري. ووصفت جريدة الحزب «الجمهورية» سيطرة العامل على أنها ديكتاتورية. ومن ناحية أخرى استمرت مناورات بيروقراطية الحزب الشيوعي محاولة أن تفرض سيطرتها على مستويات الدولة لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، وظل الحزب يقف في مواجهة الحركة العمالية الجماهيرية. وفي ظل هذه الأوضاع كانت الفرصة الوحيدة والحقيقية لتحويل المزاج الانتصاري للطبقة العاملة والذي بدأ في مارس 1975 إلى دعوة للسيطرة على السلطة هي أن تستند إلى يسار ثوري، وهو الفصيل الذي كان صغيرًا للغاية عند إسقاط الديكتاتورية الفاشية كحال كل القوى السياسية في البرتغال باستثناء الحزب الشيوعي. ومثلت معارضة الحزب الشيوعي لموجة الإضرابات فرصة ثمينة لا نظير لها لنمو هذا اليسار الثوري، حيث أصبحت صحفه الأسبوعية تباع بشكل واسع كما استطاع أن يكسب أعضاءًا في معظم المصانع الرئيسية في منطقة لشبونة كما كان قادرًا على تنظيم مظاهرات ضخمة على الرغم من معارضة الحزب الشيوعي لها. لكن السياسات والاستراتيجيات التي تبناها هذا اليسار الثوري كانت تعاني من نواقص خطيرة. فقد كانت أفكاره ملوثة بالستالينية في كافة صورها. وأسوأ الأمثلة كان الماويين الذين انتهوا إلى نقد الحزب الشيوعي من وجهة نظر يمينية بينما كان المتبنون لأفكار غيفارا هم الأفضل في محاولاتهم لدفع الثورة إلى الأمام. لكنهم كانوا يرون أن نجاح الثورة يعتمد أساسًا على النضال المسلح أكثر من الاعتماد على بناء حركة عمالية جماهيرية. هذه الأفكار اكتسبت قوة جذب واضحة في إطار لعب العسكريين دورًا قياديًا في الثورة البرتغالية منذ بدايتها.