هذه رسائل وقصائد من إخوان للعلامة المرحوم محمد المختار السوسي تغرّبت معه - كما قال - فأراد أن يخلّدها جزاء لها حين تؤنسه، كلما أمرّ بصبره عليها، وذلك عهد منها مشكور، وحسن العهد من الإيمان. ويقول كاتب هذه الرسائل في تمهيده لنشرها: «إن كانت رسائل بعض الناس تستحق أن يعتني بها لوفور حظها من البيان، ولشفوفها في البلاغة الفائقة، فإن هذه ما استحقت عندي هذا الاعتناء، إلا لكونها من أوداء يعزون علي، وقد حفظت لي أنفاسهم، فكانت تفوح بها علي كلما راجعتها، وأعدت تلاوتها، وإن هذه عندي يد لا تعاظمها يد، وخير الآثار عن الغائبين ما لا يبلى وإن تطاول العهد، وهذه عندي بهذه المثابة، فهي جارة قلبي حين أقرأها فأضمها إلى صدري، وبجيرانها تغلو الديار وترخص: مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا بعيون رأت محاسن سعدي (1) كنت صاحبت الأخ الصديق مولاي الصديق العلوي في (فاس) بمجرد ما دخلتها مفتتح 1343 ه، وقد التقينا في مجلس الأستاذ ابن العربي الفلالي، فتأكدت بيني وبينه الأواصر تأكدا تاما، وكان رحمه الله ذا أنفة وعزوف وتعال إلى قمم المعالي، ثم لما غادرت (فاسا) مفتتح 1347 ه، كتب إلي مايأتي: الأخ العزيز سيدي محمد المختار السوسي، غادرت (فاسا) فغادرها قطب اجتماعات متواصلة الجهود، ما كنت لتكون لولاك، ألم تكن أنت سبب الوصلة بين نشء متحفز للمعالي، ناظر إلى بعيد. ألم تكن أنت الذي دعوتنا إلى الاتحاد في المبدأ، فكان الغازي وعلال، والكتاني(1)، وهذا العبد، ومكوار(2) كحلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها، فإن ننس لا ننس جمعية «الحماسة» التي ترأسها، فندرس فيها «ديوان ونبغ الأخ علال، وعرف الناس ما هي السيرة، إنني لا أعترف لك عن غيري إلا بمثل ما اعترف لك به عن نفس، فقد كنت لي نعم الصاحب ونعم المرشد، ونعم الرفيق، فها أنت ذا تركتني وحيدا، أقلب عيني فإذا بأبناء (فاس) غيرهم، وأنت بين ظهرانيهم، يا من لا يصلح لجمع القلوب على المنفعة العامة، ثم ينسى هو نفسه بينهم، فلا يظهر إلا بمقدار. اعذرني في هذا النوع من الكتابة، فإن مقصودي أن نتبادل الرسائل والأفكار على بعد، كما كنا نتبادلها على قرب، فهل أنت فاعل. يسلم عليك كل الاخوان، فأجبني عن كل أحوالك عجرها وبجرها، دمت للمعارف وللمعالي مادام الفرقدان. أحسب أنني لم أكن أجبته عن هذ الرسالة، لأنني أكره من يعرفني فوق قدري، وأن كان عندي غير متهم، كهذا الأخ الصريح. انقطعت بيننا الرسائل، كما انني انقطعت عن (فاس)، فلا أزورها إلا لماما، لأن طبعي دائما يميل إلى الهدوء وإلى العمل في هدوء، وان كانت (فاس) لها عندي دائما مكانة عليا، وقد ودعني الفاسيون يوم طعنت عنهم مختمم 1346 ه، بحفلة تكريم أقامها الأخ أبو المزايا في داره، فيها صفوة من الاخوان كشاعر الشباب، ومولاي الصديق، ثم لما نزلت (الحمراء) زارنا مولاي الصديق مرارا، بل أحسب أنه يزور (مراكش) كل سنة، وفي صيف 1354 ه زارها أيضا، فكان يمضي عندي ساعات، لأنه نازل عند ابن عمه الخليفة أبي بكر بن الحسن، ولم تقدر هذه السنوات كلها ان تجعل بين فكرينا تفرقة، وكان دائما يصلني عنه ما يدل على أنه معجب بأعمالي في (مراكش). وفي هذه السنة زرت (فاسا) مع الشاعر البونعماني، فنزلنا عليه، فلاقانا بكلتا اليدين، فدهشت مما وجدته في (فاس) من فكر متموج وأحزاب يخز بعضها بعضا، فكنت كلما اجتماع مع فريق، يغمر لي فريقا آخر، وأنا إداري وان كنت على مبدأ من اخترت من قديم مبدأهم، وكان مولاي الصديق مع بعضهم في شقاق، فكنت أعذره لأنه مثلي يحب الهدوء، ومركزه في أسرته لا يمكن معه إلا ذلك، فكان النشء العامل يغمز قناته، فيرد عليهم بالمثل، فحين نزلت (مراكش) بعدما سافرنا من عنده سحر يوم، وقد ودعنا بنفسه في دار (الدبيبغ)، أرسلت إليه رسالة متوترة العبارة، ترمي بشرر، أغمز فيها وسط (فاس) المائج الذي خلت فيه المجالس التي جلست فيها من الأبحاث العلمية، ان هناك إلا نغمات الراديو. ونغمات مغن يستحضرونه، فأجابني بهذه الرسالة: الأخ العلامة سيدي محمد المختار، الذي هو في سنة 54 هو هو في سنة 44 دماثة أخلاق، وطهارة قلب، والذي هو اليوم سعة اطلاع وكثرة تحصيل غيره بالأمس، بله سنة 44. سلام عليك أيها الأخ ورحمة الله، أما بعد فهأنتدا وصلت إلى بلدك المطمئن الهاديء، وأويت إلي بيتك الساكن، حيث لا يزعجك صوت مغن ولا غرغرة مذياع، وها نفسك قد اشرقت فيها شمس الانشراح والحبور، وقشع عنها غيم الانقباض الذي سببته أيامك الثلاثة في (فاس)، (فاس) التي كنت تسبح بذكرها، وتحن إليها. (فاس) التي تضم لك أصدقاء مخلصين يؤدون أن لو طال بينهم مقامك، وقد ذهبت وفي نفس كل واحد منهم صورة منك وضاءة (فاس) الام الرءوم، والمدرسة الأولى التي ربت فكرك وأنضجته والتي كان الظن أن تكون آخر من يعقها أو يجفوها. مم هذا الكمد الذي كبكبت في هوته، منذ حللت هذه البلدة المسكينة، وما هذا الانشراح الذي أشرق في نفسك منذ غادرتها؟أيكون مظهرا من مظاهر العقوق ونكران الجميل، كلا ما مثلك من يعق أو ينسى جميلا، ولكن ما سبب هذا الكمد يا ترى؟ أما أنت والمنجم فلستما تدريانه، وأما أنا فيظهر لي أنني كشفته، فلا النكات النقدية التي تتدفق أمامك، ولا الأوحال التي لوثت جبتك وسلهامك، ولا عدم مصادفة المجالس العلمية التي تصبو إليها نفسك، لا شيء من هذا كان سببا في كمدك في (فاس)، انما سببه الوحيد هو (فاس) نفسها، فقد جئتها فوجدتها غير ذلك التي تعرف، وجدت (فاس) 54 غير (فاس) 44، وقد كان من واجبك أن تتريث وتقيم أياما تتعرف فيها إلى (فاس) هذه الجديدة، تقارن بينها وبين تلك التي كنت تعرف من قبل، حتى تدرك مقدار الفرق بينهما ونوعه، فتسر حقا، أو تساء حقا، وإذ لم تفعل، فقد حصل لك مثلي ما يحصل للتلميذ الذي يواجه الدروس الصعبة، يتطلب لحلها الساعات الطويلة، والجهد المستمر، ويرد هو ان يهاجمها في سهولة. ويأتي عليها في وقت قصير، لكنها تمتنع عليه، فيعتريه الانقباض، ويحس بسحب السامة تتكاثف أمام عينيه، فيلقي بالكتاب من يديه، ويفر إلى حيث لا ما يكد الذهن أو يجهد الفكر، سرعان ما يشعر بالراحة والطمأنينة، لكنها راحة الكسل وطمأنينة السام. كنت أود أن أمضي فأحدثك عن (فاس) 44، فاسك التي تعرف جيدا، والتي كانت لك اليد الجميلة على شبابها، إذ كنت صلة التعارف بينهم، كما كنت رائدهم إلى العلم الصحيح، ثم انتقل فأصف لك (فاس) 54، التي صدفت عنها استنكارا، واشمت بوجهك عنها علوا واستكبارا، لا لشيء سوى انك لم تعرفها، نعم كنت أريد أن أصفها لك وصفا دقيقا يجليها لك كما هي، فيجعل كمدك من نوع آخر، أو يقبله إلى سرور، ولكن الوقت قصير، والذهن كليل، واللسان حصر ودرس المختصر ندب لقاضي الحاجة جلوس في الانتظار فإلى برهة أخرى أيها الأخ. ونسخة من قصيدتك (3) أرسلت إلى (تطوان)، ونسخة أخرى تصلك طيه بخط الكاتب اللوذعي الجامعي الذي يهديك سلامه. كنت أجبته عن هذه الرسالة، ولا أدري كيف أجبته، وإنما كنت أعرف أنني وإياه متفقان في أن بيئة (فاس) عند النشء الذي أولع بالمذياع وغيره، وبكثرة نقد بعضهم بعضا، فلا يحترم مخلص عامل، ولا أي أحد غير سارة ولا مبهجة، وقد كنت رأيت من ذلك أمامي ما آسفني جدا، لأن اناءها عاملين يعرفهم العالم صاروا مضغة الأفواه، كما اتفقت معه على أن غالب النشء لايمعن في معلوماته، ويكتفي منها بالسطحيات، وان كثيرين يتزببون قبل أن يتحصرموا، وهذا ما اكمدني جدا، زيادة على أوحال صادفتها ب (فاس)، وتذبذب الفكر من جراء أمور أخرى، فتحت ذلك كله كتبت ما أجاب عنه هذا الفاضل بما ترى ، ولو كان تيسر له أن يكتب ماهم به، لكان للتاريخ مرآة في تطور (فاس) في عشر سنين، فإنه تطور غريب من كل ناحية، يشهد بذلك كل عارف يعرف أن يوازن بين الأشياء. ثم انه ألح عليه مرض كان انشب فيه أظفاره من زمن بعيد، ففاظت نفسه أول 1355 ه اثر تعيينه مدرسا رسميا في الثانوية ب (فاس)، فكانت له جنازة كبيرة، وبصفته عالما، عطلت لها الدروس في «القرويين»، ولاتسل كيف وقع نعيه علي. أنا الذي أعرف للرجل مالا يعرفه إلا القليلون، وكان رحمه الله أديبا كبيرا مطلعا مستحضرا سلفي العقيدة، عنيفا نزيها، عزوفا ملما باللغة الفرنسية، ذا ذوق سليم، مشتركا في العربية والفقه والحديث والتاريخ والسيرة، درس في (فاس الجديد) لأبناء العائلة المالكة، أبناء عم السلطان، فنجب عليه أناس،وكان مجأه مبدأ الإصلاح غير جامد في كل ناحية، . وبالجملة أنه فذ بين لذاته، وقد شهد له بالتحصيل التام، ولايعيبه من لايعذره الا حين لايشارك في الحركة الوطنية، وقد كان له في مركز أسرته ونفسيته الهادئة أكبر عذر، وقد شاركته في هذه الناحية غالبا، ولذلك تأكد ما بيننا حتى فرق بيننا الدهر. ومما أذكره له أن علالا وآخرين اجتمعوا عندي في يوم الحركة ضد البدع في الأعراس وأمثالها، فقدموا باسم الطلبة عريضة فيها تأييد من قاموا بذلك من الفاسيين، فوقعها كثيرون من أبناء «القرويين»، فاجتمع رؤساء ذلك من الطلبة عندي في البيت، فخرجنا لنقدمها للمجلس البلدي تنكبوا الشيخ وهو جالس، فمدوها للقاضي ابن العربي، خانف تشيخ من ذلك، وكان الذي تولى مدها هو علال، فبذلك سعي الشيخ حتى سدت المدرسة «الناصرية» ثم كان ما كان. هوامش: 1) - هو أبو المزايا 2) - هو عبد الهادي مكوار 3) - يعني القصيدة البائية التي قيلت في ذكرى المتنبي، وقد أعجب بها مولاي الصديق، وقال لو نشرت كما هي لكانت فذة بين قصائد المغاربة في هذا الموضوع، (وقد نشرت في كتاب خلال جزولة الجزء الأول ابتداء من صفحة (99) (الناشر).