الصديق بوعلام الصحابة الكرام هم نجوم هذه الأمة وبدورها، وسيرهم الزكية غنية بما ينيرالطريق أمام كل مؤمن ومؤمنة: كرم خلق، وعلو همة، وصدق إيمان، وجهاد بالعلم والمال والنفس والبدن، وجود وشجاعة وعفة وطهروحكمة ورحمة وعدالة وورع وحب ووقارورشد وبلاغة وفصاحة وعزة وإباء. إنهم قمم الإنسانية -عبرتاريخها الطويل- بعد الأنبياء والمرسلين وهذه نماذج من إحسان الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: غيض من فيض كريم سخي نقي تقي خالص لوجه الله تعالى : فقد شهد أبو بكر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع المشاهد ولم يفته منها مشهد وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك وكان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين ... وكم أعتق رضي الله عنه من العبيد والإماء الذين دخلوا في الإسلام فأنقذهم من اضطهاد كفار قريش بماله الحلال. وروى البخاري حديثا بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمرإلى السوق فلحقته امرأة شابة، فقالت: «ياأمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا والله ما ينضجون كراعا ولا لهم زرع ولا ضرع وخشيت عليهم الضيع وأنا ابنة خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم». فوقف معها عمرولم يمض وقال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعيرظهيركان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها خطامه، فقال:اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: ياأميرالمؤمنين أكثرت لها، فقال عمر: ثكلتك أمك والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه ثم أصبحنا نستقي سهمانهما منه.» وروى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى عبد الرحمان بن خباب السلمي قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان: علي مائة بعير بأحلا سها وأقتابها ثم حث فقال عثما ن: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث، فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده يحركها: ما على عثمان ما عمل بعد هذا. وروى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن ربيعة عن علي بن أبي طالب قال: جاءه ابن التياح فقال: ياأمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر، ثم قام متوكئا على ابن التياح حتى قام على بيت المال فقال: هذا جناي وخيره فيه وكل جان يده إلى فيه يا بن التياح علي بأشياخ الكوفة، قال: فنودي في الناس فأعطى جميع ما في بيت المال وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ها وها، حتى ما بقي فيه دينارولا درهم، ثم أمربنضحه وصلى فيه ركعتين. وروى الإمام أحمد عن الحسن قال: باع طلحة أرضا بسبعمائة ألف فبات ذلك المال عنده ليلة فبات أرقا من مخافة ذلك المال فلما أصبح فرقه كله. وذكر ابن الجوزي في «صفة الصفوة» [المجلد الأول] أن الزبيربن العوام رضي الله عنه كان له ألف مملوك يؤدون الضريبة لا يدخل بيت المال منها درهم: كان يتصدق بها. وبينما عائشة في بيتها سمعت صوتا في المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عيرلعبد الرحمان بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شئ، قال: وكانت سبعمائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد رأيت عبد الرحمان بن عوف يدخل الجنة حبوا» فبلغ ذلك عبد الرحمان بن عوف فقال: إن استطعت لأدخلنها قائما» فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل [رواه أحمد]. وعن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثرأنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت : «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: «لن تنالوا البرحتى تنفقوا مما تحبون» اللهم إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يارسول الله حيث أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ وذاك مال رابح ذاك مال رابح وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، قال: فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [ أخرجاه في الصحيحين] . على هذا النحو السخي الرحيم البر كانت تتدفق ينابيع الخير من قلوب الصحب الكرام، وعلى أساس ذلك الخير شيدت الدولة والمجتمع والحضارة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا ، عملا بقول الله عز وجل: «إن تبدواالصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خيرلكم ونكفرعنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير، ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خيرفلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خيريوف إليكم وأنتم لا تظلمون،للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوامن خيرفإن الله به عليم، الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهارسراوعلانية فلهم أجرهم عندربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» [البقرة] . وقوله سبحانه:«لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساإلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسريسرا»[الطلاق] . وما أكثرما حض القرآن المجيد على أنواع العطاء، ومدح المنفقين المحسنين الأسخياء، وزادت السنة ذلك تأكيدا وبيانا، وكانت السيرة النبوية التجلي الأسمى للعمل الإحساني، وكذلك كانت حياة الصحابة والتابعين اتباعا لهذا النور. فكثرت الصدقات وفاض العطاء وفتح الله على المؤمنين والمؤمنات بركات من السماء والأرض.: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» [الأعراف].