عندما فارقنا المفكر السوسيولوجي الدكتور عبد السلام حيمر قبل سنتين، تألمنا لرحيله المبكر وهو في مرحلة العطاء السخي فكرا وإبداعا.. إذ فقدنا فيه نموذجا للمناضل السياسي الشريف، الذي لا يضع شروطا ثمنا لنضاله. وفقدنا فيه الأستاذ الجامعي الذي رهن زهرة شبابه لأعمال البحث العلمي والتأطير البيداغوجي لطلبته. وفقدنا برحيله أيضا كاتبا مبدعا قدم لمكتبتنا العربية أعمالا في الدراسات السوسيولوجية وأخرى في الرواية والمسرح. ولقد كانت مفاجأتي عظيمة، عندما زارني بمكتبي شقيقه الأستاذ نور الدين حيمر، وقدم لي مخطوطه الشعري الموسوم ب «هواجس متجول وحيد». لأضع له مقدمة من أجل إصداره في سياق المجهود المشكور الذي تقوم به عائلته لنشر أعماله والتعريف بها. صحيح أنني كنت أعرف الفقيد وأعماله من بعيد، ولم أظفر بلقائه إلا مرة واحدة، وهو لقاء تم بالصدفة، وكان عقب صدور روايته الجميلة «خطاطيف باب منصور»، ولكن لم يكن يخطر ببالي أن عبد السلام كان شاعرا في بداية شبابه، وتجمع لديه من ذلك ديوان شعري كامل. وزادت مفاجأتي عندما خلوت إلى قصائده قارئا وفاحصا لمكوناتها الشعرية. فلاحظت أنها كتبت بين سنتي 1970 و1974، أي عندما كان عمر الراحل يتراوح بين 19 و23 سنة. وهي المرحلة التي عادة ما نميل فيها إلى كتابة خواطر تحت ضغوط انفعالات المراهقة والعواطف الجياشة المؤقتة، التي نفتتح بها بداية شبابنا. إلا أنني لم أجد في النصوص المعروضة أمامي أثرا لاندهاش لغوي أو ارتباك في الصياغة. بل وجدتني أمام قصائد موزونة، بديعة الصياغة، متأنقة في اختياراتها المعجمية والتركيبية، ومحثة في بعدها الرؤيوي فكرا وموقفا؛ مثلما وجدت أثرا سابغا من مخلفات المدرسة الرومنسية، مما كان يجدُّ الراحل في النهل من تراثها الزاخر، مثلما نهل شعراء كبار في بداية مشوارهم الإبداعي؛ إذ كان هذا الاتجاه الشعري في الستينيات وبداية السبعينيات ما يزال مؤثرا وفاعلا في الإبداع على اختلاف أنواعه وأجناسه. وهو الاتجاه الذي جاء ثورة على التقليد والانحطاط والظلم الذي عانت منه المجتمعات العربية، فتمثلت بذور ثورته في النبرة المنكسرة آنا، وفي الحلم، والتسامي، والبحث عن المعاني الكبرى، استشرافا لأفق بديل سائد في المعيش والمتخيل آنا أخرى. عندما نقرأ نصوص عبد السلام حيمر اليوم، وهو في سنوات العشرين، نتساءل بثقة، عن الصورة المشرقة التي كانت ستؤول إليها شاعريته فيما بعد، لو لم تسرقه السوسيولوجيا من الشعر. فإطلالة سريعة على نصوص مجموعة «هواجس متجول وحيد»، تضعنا وجها لوجه أمام شاعر حقيقي، يعرف المطلوب منه لغة، وصياغة، وموقفا، وهو يخط قصائد غاية في الإشراق والتوهج. وما يشد القارئ إليها أكثر هي خفة أوزانها، ونزوعه المرهف إلى استخدام البحور مجزوءة أو مشطورة، على نحو يذكرنا بموسيقى الشعر عند جبران خليل جبران العظيم، أو عند أبي القاسم الشابي الذي يتشبه به عبد السلام في عوالمه التخيلية، وفي أفكاره السامية الداعية إلى التوحد بالمحبة والسلام والتسامح، مثلما يلوذ برائد الحداثة الشعرية العربية بدر شاكر السياب في تشبيهاته البليغة القادرة على اختراق المحظور في الأساليب، من أجل استجلاب الصور الشعرية البديعة. إن الشاعر عبد السلام حيمر يتخلى عن حقه، كشاب مراهق، في البوح بمشاعر الصب والحب، ليعانق العوالم الكبرى التي عادة ما نجدها عند من مروا بأشواط الحياة كلها ومراحلها، ليستقروا في مناطق الحكمة والمطلق.. وفي ذلك دليل على أنه، وإن لم تعلمه تجارب العمر الطويل أسرار الحياة والوجود، فقد تعلم ذلك من إقباله النهم على القراءة واستيعاب هذا المقروء، بما وهبه الله من رهافة وقدرة عجيبة على الاستيعاب والاستعادة المبدعة. يقول من قصيدة «سأثبت»، ولم يكن عمره ? يومئذ ? يتجاوز الثالثة والعشرين (1971): سئمت الهروب لشم الجبال جميل التلال سئمت السفر سئمت الهروب لحضن فتاة تصورتها في دجاي قمر سئمت الهروب لطيّ كتاب للون الغروب ولون السحر ألا يا عويل الفنا والردى سأثبت، ها أنذا.. فاستمر لو عرضنا هذا المقطع على قارئ، لما تردَّد في الاعتقاد عن أنه صادر عن شاعر تقلب بين التجارب كلها، وعانق المحن والإحن، وذاق عسل الحياة وقطرانها، قبل أن يتقوَّى حبله، ليواجه جبروت الفناء ويقرر صموده وثباته أمامه. وقد يجد الشاعر نفسه مأخوذا بشعر الحكمة والتفلسف أسوة بسلفه الكبير أبي العلاء المعري، ناسجا على منواله، ما يتراءى له من تقلبات الحياة، واضعا كل الثنائيات الضدية في كفة واحدة. فيبدو كمن فقد الإحساس بمثيرات الحياة، وتشابه لديه صوت البشير بصوت النذير: صاح في وجهي بشيرٌ صاح في وجهي نذير في كتابي يتساوى ذا البشير وذا النذير ولا شك أن تجربة عبد السلام حيمر في هذه المجموعة، تبرز بشكل واضح درجة تأثره بالمقروء من الكتب الفكرية والإبداعية، أكثر مما تستلهم تفاعله بالتجارب الحيوية، وبما كان يمر به المجتمع المغربي في بداية السبعينيات من حركية وصراع. ومما عمق ذلك، ديناميةُ الفعل الثقافي الذي كان يتجه إلى تقوية منظومة الإيديولوجيا بإيقاع متصاعد، في التحفيز على القراءة، وتنشيط اللقاءات الثقافية والندوات ذات الطابع الفكري والسياسي، وهي الأجواء التي كان يجد فيها عبد السلام حيمر وزملاؤه الملاذ الدافئ، الذي يتيح لهم تصريف فائض طاقاتهم فيه. وكان الجانب الديني فيه لا يشغل إلا الحيز الذي يجعله مساعدا على إعطاء هذه الحركية دينامية متناغمة مع المواقف والأحلام التي ينشدونها. يقول من قصيدته (هواجس متجول وحيد): أيها الشاعر قل لي أيُّ دين هو دينُك؟ أنا ديني دين أحمد أنا ديني دين مُزْدك.. ههنا، يضعنا الشاعر أمام رؤيته الخاصة لموضوع أثار الكثير من الجدل على امتداد التاريخ الإنساني. فالدين الذي شكل أحد الأسباب الجوهرية التي أشعلت فتيلة الصراع بين الأمم، وغذت النعرات بينهم، يصبح لدى الشاعر أمرا مختلفا تماما، فيعمد إلى محو التعصب، منفتحا على قيم التسامح والعدالة التي جاءت مختلف المعتقدات للتبشير بها. إنه بعبارة أخرى يدحض التطرف، ويناصر الشرائع التي تخدم الإنسان على الأرض، سواءً أكانت هذه الشرائع سماوية أو وضعية. فالاهتمام ينبغي أن يصرف إلى ما ينمي سعادة البشر، لا إلى ما ينغصها. إن الطاقة الروحية التي يختزنها الشاعر، تجعله منجذبا إلى بوارق الأمل، ثم إن مرور الزمن يدفعه إلى تبني نبرة التفاؤل بالحياة، فمن قصيدة «القصة الأخيرة قبل الوداع الأخير»، يقول: مر يوم وعام فقبلتُ الحياة ومسحت الدموع ودفنت الشكاه وزرعت النشيد فوق همس الشفاه هكذا يعمل الشاعر على التفاعل الإيجابي مع الزمن، فيقبل به مصيرا منطقيا، لا يعوزه الصبر على تحمل محنه، فاسحا للأمل أبوابه، جاعلا من رمزية «النشيد»، وما تختزنه من دلالات ومعان إيجابية، زاداً يقويه على السير المتزن في طريق الحياة الطويلة. وبالإضافة إلى هذه النفحات الرومنسية التي تسم باكورة عبد السلام حيمر الشعرية، وخاتمته أيضا، ثمة ملمح أساسي نراه يهيمن على أجواء النصوص، وهو ملمح عام وَسَم تجربة معظم الشعراء السبعينيين. يتعلق الأمر بموقف الشاعر تجاه مجتمعه ووطنه. وهذا الملمح هو ما يصطلح عليه الدارسون ب «الالتزام». فالشعراء على ذلك العهد، انخرطوا بشكل جماعي في مواكبة الحركات الاجتماعية الداعية إلى التحرر الفكري والسياسي، وإتاحة دولة المؤسسات وفسح المجال للحريات العامة، والاهتمام بأوضاع الطبقات الكادحة. وقد غذى هذه الحركة المرجعيات الاشتراكية والتقدمية التي كان ينهل منها الشعراء. ولا شك أن عبد السلام حيمر كان من أولئك الذين اطلعوا عن كثب على النظريات الفلسفية والمذهبية التي تغذي هذا الطرح. ونحن نعلم أنه عندما اختار في بداية مساره الجامعي الانتماء إلى شعبة الفلسفة، والتخصص فيما بعد في السوسيولوجيا، إنما كان يريد بذلك الاقتراب من أنين مجتمعه، منصتا إلى همومه وأوجاعه، فعندما يقول في قصيدته «قافلة الشوق»: يا وطني ما مات الموتُ ولا هبت نسمات الفجر عليك هذا الشفق الأحمر يسعى في سهلك يتبع دينارا أحمر وشمسا غاربة لا أدري فإنه يومئ بذلك إلى رصد وضع قائم، معتمدا معجما رمزيا وصورا شعرية موحية بدلالات تحوم حول هذا الواقع المنذور للموت بمعانيه الحقيقية والمجازية، والتي يعمل على تخصيبها بعبارات شديدة الكثافة من قبيل: «ما هبت نسمات الفجر عليك» و»شمس غاربة» وأمام هذه الرؤية المثقلة بالألم والأحلام المجهضة، يعمل الشاعر على ألا يترك لليأس منفذا لنفسيته المرهفة. فيلتفت إلى ما يختزن وطنه من إرادات قوية ومن الغضب القائم في الصدور، فاسحا للغة التمرد بابا واسعة: إيه يا سهوب النار والأيدي الخشنة من يصنع الأحلام من خيط العذاب من يفجر في حنايا الأرض صمت الكادحين من ينثر حبات النجوم في الليل البهيم فتلك الأرض يعصرها المخاض ههنا يبلغ الغضب ذروته، ويتأجج من خلال رزمة من الاستفهامات الاستنكارية. ومرد هذا الغضب، هنا، إلى أن الوطن لا تعوزه الوسائل والأسباب لكي يصحح أوضاعه، فقد نضجت شروط الثورة، والأرض تنتفض في مخاضها. إن المقطع يحيل على ما درج النقاد على تسميته بشعر الالتزام. وذلكم جانب إيجابي من جوانب الشعر المغربي الذي ساد في السبعينيات، مع تفاوت كبير في الصياغة الفنية التي عرفها، إذ هيمنت اللغة السطحية والمباشرة على هذا الاتجاه، مما أفقد القصيدة مكوناتها الفنية التي هي أساس وجودها وبلوغ أهدافها التأثيرية. إلا أن شاعرنا وفق إلى حد بعيد في إيجاد لغة شعرية قائمة على التصوير الإستعاري الذي يضمن للمتلقي متعة التملي بالبحث عن الدلالات الكامنة وراء الصور، واستيحاء أبعادها الرمزية. لقد وأد عبد السلام حيمر مشروعه الشعري، عندما تخلى عنه، مستعيضا بالدراسات الفكرية والسوسيولوجية التي أعطى فيها بلا حدود، وكان بالإمكان أن تربح الساحة الشعرية صوتا فريدا، لو أنه قرر الإقامة في أحراش القصيدة وتخومها. ذلك أن نصوص مجموعة «هواجس متجول وحيد» التي تشكل بدايات الشاعر، تمتاز بلغة شعرية شفافة، تحقق التوازن الملفت بين المكون الفني المطلوب وبين الأبعاد النفسية والفكرية، التي تسمو عن مجرد التعبير عن الحالات الوجدانية الخاصة إلى ملامسة الرؤية والموقف اللذين هما أساس قيام أية تجربة فنية مهما كان نوعها. 8