لقد دأب الاستقلاليون على الاحتفاء والاحتفال كل سنة بذكرى وفاة زعيم العروبة والاسلام، زعيم الجهاد والنضال. زعيم الثقافة والفكر، زعيم السياسة والوطنية المرحوم علال الفاسي. وفي كل سنة تتشرف إحدى المدن المغربية باحتضان هذا الحدث الذي نعتبره كاستقلاليين محطة مهمة للتدبر والتفكير ومساءلة النفس واستفسار الضمائر للتقييم والتقويم لنكون في مستوى الانتماء لصرح أبي اعتبر ضميرا للأمة بمختلف شرائحها وطبقاتها عربها وأمازيغها بدوها وحضرها. واعتبر مؤسس هذا الصرح الخالد بدرا تسلل نوره مع بداية العشرينيات من القرن الماضي إلى كل أرجاء الوطن الحبيب بعدما أرخى ليل الاستعمار سدوله. وقد كان الفتى = الفهري = على موعد مع التاريخ فعانق هموم وطنه في مرحلة مبكرة من حياته انطلق إبانها إلى الممارسة السياسية التي تعني عند الزعيم نكران الذات ومعانقة هموم الوطن في إطار من النبل والتقوى، فعاش كشمعة تحترق لتنير السبيل للأجيال المتلاحقة. وإن ما خلفه من مؤلفات موزعة بين مواضيع عدة يمنحه بحق رجل القرن العشرين وبدون منازع. وغزارة علمه هاته واهتماماته المتعددة والمتشعبة، كانت وراء الموسوعية التي اتصف بها ليس على المستوى الوطني فحسب وإنما على المستوى الكوني. كما أن شخصيته الفكرية اتسمت بثنائيات ومفاتيح عدة نتج عنها نضال في كل الواجهات لتتعدد بذلك الميادين التي اعتبر رائدا وبطلا فيها، فتعمقت حياته وتعددت شخصياته؛ فهو الشاعر، المفكر الاقتصادي العالم الاسلامي، الأديب، الزعيم السياسي، المجتهد، الديمقراطي، رجل الاستقلال، الوطني الصحافي، المؤرخ، الشمولي، السلفي، المناضل، الموحد، المحرر، العبقري، المجاهد الداعية، الجامعي الخطيب، الحقوقي..))1 صحيح أننا حينما نتحدث عن علال الفاسي، فإن الحديث يكون عن رجل لا كالرجال عن شخصية متميزة، جمعت بين العلم والنضال، والكفاح والتنظير، ووظفت هذه العناصر في منظومة متسقة متناسقة، تصب في مصلحة الوطن، كما ذكر ذلك الأستاذ عبدالكريم غلاب في كتابه القيم (الماهدون الخالدون) ص 43. نعم أحس علال ومنذ الطفولة أنه خلق لهدف سام، جعله يستكثر عن نفسه اللهو واللعب كما حال أقرانه وأترابه: أبعد مرور الخمسة عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب إنه شعور فطري بالمسؤولية، مسؤولية الوطن الذي عشقه علال وعانق كل صعب من أجله فكانت حياته بعد الخامس عشرة كلها إجابات شافية لهذا الاستفهام، حيث اندفع نحو الجد والاجتهاد والنضال والكفاح وهي صفات جسام استهوته واستحوذت عليه، فكان من المخلصين الأوفياء لها وإلى آخر رمق من حياته. ومن جهة أخرى فإن المتصفح لببلوغرافية علال الفاسي قد يظن أنه أمام كاتب ومؤلف كغيره من الكتاب والسياسيين إلا أن تنوع إنتاجه الفكري وغزارته بمنهجية منضبطة واضحة الرؤيا والمعالم يدرك أن الكتابة لديه لم تكن من أجل الكتابة كما هو حال الكثيرين، وإنما الكتابة عند علال الفاسي كانت رسالة مطبوعة بالأصالة فياضة بالمعاني والمعارف، متجاوزة في كنهها زمن المؤلف متميزة بما لم يستطع المفكرون والدارسون لشخصيته تحديده بصفة مطلقة، إنما لازالت الاجتهادات والاضافات تنير بيع الفينة والأخرى جانبا من جوانب الشخصية العبقرية العلالية الفذة. ومن مؤلفاته القيمة التي أسالت الحبر الكثير واستهوت رجال الفكر والساسة والحقوقيين كتاب «النقد الذاتي» الذي صدر بالقاهرة سنة 1952م وعنه يقول الزعيم علال: ولقد بذلت فيه - علم الله - جهد المخلص الذي يريد البناء ويسعى في التجديد، ويعز عليه أن يترك الحيرة تعبث بعقل شباب الأمة وقلبه. وقرأت لكل فصل منه قبل أن أكتبه عشرات المؤلفات العربية والمعربة والفرنسية والمنقولة للغة الفرنسية من لغات أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا وآسيا، ودرست وجهات النظر المتباينة، وقارنت بينها بقدر الاستطاعة ثم عرضتها على تجاربي في الكفاح وتقلباتي بين الكادحين في أقطار عديدة طيلة خمسة وعشرين عاما وحاولت أن أستخلص من كل التوجيهات التي أضعها بين يدي إخواني لينظروا فيها، ويستفيدوا منها...»2. وفعلا فقد سعى رحمه الله من وراء هذا المؤلف إلى تنبيه الرأي العام وخاصة الفئة المتنوعة إلى ضرورة الحوار، وتحديد المثل العليا مع استحضار الضمير ومحاسبة النفس كلما دعت الضرورة. وهذه الثوابت هي محور كل أبواب الكتاب، وهي اللبنات التي يتطلبها البناء والتغيير الحضاري في محاولة من الكاتب إعادة تشكيل عقل الإنسان المغربي المسلم واختراقه بلطف ومناظرة وحوار متحضر رفيع المستوى، وإنه لعمري أسلوب علمي متقدم يسهل بواسطته كسر كل أغلال التقليد والتحجر في انفتاح على الآخر دون استيلاب أو تيه، فيسود بذلك التفكير السليم الذي ينعكس إيجابا على حياة الفرد والمجتمع. وهذا النمط هو الذي يقود إلى حرية التفكير والتي دافع عنها علال الفاسي باستماتة، لأنه وجدها على النقيض للكسل العقلي الذي يعم السواد ويمنعهم من المعارضة إذ تتكون لديهم معتقدات ومسلمات لاتقبل الجدال أوا لنقاش فيضيق الأفق ويقف سدا منيعا أمام كل فكر جديد من شأنه أن يغير الواقع. وهذا في حد ذاته اضطهاد. وفي هذا الباب يقول علال الفاسي: «يجب أن نسمح لغيرنا بإبداء آرائهم حرة طليقة ولو كانت ضدنا إنه لاضرر في أن يصرح الكل بما يعتقد، إن العصمة لاتتأتى لغير الأنبياء، ولذلك فالأفكار التي نعرضها يمكن أن تكون مجالا للنظر من الجميع، وقد يعطون من آرائهم ما يصحح أغلاطنا وإنه مهما كانت للأفكار التي أدافع عنها من قيمة فإن مبدأ الحرية يجب أن يعلو عليها...» 3 وهذه الفقرة وغيرها من الدرر التي اتسق بها عقد النقد الذاتي لدليل قاطع على أن علال الفاسي كان عاشقا لحرية الفكر متيما بالتحرر الفكري مؤمنا بالجدل والنقاش والنقد في جلاء وصفاء وإيمان وإنها لعمري صفات يجب أن تتحلى بها النخبة السياسية لتحقيق الديمقراطية في مجتمع يجب أن يكون فيه الوعي الديمقراطي شرطا من شروط التنمية. وفي هذا المضمار يؤكد علال الفاسي أن الأمة التي تفكر وتؤمن بتعميم الفكر هي الأمة القادرة علي خلق التجاوب الديمقراطي بين الحاكم والمحكوم، لأن الفكر في نظره هو الذي يحقق التوازن بين عناصر الشعب ويمحو الفوارق الطبقية ويدفع بالأمة الى النهوض والازدهار، وكأني بالزعيم علال يثمن قبل الأوان بعقود هذا الحراك السياسي الذي يعرفه المغرب في جو سلمي واستثنائي يجب أن يحتكم فيه للعقل، ونستحضر في هذا الباب قوله: «لنثق في العقل ولكن لنرفع مستواه لأن حوار الفكر منهجنا الذي لايبلى، ويجب أن ينتصر العقل وتكون له الرقابة على أخلاقنا وسلوكنا...» 4 وبهذا يكتسي هذا السفر المتعدد المفاهيم والأبواب أهمية متجددة لأنه مشروع مجتمعي متكامل يضم القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والحقوقية في قالب علمي صارم ناتج عن استراتيجية فكرية واضحة المرامي والأهداف تتجاوز في مضمونها الزمان والمكان لتظل أرضية خصبة لمشروع ثقافي، حضاري، ديموقراطي، يمكن النهل منه وتحليله باستمرار للوصول الى دوره الفكرية التي منحته قيمة علمية وتاريخية أقرها ويقرها جهابذة الفكر وطنيا ودوليا. إذن أمام هذه الجرعات البسيطة من السيل الفكري الفياض لزعيم العروبة والإسلام علال الفاسي نخلص إلى أن هذا الوطن الذي من أجله عاش ومن أجله نفي وله فكر ونظر وشيد أهرامات فكرية وبحوثا غزيرة تتطلب اليوم الاهتمام والدراسة والتحليل للاعتماد عليها في كل تعديل مرتقب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وديمقراطيا، لأن المنطلق لديه رحمه الله منطلق إسلامي في معانقته لقضايا الإنسان في مفهومها الشامل وهو المتشبع بفلسفة الإسلام مع النهل من نظريات المفكرين والفلاسفة والعلماء والمنظرين الديمقراطيين عبر العالم مما يدل على بعد نظره وشمولية فكره وسعة أفقه. ومما يحتم من جهة أخرى التنبيه إلى جوانب عدة لم تحظ بعد بالعناية الوافية من طرف الباحثين في شخصية علال الفاسي الذي يراه جاك بيرك: «حياة دون ملل أو كلل أو تعب. لم يكن يدافع عن شخصية مغربية فقد لكن عن الهوية الإسلامية». وأحسن تحية أحيّي بها الأب الروحي الزعيم والبدر الذي أنار أنا زمانه وزمان الأجيال المتلاحقة باقة شعر اقتطفتها من ديوان المرحوم عبد المجيد الفاسي 5 جزيت خيرا على الإسلام والعرب في كل علم لكم فكر وموهبة علال شكرا وقولي الحق أعلنه هذي الحقيقة والآثار ناطقة إن الحقيقة لا تخفى مشارقها في كل أرض وهذا المغرب العربي تهدي وتبعث روح الفهم والطلب والحق دأبي والإيمان مكتسبي لاضير إن عدم الإنصاف ذو ثلب هل يحجب البدر في إتمامه الذهبي؟ الهوامش 1 علال الفاسي العالم والشاعر والإنسان الأستاذ عبد الصمد الزعنوني ص 28 2 النقد الذاتي مقدمة المؤلف 3 النقد الذاتي ص 51 4 النقد الذاتي ص 59 5 ديوان المرحوم عبد المجيد الفاسي تحقيق سعيد الفاضلي ط 1 1997