كيف يتعامل المؤلفون مع مترجمي كتبهم؟ يبدو أن الكتاب لا يتعاملون جميعا التعامل نفسه مع مترجمي نصوصهم. فهذا «توماس برناردث» يجيب، وقد سئل إن كان يهتم بترجمات كتبه ويتابعها بالمراقبة، بالقول: «لا أهتم بها بتاتا، فالترجمة هي كتاب آخر لا علاقة له بالنص الأصلي. إنها كتاب ينتمي لمن ترجمه»1. وينحو «توماس مان» المنحى نفسه فيجيب المترجم الذي يسأله عن معنى لم يفهمه أو يطلب منه بعض التوضيحات، أن المترجم مسؤول عن التأويل الذي ينتهي إليه. وكلا الأديبين يعترفان للمترجم باستقلاليته، ويعتبرانه كاتبا ندا يسامق المؤلف. وهو الموقف نفسه الذي نجده عند أندري جيد، يقول: «في البداية، كنت أطلب أن تخضع ترجمات أعمالي لمشيئتي، والنسخة التي تخضع لتوجيهاتي كنت أعدها أحسن نسخة تقترب من النص الفرنسي. ولكن سرعان ما انتبهت إلى خطئي، واليوم أوصي الذين يترجمون أعمالي ألا يعتبروا أنفسهم عبيدا لكلماتي وجملي، وألا يستغرقوا في الترجمة وقتا طويلا. وإن كان لزاما القول هنا إن هذا الأمر يصدق فقط على المترجم الذي يعرف جيدا لطائف لغته الأم، وهو بالتالي قادر على النفاذ إلى روح الكاتب وحساسيته، هذا الكاتب الذي يعتزم ترجمته إلى حد التماهي «2. ومقابل هذا الموقف، نجد من الكتاب من يتتبع كل شاذة وفاذة في الترجمة، خوفا من ضياع «الأصل».فهذا «باتريك سوسكاند» ينص في العقد الذي يبرمه مع المترجم أن يحتفظ بحق مراقبة الترجمة، وتتبعها صفحة صفحة، حارما المترجم من أي هامش للحرية، ومن كل مسؤولية. وهو بذلك «يجعل من المترجم مجرد أداة غفل من الاسم تنجز ترجمة شفافة»3. وهنا مكمن ذلك الاستيهام القائم على الاعتقاد بوجود الترجمة النهائية للنص التي لن تكون في نهاية المطاف سوى تلك التي يقوم بها كاتب النص نفسه. والقارئ نفسه يعيش هذا الاستيهام. ولربما كان اعتقاده بوجود الترجمة النهائية هو الذي يجعله يستشعر لذة النص ومتعته. ولكن أليس من القراء من يحس تلك المتعة وهو يقرأ المؤلف الواحد في مرايا الترجمات، وينتهي إلى أن المعنى هو في لعبة الاختلاف بينها؟ والمترجم نفسه، وهو يخوض مغامرة الترجمة، أكان يفعل ذلك لو لم يكن مدفوعا بالاستيهام نفسه: الوصول إلى الترجمة النهائية؟ أم تراه، وقد استحضر لا شعوريا شبح الموت المتربص بشخص المترجم- قياسا على موت المؤلف- وقد استبطن أيضا الأمر الموجه إليه بالاختفاء والتواري، أتراه يصدر عن تسليم بحتمية فناء العمل الذي ينجزه، «فقدر أي ترجمة ، بما هي كذلك، أن تكون ترجمة ممكنة ضمن ترجمات أخرى»4. بيد أن عزاء الترجمة القول إن النص الذي لا يترجم يموت، وأنه يحيا بالترجمات. ولا ننس في هذا الصدد تصريح وزيرنا في الثقافة بنسالم حميش بأنه سيترجم كتبه بنفسه، لأن مترجمينا جميعهم لم يقنعوه، وهم جميعا دون المستوى، لهذا فقد قرر سعادته أن يترجم كتبه بنفسه، وكفى الله الكتاب شر المترجمين، وإن كان الوزير وهو يقرر ترجمة كتبه سيصبح واحدا منهم لتحل عليه دون شك لعنة الترجمة التي تلاحق المترجمين منذ حكاية بابل وارتباطها بالبلبلة... وهنا أتذكر فكتور هوغو الذي نوه بترجمة أنجزها أحد أبنائه، وحسم بالقول الجازم إنها الترجمة النهائية. انتصر الشاعر الفرنسي لفلذة الكبد، وها هو وزيرنا ينتصر لنفسه، عملا بالمثل الشهير ما حك جلدك مثل ظفرك. ولا أملك سوى أن أشير إلى كتاب «جوليان غرين» (اللغة ومضاعفها)، المكتوب بلغتين. وفيه يخلص الكاتب إلى أننا لا نكتب الكتاب نفسه بلغتين، حتى وإن ترجمنا نصوصنا بأنفسنا. ولكن، لننتظر ترجمة الوزير لنرى هل سيصل إلى التطابق الكامل النهائي، وهو الفيلسوف الذي يعرف أن التطابق من قبيل الميتافيزيقا والحلم والطوبى التي يسعى كل مترجم إلى تحقيقها، ولكنه يقنع بما يسميه بول ريكور شعور الحداد اللصيق بفعل الترجمة كفقدان ونقصان. لنتصور ماذا يقع لو أن جميع الكتاب قرروا ترجمة كتبهم بأنفسهم. إن وزيرنا بعد أن «ضيق» ذات مزاج الخناق على الكتاب المغاربة وقرر «حرمانهم» من ذلك التعويض الهزيل عن مشاركتهم في معرض الكتاب بالدار البيضاء، ها هو يسعى إلى قطع أرزاق المترجمين. وإن كانت مهنة الترجمة في المغرب لا تفتح «بيتا» حسب التعبير االدارج الجميل. لقد كان إذن ضروريا الصدور عن عاطفة صادقة غريزية هي عاطفة الأبوة للاعتقاد بوجود الترجمة النهائية. فهذا فكتور هوجو يمتدح ابنه وقد انتهى من ترجمة إحدى مسرحيات شكسبير قائلا: «إننا نعتقد - ما سبق للأوساط النقدية النافذة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا أن أعلنته- أن المترجِم الحالي سيكون المترجِمَ النهائي. السبب الأول اتِّسام عمله بالدقة؛ والسبب الثاني اتصافه بالكمال. فهو قد تخطى تماما كل الصعاب التي أوردناها، بل إنه، في رأينا، تمكن من حلها»5. لربما عز على المفكر/ الأب أن تكون ترجمة ابنه مجرد ترجمة ممكنة مصيرها الزوال والموت الرمزي، فهبَّ الأب /المفكر يروِّج لخلود ترجمة فلذة الكبد، وهو يضمر الدعاء لابنه بالبقاء البيولوجي، كأن في بقاء النص بقاء لصاحبه! وكما رأينا مع « إيتيين دولي» الذي قدم حياته ثمنا للاضطلاع بواجب نقل خطاب مترجَم نحو الضفة الأخرى، كي يحفظه ويقدمه إلى الخلف، فكان مصيره الإعدام، لأنه خان الأمانة، حسب زعم المحقق، في ترجمته المقطع السقراطي الشهير الذي ورد فيه ما يأتي: «لن ينال منك الموت فتيلا، لأنك لن تموت وشيكا. وإذ تكون ميتا، فهو لن ينال منك فتيلا، لأنك لن تكون حينها شيئا» : جزمت الرقابة أن لفظة «شيئا» لم ترد في النص اليوناني، وأن المترجم أضافها عمدا كيما يضع موضع شك خلود الروح»6، إنه النص القاتل، كما نصادف مع فكتور هوجو النصَّ الرُّقْيَةَ. 1 Tassel(dominique), Traductions littéraires et traductions scolaires, Le Français aujourd?ui, sept 1991, p. 21. 2 فورطوناطو (إسرائيل)، الترجمة الأدبية: تملك النص، مجلة فكر ونقد، ترجمة مصطفى النحال، ع10، 1998ص135. 3 Tassel , op. cit., p. 23. 4 نفسه، ص24. 5 Ballard(Michel), De Cicéron à Benjamin, P,U,de Lille,1992, p. 264. 6 Edmond(Cary), Les grands traducteurs français, Seuil, 1989, p. 6.