لعب في الأرض وفي السماء، فرحة ألوان تزهو في الأرجاء، تمرح قلوب الصغار في هذا التحول الدافئ ما بين متناوب صحو وإمطار، مفاجئ ممتع، يتنزل حبات مائية غليظة غير مؤذية، بقدر ما هي محفزة على التقافز والتنادي بما له معنى وليس له، بقدر ما تتنزل في الآن نفسه تقريباً، أشعة شمس دفيئة، ويبدو المزيج بين الحالين كالتناوب القصير الأمد بينهما، مضاعفاً لمرح أطفال يبلغ أوجه بالمشهد الأخاذ: ارتسام أقواس بهيجة بألوان متجاورة متلاحمة متداخلة... الأحمر لي... وأنا الأصفر... لا. سبقتك إليه. أنا الأحمر والأصفر... أنا الأبيض البرتقالي... لا أبيض برتقالي، لا أبيض لا أسود، أنا الوردي.. وأنا... يتقاسم الأطفال ألون السماء مبتهجين بملكية بعضها، مبتئسين بما يمتلكه منها بعض آخر دون بعض لمجرد سبق لسان؛ حتى إن منهم من لا يبقى له ما يختاره، ليطلب الشراكة مع غيره إذا رضي، ويبقى الابتئاس أشد في حنايا الصغار ممن لم يستبقوا ويسبقوا في الاختيار بثمرة اللسان... الأهم الأبهج ليس مجرد ألوان السماء، إنما امتداد هذه الأقواس المرسومة في الفضاء مترامية من أقصاه إلى أقصاه، كثيراً ما يحلم الصغار بقطع مسافة أرضية معادلة لنصف استدارة الأقواس اللونية في السماء، يقتسمونها مسافات أرضية، كما يوزعونها بينهم ملكيات لونية، ليستشعروا العجز عن ذلك، لترتد خيبتهم فرحة عارمة بكل شئ، وامتلاك كل الألوان، منها الممتلك سبقاً بأكثر من لسان، ومنها المبتكر لفظاً والمنكر وجوداً... أنا الأزرق، أنت الأسود والأبيض، أنا الحنائي... أنا الكرموسي... الفقوسي، البطيخي... تمتزج أصوات، نداءات، أغان، رقصات، فرحة الدنيا في الأرض والسماء، وتنهمر حبات مطر غليظة في صفاء سماء وإشراق، بزهو ألوان قوسية؛ يحتمي الطفلان بجدار يلتحمان بظهريهما إليه، تتنزل الحبات المطرية الغليظة على البارز من وجه وكيان: أطراف القدمين، أرنبة الأنف، مع مداعبة رشات خفيفة لباقي الوجه؛ الكفان في التحامهما بالجدار، يمتدان من أحدهما في تطلع وفضول ينفسحان لتلقي حبات المطر، كف أولى، صيحة ارتعاب مفتعل مرحة، لحظة التقاء القطرات ببشرة الكف، تمتد كف ثانية، تتلو صيحات مرح غامر، تتشكل لعبة من ملء الكفين بالقطرات المنزلة، أنا أكثر، أنا أكثر، تقرب البنت جمع كفيها المملوءين ماء باتجاه صديقها، ينكر عليها ذلك مبرزاً في الآن نفسه كفيه المليئين بما يراه أكثر... لا. نعم. لا. يرمي الفتى بجمع ما في كفيه على وجه صديقته، ترد بالمثل بملء كفيها في حالة غضب، تمسح البلل عن وجهها وأطراف شعرها، الفتى مثلها يمسح ما ابتل من ملامحه في حال أقل غضباً، أكثر انشراحاً، تزداد الفتاة غضباً وعبوساً، تبدو منصرفة عن المجال، تقاطع اللعبة أي لعبة، يجدها الفتى فرصة ليسترضيها برشة على حين غرة من الخلف على قفاها، تلتفت في غضب أشد، ترميه بجمع كفيها مرات متسارعة تشل بها حركته غير المنتظمة، زادها إغراقه في الضحك ارتخاء وتثاقلا، يستسلم للرش، مظهراً تجلده لما يصيبه من بلل في تحد واحتمال، تتوقف أمام استسلامه مستشعرة متعة انتصار، يظل واقفاً في صمود، قبل أن تكسو ملامحه مسحة غيظ وعبوس، يستدير منصرفاً في هدوء، لتخطو وراءه تواجهه تمسح بطرف كمها بعض ما يبلله، يستعيد أنفاسه المغيظة، تداعبه ابتسامه، ينفض أطرافه مما عليها من بلل، يتبادلان من جديد لعبة الرش بينهما بملء الأكف من قطرات المطر، أنا الأولى... أنا الأول... الأكثر... الأقل... أنا... أنت... تزهو بألوانها الأقواس في السماء، مثلما تزهو بفرحتها القلوب الصغيرة المتقافزة تحت القطرات المطرية المتراقصة على أشعة الشمس، يتبادلان البشر، قلبان تشبعا بللا يهفوان إلى التنشف والتدفؤ، يتجهان صوب الأقرب من منزليهما المتجاورين، وحيدان كل في فترة غياب وليّه، يدلفان بخفة، يخطران بهرج في الأرجاء، يتسابقان نحو الحمّام والمناشف، عطلة مدرستها اليوم كمدرسته، فترة غياب والديها اليوم تطول، مثلها يقول فترة غياب والديه تطول، يهدآن وقد تنشفا وتشبّعا ببعض دفء، تعرض عليه بعض الحلوى، يسعى وراءها نحو المطبخ، تلفظ بعض عبارات الحفاوة والضيافة، هكذا تفعل أمها، هكذا يفعلون... يُظهر بعض سمات الضيف المتهيب، هكذا يفعل زوارهم، هكذا يفعلون... تناوله الحلوى، يأخذ مقتصداً، تدعوه للمزيد، صنع الدار هذه، تقول مترددة بعض الشئ، ثم لتفرغ عبارتها باعتداد: إنها صنع يديها، صنعتها بالكامل، وتحذق صنع الكثير من غيرها، بدءاً بالخلط والعجن والدلك ثم الفرن... آه مرة التهب كوعها بطرف معدن الفرن، أغفلت أن تحمي يديها بالقفاز، التهبت وصاحت صيحة... رغم ذلك لم تكترث، وتابعت تحضير الحلوى رغم اعتراض أمها، تضحك ناظرة في كل اتجاه باعتزاز، متمرسة بأشغال المطبخ وغيره، والحلوى ليس مثلها من يتقن ما تستطيع... يقفز في وجهها... كذابة، لا يمكن ولا تعرف، تقسم أنها صنعتها يقسم أنها تكذب، تقسم أنه حمار ولا يفهم، يقسم أنها وأمها وأباها حمير، ترميه بقطعة حلوى يرمي بحلواه على الأرض... زبل، هذي حلوى هذي؟ يقول ويكرر، يتحول منصرفاً، تتركه، ثم تلحق به عند الباب... عندها حلوى أحسن صنعتها أمها، ينظر إليها ملياً، يحدقان كل في الآخر، يداعب أساريرهما افترار، يعودان، تفتح درجاً تسحب منه علبة حلوى مثلثة الأشكال، هرمية مرصوفة، يتذوقان معاً، معسّلة بنكهة فاكهة، صحيح تجيب، فأمها حاذقة في شؤون المطبخ، تحاول أن تعلمها، لكن بعض أسرار الخلط وتفاصيله ثم... على كل، فالصغيرة لا تتابع أو هي لا تفلح في التعلم، يقول إنه لم يتذوق مثل هذه الحلويات، ولاشك أن بها شيئا من صنع يديها؟ تنكر، تؤكد أن أمها هي التي تعرف وتصنع كل شئ، ولكن لابد أن تكوني ساعدت في ذلك؟ بعض الشئ، تقول مترددة كالمرغمة على الاعتراف، يؤكد أنه لم يتذوق في حياته حلوى بهذا الطعم، حتى في بيتهم... أبداً أبداً؟؟؟ أبداً يجيب، وحتى تلك الحلوى الأولى كانت ألذ مذاقاً... تلك؟ نعم. نعم نعم... يستدرك حكمه السابق بأنها زبل، لا ألذ منها تلك الأولى أيضاً، يقسم على ذلك. أحلى ما تذوق في حياته، يستزيد منها عربوناً على صدقه، يفتر ثغرها عن ابتسامة رضى، يستجيب بافترار ثغر مماثل، يؤكد أنها وأمها حاذقتان فعلا، أمه تحاول أيضاً، لكن حلواهم ليست بهذه النكهة، تقول إن عندهم الكثير من الحلوى، تطلعه على أشكال أخرى، بعضها دائري وآخر هلالي، ينبه إلى أنها لو كانت ملونة بالأصفر والأخضر والأحمر لكانت كقوس السماء الجميل، تؤكد ما يفتنها من دفء القطرات المطرية مع مشهد القوس الملون العظيم، يؤكد فتنته بالمشهد كذلك، يضيف أن كل شئ جميل: الحلوى والمطر الدافئ والقوس الملون... عرس الديب تردد على سمعه، يتساءل عما يسمع. عرس الديب تؤكد له، يسمونه عرس الديب، هذا التناوب والتداخل، شرقة وبرقة، ما بين صحو وإمطار، يسمى عرس الديب... هكذا يسمونه. تعجبه العبارة والمعنى يكرر مثلها. يكرران في تراقص. عرس الديب. عرس الديب عرس... لم لا يجربان لعبة العرس؟ يصمتان يهدأن معاً في آن. من أين الصوت المقترح المفتتح؟ تقول إنها لعبة بنات جميلة، عرس وعروس تمثلها إحدى البنات مع الأخريات يمثلن الأمهات والعمات إلخ إلخ... في دور وتسلسل؛ بدون عريس؟ حقاً... تأخذ الفتاة سمت عروس، ترتدي بعض ما تجده مناسباً لعروس، فضفاضاً عريضاً أبيض أو شبه ذلك، تجرجر أذيالها مع منديل مطروز مخرم على الرأس ينحدر حتى أسفل الذقن، بينما الفتى العريس إلى جانبها، لم يجد شيئاً يغير من حاله إلى هيئة عريس، غير تصنع اختيال في مشية رزانة وانتصاب إلى جانبها، يتقدمان نحو صدر غرفة الاستقبال، يردان تحية الضيوف الحضور، بابتسامة وإيماءة عرفان، يتهادى موكبهما الثنائي متأنياً، تتقدمه ثلة صبيات مثنى مثنى بالزهور والشموع، يقتنصان عبارات الإعجاب المدوية بجمالهما وانسجامهما وسحر المشهد كله، تعلو الزغاريد والأدعية الصالحة للنجمين القمرين العروسين، ربي يحفظهم من شر حاسد. ربي يسعدهم ويرزقهم الغرس الصالح. الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، يعبق من حولهما، يعم الأرجاء فوح أبخرة وعطور. الكون فرحة بهما... يردان على التحايا بالبشر والإيماء، تصدح لمرآهما الأنغام والتصفيقات، تتقدمهما إلى صدر الغرفة مجموعة صبيات بملامح مزينة وشعور مهدلة يجللهن البياض، يحملن في أيديهن الشموع وباقات الزهور، تحيط بهما عن يمين وشمال بضعة نساء مختصات في زينة العرس وشؤون الزفة، على رأسهن «النكّافة» الكبيرة، تلحظ وتومئ بالإشارة، النسوة المختصات بعضهن يستبقن إلى مجلس العروسين، يرتبن بآخر اللمسات ما ليس في حاجة إلى ترتيب، منهن حاملات أذيال فستان العرس المترامي على خطوات فاتنة العرائس وفارس العرسان، تشير بلطفها النكّاّفة، تجلسهما جنباً إلى جنب، حيث يجب على منصة وعرش بارز، تحيط بهما الشموع والزهور، تجلس حول أقدامهما ثلة الصبيات، دمى ملائكية مشرقات زاهيات، يبدأ الاحتفال الكبير، فرقة المزامير والدقة المراكشية، ثم الشيخات المغنيات الراقصات، تطوف كؤوس الشاي والحلويات، مختلف مشروبات، ألوان معاصير ومذاقات، تصدح الأصوات مرددة أغاني شعبية غزلية، تهز شغاف النفوس، تتحرك لإيقاعها الأجساد، راقصة متماسكة متداخلة، قل متبارية في المرح، رجال ونساء، فرادى، مثاني... يرقصون محلقين في أجواء الطرب، يرسمون بتعاريج الحركات إيقاعات اللحن والنغم، مرة بعد أخرى يلتفت العريس صوب عروسه المحتشمة، يسر إليها عبارة وله وعشق، يزداد لها خداها المزينان احمراراً، مفترة عن ابتسامة رضى داخلي، أو يعلق على حركة أو إشارة من الراقصين، يبتسم لها قلباهما معاً في تبادل وتوادد. مرة بعد أخرى، وبتقدير من قبل النكّافة للفترة الزمنية وبإشارتها اللطيفة، يقوم العروسان، تقوم النسوة المختصات بإلباس العروس، يحملن أذيال ما تخطر فيه، متجهات بها إلى غرفة اللباس، حيث يفترق العريس عن عروسه مؤقتاً، وحيث تستريح هي لفترة، يجددن زينتها ويغيرن لباسها بلباس آخر، ليعود فارس العرسان إلى أميرته على شوق أحر من جمر، يأخذ بيدها باتجاه منصة الجلوس من جديد، هكذا بين كل فترة وأخرى، سبعة ألبسة ملائكية أميرية، على سبع مراحل وفترات من ليلة العروس، كل لباس ينتمي إلى عصر وحضارة، تعدد ألوان وأشكال في كل شئ، والمناولون المبتسمون اللطاف، ما ينفكون يطوفون بطيبات المآكل والمشارب على الحضور، وحدهما فارس الليلة وأميرتها، لا يتذوقان شيئاً من تلك الطيبات، فهما ما عدا توزيع الابتسامات، وتبادل عبارات سرية بينهما، يتحليان بالبشر والرزانة، كفاهما عرسهما عن أي مأكل أو مشرب، إلا أن النكّافة العليمة العرافة، لا تبخل عليهما في فترات الاستراحة القصيرة، بمناولتهما مما لذ وطاب، مما يقوي همة الرجال، ويفتح شهية النساء، تناولهما ذلك، وهي تنصح وتغمز وتلمز، والفاهم يفهم. قي أخر الليل، أواخر بداية الصباح الباكر، تلتم ثلة الأقران والأتراب من صديقات وأصدقاء العروسين، لتبدأ الزفة إلى الشقة السعيدة التي تشهد ليلتهما الأولى، بعد اشتياق واحتراق، تصدح حولهما الألحان والأنغام، تتراقص حول خطوهما الأرواح والأجساد، تتقدمهما الشموع والزهور إلى عتبة الغرفة البهيجة، ليلتفتا إلى جمهورهما، يردان التحية والسلام وليخطوا خطوتهما الأولى، نحو عزلتهما المنشودة المشروعة. عرّها. يلتقط لفظة كالهمس من بعيد، كأنها صادرة عن جدار حجرة لا تضم غيرهما. عرّها عرّها. عرّها. يتكرر الهمس كالهاتف الغامض من موقع مجهول، ليفهم أنه صادر عنها منحنية برأسها في حشمة وخجل، يكاد يغطي المنديل المنسدل على رأسها كامل ملامح وجهها، تكرر بالهمس نفسه هاتفها الآمر، أو تنبيهها إلى أنه يجب أن يعرّيها، وكأن الصوت صادر عن غيرها، يظل متردداً كالمتبلد أو المتهيب، لا يعرف قصد الهاتف الآمر، ولا كيف يطيعه، تبادر من ذاتها تزيح ما ينسدل على وجهها، موضحة أن العريس يعرّي وجه عروسه تتكشف له ملامحها، يحدق الطفل في رفيقته مبهوراً، مما استصعبه وهو سهل يسير... يسود الصمت بينهما، منحنية بنظرتها إلى أرض الغرفة، بينما عيناه مجمدتان في استقامة على فراغ أمامه. قبّلْها، يهتف به همس. ينتفض في داخله غير متأكد مما يسمع. قبّلْها. يكرر الهاتف الهامس الغامض، قبّلْها. قبّلْها... يلتفت باتجاه فتاته. العريس يقبل عروسه. يختطف من خطها قبلة، تئن بضحكة سرية خفيفة، يهتز لها الكتفان الصغيران يتساءل. ما تعرفش. يهمس هاتفها في سمعه. لا. أعرف. لا تعرف. أعرف. لا... أ... تفاجئه ملتفتة إليه، تبادر بشفتيها الممطوطتين تلتقيان بشفتيه، هكذا تقول متباهية. كيف تعرف؟ تقول إنها تعرف. كيف؟ أعرف، تهز كتفيها في ابتسامة، يريد أن يعرف كيف تعرف. تتردد وكأنها تقيس حجم خطوتها، عرفتْ ذلك وتعرفه من الأفلام؟ الأفلام؟ نعم. لا. نعم. لا... من أمك. يرسلها كطلقة رصاصة لم يقدر مبلغ غورها. بل أمك أنت. أمها التي تقبل أباها بذلك الشكل، بل أمه وأباه المقبلان لبعضها على ذلك النحو، أمه. أمها. أبوه. أبوها... تدفعه بعنف، يدفعها بدوره، يتدافعان يتشابكان، يرتميان على الأرض، يتدحرجان جنباً وظهراً متشابكين متشادين، يتقوى عليها حيناً، تتقوى عليه حيناً آخر، يتقلبان جنباً لجنب طهراً لبطن تتقوى في موقع غالب على بطنه، يتدارك في موقع غالب على بطنها، يتقلبان متشابكين متعاركين، ليهمدا كالمنهكين فجأة، بطناً لبطن، صدراً لصدر، وجهاً لوجه، تأخذهما سكينة شبه تعب وإرهاق، شبه استمراء وارتياح، أحدهما في موقع لا غالب، يلفهما هدوء، الآخر لا مغلوب، يتسمعان أنفاسهما يتحسسان لهاثهما الصامت، يستشعران نبضهما متداخلا متبادلا... العريس يقبل عروسه.