ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفكرة ألبر كامو في العربية: في رأسه يقيم القارئ جليساً ونديماً
نشر في البوصلة يوم 12 - 07 - 2010

«يكتب البعض بفعل نزعات مرجأة. فكلّ خيبة أمل في حياتهم تصنع لهم تحفة فنيّة، كذبة محوكة من أكاذيب حياتهم. أمّا أنا، فسوف تولد كتاباتي من مسرّاتي. حتى في ما ستحويه من قسوة. أحتاج الكتابة كما أحتاج السباحة، جسدي يطالب بذلك».
كتب ألبر كامو منذ عام 1935 حتى وفاته عام 1960، ما أطلق عليه تسمية «الدفاتر». وقد اخارت «غاليمار» عنوان «المفكرة» لها، تفادياً لأي التباس مع «دفاتر ألبر كامو» التي هي قيد الاعداد. خلال الفترة بين 1935 و1953 عُني كامو بإعداد نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة من هذه الدفاتر التي جُمعت في ثلاثة أجزاء تصدر قريباً عن «دار الآداب»، بالتعاون مع مؤسسة «كلمة»، ترجمة الروائية نجوى بركات، التي صدّرتها بكلمة تمهيدية، فيها أن هذه المفكرة «تشكل في أجزائها الثلاثة، خريطةً عملاقة لمحطّاتٍ أساسية في رحلة استكشاف كامو لجغرافيا الكتابة: جغرافيا رواياته وبحوثه ومسرحيّاته وما رافقها من نيات وشكوك ومخاض، حتى ليشعر القارئ أنه يستمع، لحظةً بلحظة، إلى صوته الداخلي وما يرفده من أصوات شخوص أعماله مثلما تحضر إبّان ولادتها، دونما تبرّج وعلى حين غفلة، كقطعة خام لم تُعمل فيها الكتابةُ الواعيةُ بعدُ إزميلَها. إنها الجغرافيا الداخلية لعوالم كاتبٍ ما استقرّ قطّ أو هنئ على الرغم من نجاحاته، فبقيت روحه على أرقٍ ما بين الإيمان الراسخ بالإنسانية وقيمها، وتشاؤمٍ لا يتزعزع يقينه بعبثية الحياة.
مفكّرة كامو هي كتاب ال»ما قبل»، ما قبل الانتهاء من كتابة «الغريب» و»الطاعون» و»الرجل المتمرد» و»أسطورة سيزيف» و»العادلون» و»كاليغولا» وأعمال أخرى لم يُكتب لها أن ترى النور بعد الرحيل المفاجئ لصاحبها، زاخرٌ بجمل واوصاف تذهب أحيانا دونما وجهة واضحة فلا يرشدك إلى معناها إلاّ الحدس، بمشاهدات وقراءات وعلاقات تتوالى، تتقاطع، تتضافر، لتصنع صوتاً جارحاً حادّاً لا يخلو من تدويرات حنونة، إذ هو لا يخرج مثل غناء الأوبرا من الرأس، وإنما من تحت، من الحنجرة والأحشاء ممزوجا بالأعشاب ودود الأرض. خلال أشهر من العمل الدؤوب، خلته جالساً في رأسي. الواقع، هي أنا من كنت أجلس في رأسه، فأهلاً بك، أيّها القارئ، جليساً ونديما في رأس ألبر كامو».
الدفتر رقم I
أيّار 1935- أيلول 1937
ما أودّ قوله:
قد نحنّ، دونما رومنطيقية، إلى فقر ولّى، إذ يكفي عدد معيّن من سنوات البؤس لتكوين حساسية. في هذه الحالة الخاصة، يشكّل الشعور الغريب الذي يكنّه الابن لأمّه كلّ حساسيته(1). ويمكن تفسير تعبيرات الحساسيّة تلك في المجالات الأكثر اختلافاً من خلال الذكرى المستترة، المادية، للطفولة (غراء يلتصق بالروح).
من هنا، امتنان من يُدرك الأمر ومن ثم تأنيب الضمير. ومن هنا أيضا، ومقارنةً، الشعور بثراء مفقود إذا ما بدّلنا البيئة. فبالنسبة إلى الأغنياء، تبدو السماء الممنوحة علاوةً، هبةً طبيعية؛ في حين أنها تستعيد طابعها كنعمة لامتناهية بالنسبة إلى الفقراء.
إزاء تأنيب الضمير، الاعتراف ضرورة. العمل الأدبي اعتراف، ينبغي أن أقرّ بذلك. لا شيء للقول والمعاينة بدقّة، سوى أمر واحد. لقد لامستُ بالتأكيد في حياة الفقر تلك، بين أولئك الناس المتواضعين أو المتعجرفين، لمستُ حتما ما يتبدّى لي معنى الحياة الحقيقي. فالأعمال الفنية لن تكفي أبدا لمعرفته. ليس الفنّ بالنسبة إليَّ كلّ شيء. فليكن على الأقلّ وسيلة.
المهمّ أيضا حالات العار المخزي، الجبن الصغير، والتقدير اللاواعي الذي نسبغه على العالم الآخر (عالم المال). أعتقد أن عالم الفقراء هو من بين العوالم النادرة، إن لم يكن العالم الوحيد، المنطوي على ذاته والقائم جزيرةً ضمن المجتمع. بتكلفة بسيطة، يمكننا أداء شخصيّة روبنسون. وعلى من يغطس فيه أن يقول عند التحدّث عن شقّة الطبيب القاطن على مسافة خطوتين: «هناك».
ينبغي التعبير عن ذلك كلّه، من خلال الأمّ والابن.
وهذا بشكل عامّ.
للتحديد بدقّة، كلّ شيء يتعقّد:
1) ديكور. الحيّ وسكّانه.
2) الأمّ وأفعالها.
3) علاقة الابن بأمّه.
ما هو الحلّ. الأمّ؟ الفصل الأخير: القيمة الرمزيّة التي تتحقّق عبر حنين الابن؟
*
غرونييه(2): دائما نسيء تقدير أنفسنا. فقر ومرض ووحدة: وها نحن ندرك أزليّتنا. «ينبغي أن نُدفع إلى معاقلنا الأخيرة».
هو بالضبط هذا، لا أكثر ولا أقلّ.
*
غطرسة كلمة التجربة. التجربة ليست تجريبية. نحن لا نفتعلها. بل نخضع لها. إنها بالأحرى صبر. نحن نصبر الأحرى أننا نقاسي.
كلّ ممارسة: عند انتهاء التجربة، لا نصير حكماء وإنما خبراء. ولكن في أيّ مجال؟
*
صديقتان: كلتاهما مريضة جداً. الأولى بمرض عصبيّ: الانبعاث ممكن دوما. والثانية: بسلّ متقدّم. لا أمل البتّة.
بعد ظهيرة ما. المسلولة قرب سرير صديقتها. تقول هذه الأخيرة:
- أترين، إلى الآن وحتى في أسوأ النوبات التي تعرّضت لها، كنت ما زلت أشعر بأن ثمة ما هو باقٍ، أملٌ بالحياة راسخٌ جدا، اليوم، يبدو لي أنه لم يعد هناك ما يبعث على الأمل. أنا موهنة الى درجة أحسّ معها أنني لن أنهض أبدا.
فتمسك الأخرى يدها، وفي عينيها وميض فرح وحشي: «آه! سنقوم بالرحلة الكبيرة معا».
المريضتان كلتاهما، المسلولة على فراش الموت، والثانية وقد شُفيت تقريبا. لقد سافرت لهذه الغاية إلى فرنسا لاختبار طريقة علاج جديدة.
لذا تعاتبها الثانية. تعاتبها في الظاهر لكونها تخلّت عنها. لكنها في الحقيقة تتألّم لرؤيتها وقد شُفيت. فقد راودها ذاك الأمل المجنون بألاّ تموت وحيدة وباصطحاب صديقتها الأعزّ. ستموت وحيدة. ومعرفتها بذلك تغذّي صداقتها ببغض رهيب.
*
سماء عاصفة في آب. أنفاس حارقة. سحاب أسود. ومع ذلك، فهناك في الشرق، شريط أزرق، دقيق، شفّاف يستحيل النظر إليه. وجوده يزعج العينين والروح. الجمال لا يُحتمل. إنّه يصيبنا باليأس. أزليّةُ دقيقةٍ واحدة نودّ لو نمطّها الزمن كلّه.
*
إنه مرتاح في الصدق. أمر نادر جدا.
*
موضوع الكوميديا مهمّ أيضا. ما ينقذنا من أسوأ آلامنا هو شعورنا ذاك بالهجر وبالوحدة، وإنما هي وحدة لا تكفي مع ذلك لكي لا «يرى» إلينا «الآخرون» في شقائنا. بهذا المعنى، تكون دقائق سعادتنا أحياناً هي تلك حيث ينفخنا شعورنا بالهجر ويرفعنا الى مصافّ حزن لا ينتهي. بهذا المعنى أيضا، ليست السعادة غالبا سوى شعورنا الشفيق بشقائنا.
حين قرع الله باب الفقراء، وضع الرأفة جنب اليأس، كعلاج جنب المرض.
*
فتيّاً، كنت أطالب الأشخاص بأكثر مما يستطيعون تقديمه: صداقة دائمة، عاطفة متواصلة.
الآن، أعرف كيف أطالبهم بأقلّ ممّا يستطيعون تقديمه: رفقة دونما جُمَل. فتحتفظ عواطفهم وصداقتهم وحركاتهم النبيلة في نظري بقيمتها الكلية كمعجزة: تأثير النعمة الكامل.
*
... كانوا قد أسرفوا في الشرب وأرادوا أن يأكلوا. لكنها ليلة رأس السنة وما من أماكن شاغرة. رُفضوا، فأصرّوا. فتعرّضوا للطرد. عندئذ، انهالوا رفسا على صاحبة المطعم وكانت حاملاً. تناول صاحب المطعم، وهو شابّ أشقر هزيل، سلاحا وأطلق النار. استقرّت الرصاصة في الصدغ الأيمن للرجل. استدار الرأسُ ناحية الجرح حيث يستريح الآن. فراح صديقه يرقص حول الجثّة، ثملاً من الكحول والذعر.
كانت المغامرة بسيطة وهي ستنتهي يوم غد ربّما بمقال في صحيفة. لكن، في الوقت الحالي، في هذه الزاوية النائية من الحيّ، يضفي النور النادر فوق البلاط المشبع بالأمطار الحديثة، حركة الانزلاق المبتلّة الطويلة للسيّارات، والوصول المتباعد للحافلات الكهربائية الرنّانة المُنارة، رونقًا مقلقاً على هذا المشهد المنتمي إلى عالم آخر: صورة متكلّفة ملحّة للحيّ ذاك، حين تأهل نهايةُ النهار شوارعَه بالأطياف؛ بالأحرى، حين ينبثق أحياناً طيف واحد، مجهول، يعلن عن حضوره وقعُ خطى أصمّ وضجيجُ أصوات ملتبس، ويغمره مجدٌ دامٍ في النور الأحمر المنبعث من فانوس صيدلية.
*
كانون الثاني 1936
لا أرى من تلك الحديقة، في الناحية المقابلة من النافذة، سوى الجدران. وتلك الأوراق القليلة حيث يسيل النور. وإلى الأعلى، المزيد من الأوراق. وفي الأعلى، هناك الشمس. ومن كلّ هذه البهجة المنتشرة في الهواء التي نشعرها في الخارج، من كلّ هذا الفرح المندثر فوق العالم، لا أتميّز سوى ظلال الأوراق تتلاعب فوق الستائر البيضاء. وأشعّة شمسيّة خمسة تسكب في الغرفة بصبر، شذاً أشقر لأعشاب يابسة. نسمة هواء، وها هي الظلال تحيا فوق الستائر. فلتُخفِ سحابةٌ الشمسَ ولتكشفها من ثمّ، وها هو الأصفر الزاهي لمزهريّة الميموزا ينبثق من الظلّ. يكفي: هذا البريق الوليد وحده، وها أنا مغمور بفرح مبهم يصيبني بالدوار.
سجين الكهف، ها إني وحيد في مواجهة ظلّ العالم. ما بعد ظهيرة من كانون الثاني. لكنّ الصقيع باق في عمق الهواء. قشرة من الشمس أينما كان، قد تتفتت بلمسة ظفر، إلا أنها تكسو كل الأشياء ببسمة أزليّة. من أنا؟ وما الذي يمكنني فعله، سوى الدخول في لعبة الأوراق والنور؟ أن أكون شعاع الشمس هذا حيث تحترق سيجارتي، تلك الرقّة وذاك الشغف الكتوم الذي يتنفّس في الهواء. إذا ما حاولتُ بلوغ ذاتي، فسيكون في عمق ذلك النور(3). وإذا ما حاولت فهم تلك النكهة الرقيقة التي تكشف سرّ العالم، وتذوقها، فإن نفسي هي ما سأجده في عمق الكون. نفسي، أي ذاك الانفعال الأقصى الذي يحرّرني من الديكور. بعد قليل، ستستحوذ عليّ أمورٌ أخرى وأشخاص آخرون. إنما دعوني أقتطع هذه اللحظة في قماشة الزمن، كما يترك آخرون زهرة بين صفحات كتاب. يأسرون فيها نزهة لامسهم الحبُّ خلالها. أنا أيضا أقوم بنزهة، لكنّ الإله هو من لامسني. الحياة قصيرة وإضاعة الوقت خطيئة. أضيّع وقتي النهار بأكمله، ويقول الآخرون إني نشيط جدّاً. اليوم، هي استراحة وقلبي ذاهب للقاء ذاته.
إذا كان القلق لا يزال يعتصرني، فلأني أشعر بانسياب هذه اللحظة غير الملموسة من بين أصابعي كلآلئ الزئبق. دعوا إذاً أولئك الذين يودّون الانفصال عن العالم. ما عدت أتذمّر طالما أني أرى نفسي وأنا أولد. إني سعيد في هذا العالم لأن مملكتي من هذا العالم. سحابة تمرّ ولحظة تذبل. ميت من نفسي لنفسي. يُفتح الكتاب على صفحة محبوبة. ما أبهتها اليوم في حضور كتاب العالم. أصحيح أني تعذّبت، أليس صحيحاً أني أتعذّب؛ وأن هذا العذاب يشعرني بالنشوة لأنه تلك الشمس وتلك الظلال، تلك الحرارة وذلك البرد، التي نشعرها بعيدة جدّا، في عمق الهواء. هل سأتساءل إن كان ثمّة ما يموت وإن كان البشر يتألّمون، طالما أن كلّ شيء مدوّن في تلك النافذة حيث تدلق السماء كمالَها. يمكنني القول، وسأقول بعد حين، إن المهمّ أن نكون إنسانيّين، بسطاء. لا، ما يهم هو أن نكون حقيقيين، إذ إن ذلك يحوي كل شيء، الإنسانية والبساطة. ومتى أكون أكثر حقيقة وأكثر شفافيّة إلاّ حين أكون العالم؟
لحظة من الصمت الرائع. لقد صمَتَ البشر. إنما أنشودة العالم ترتفع وأنا، مقيّداً في قعر الكهف، قد أُشبعتُ قبل أن أشعر بالرغبة. الأبدية هنا وأنا كنت أتمنّى ذلك. الآن يمكنني أن أتكلّم. لا أدري ما الذي يمكنني تمنّيه أفضل من هذا الحضور المتواصل لنفسي مع نفسي. ليس ما أتمنّاه الآن أن أكون سعيدا، ولكن فقط أن أكون واعيا. نحسب أننا منسحبون من العالم، لكن يكفي أن تنتصب زيتونة وسط الغبار الذهبي، تكفي بعض الشطآن الباهرة تحت شمس الصباح، لكي نحسّ بذوبان تلك المقاومة في داخلنا. هكذا هو الأمر بالنسبة إليّ. أنا أعي الإمكانات التي أتحمّل مسؤوليتها. تحمل كلّ دقيقة حياة في طيّاتها قيمها كمعجزة، ووجهَ صباها الأبديّ.
*
لا نفكّر إلاّ من خلال الصور. إذا أردت أن تكون فيلسوفاً، فاكتب روايات.
*
عبثية
وضوح رؤية
لعبة مجانية
قوّة وطيبة
الحذر من الغرور
اكتساب المواظبة
قديس: الصمت. التحرّك. اشتراكية
اقتناء وتحقيق
في العمق: القيم البطوليّة
*
القسم الثاني(4)
في الحاضر
1- في الماضي
الفصل أ 1 - المنزل أمام العالم. تقديم.
الفصل ب 1- كان يتذكّر. العلاقة مع لوسيان.
الفصل أ 2 - منزل أمام العالم. صباه.
الفصل ب 2 - لوسيان تروي خياناتها.
الفصل أ 3 - منزل أمام العالم. دعوة.
الفصل ب 4 - غيرة جنسيّة. سالزبورغ، براغ.
الفصل أ 4 - منزل أمام العالم. الشمس.
الفصل ب 5 - الهروب (رسالة). مدينة الجزائر. يصاب بالبرد، يمرض.
الفصل أ 5 - ليلة أمام النجوم. كاثرين.
يروي باتريس(5) قصّته كمحكوم بالإعدام: «إني أراه، ذاك الرجل. إنه في داخلي. وكلّ كلمة يتفوّه بها تعتصر فؤادي. إنه حيّ وهو يتنفّس معي. ويخاف معي».
«وذاك الآخر الذي يودّ أن يحنيه. أراه يعيش أيضاً. إنّه في داخلي. أُرسل اليه الكاهنَ ليضعفه كلّ يوم».
«أعلم أنني الآن سأكتب. يجيء وقت حيث ينبغي للشجرة أن تحمل ثمارها بعدما تعذّبت كثيراً. كلّ شتاء ينتهي في الربيع. عليّ أن أشهد بذلك. وسوف تُستأنف الدورة من ثم».
«... لن أقول شيئاً آخر سوى حبّي الحياة. إنما سأقوله بطريقتي».
«يكتب البعض بفعل نزعات مرجأة. فكلّ خيبة أمل في حياتهم تصنع لهم تحفة فنيّة، كذبة محوكة من أكاذيب حياتهم. أمّا أنا، فسوف تولد كتاباتي من مسرّاتي. حتى في ما ستحويه من قسوة. أحتاج الكتابة كما أحتاج السباحة، جسدي يطالب بذلك».
القسم الثالث (كلّ شيء في الحاضر)
الفصل الأوّل - كاترين، يقول باتريس، أعرف أني الآن سأكتب. قصّة المحكوم بالإعدام. لقد عدت لممارسة وظيفتي الحقيقية ألا وهي الكتابة.
الفصل الثاني - النزول من المنزل أمام العالم إلى المرفأ، إلخ. طعم الموت والشمس. حبّ الحياة.
*
6 قصص:
قصة اللعبة اللمّاعة. ترف.
قصة الحيّ الفقير. موت الوالدة.
قصة المنزل أمام العالم.
قصة الغيرة الجنسية.
قصة المحكوم بالإعدام.
قصة النزول نحو الشمس.
*
في جزر الباليار: الصيف الماضي.
الخوف هو ما يصنع ثمنَ السفر. ففي لحظة معيّنة، ونحن بعيدون جدّاً عن أوطاننا وعن لغتنا (يصبح ثمن صحيفة فرنسية لا يقدَّر. وساعات الليل في المقاهي حيث نسعى إلى ملامسة آخرين بمرفقنا)، ينتابنا خوف غامض ورغبة غريزية باللجوء إلى مأوى عاداتنا القديمة. هذا هو مكسب السفر الأكثر وضوحاً. حينها، نكون محمومين إنما متفتّحي المسامّ، تزلزلنا أقلّ صدمة حتى أعماق كياننا. فلنصادف شلاّل ضياء، وها هي الأبدية هنا. لذا، لا ينبغي القول إننا نسافر لمتعتنا. ما من متعة في السفر. بل إني أرى فيه تقشّفاً. نحن نسافر من أجل ثقافتنا، هذا إذا كنّا نعتبر الثقافة ممارسة لحسّنا الأكثر حميميّة، ألا وهو الأبديّة. المتعة تُبعدنا عن أنفسنا، كما أن سلوى باسكال تُبعدُ عن الله. السفر، وهو الأشبه بعلم أعظم وأخطر، يعيدنا إليه.
*
جزر الباليار.
الخليج.
سان فرنسيسكو الدير.
بيلفير.
حيّ غني (الظلّ والنساء المسنّات).
حيّ فقير (النافذة).
الكاتدرائيّة (ذوق سيّئ وتحفة فنيّة).
مقهى غنائيّ .
ساحل ميرامار.
فالديموزا وأرصفة المقاهي.
سولّلر وجنوب فرنسا.
سان أنطونيو (الدير). فيلانيتكس.
بوللينسا: مدينة. دير. نُزُل
إيبيزا: خليج.
لا بينا: حصون.
سان أولاليا: الشاطئ. الحفل.
المقاهي عند المرفأ.
الجدران الحجريّة والطواحين في الرّيف.
*
13 شباط 1936
أطالب الناس بأكثر ممّا يمكنهم تقديمه لي. من الغرور أن أدّعي العكس. ولكن، يا له من خطأ ويا له من يأس. وربّما كنت أنا نفسي...
*
البحث عن علاقات ومعارف. كلّ العلاقات والمعارف. إذا كنت أريد الكتابة عن البشر، فكيف لي أن أبتعد عن المشهد؟ وإذا ما جذبتني السماء أو النور، فهل أنسى عينَي من أحبّ وصوته؟ في كلّ مرّة، أُعطى عناصر صداقة، أجزاءَ عاطفة، لا الانفعال أبداً، ولا الصداقة أبداً.
نقصد صديقاً يكبرنا سناً لنقول له كلّ شيء. أقله ذاك الشيء الخانق. لكنه مستعجل. نتحدّث عن كلّ شيء وعن لا شيء. تنقضي الساعة. وها إني أكثر وحدة وفراغا. الحكمة العليلة التي أحاول تشييدها، أي كلمة طائشة يتفوّه بها صديق وتفوتني، ستأتي لتهدمها! «لا أهزأ، لا أرثي» [باللاتينية في النصّ]... وشكوكي حيال نفسي والآخرين.
*
آذار
نهار تعبره سحبٌ وشمس. برد يزخرفه برقٌ أصفر . ينبغي أن أخصّص دفتراً لطقس كلّ يوم. شمس البارحة الجميلة الشفّافة. الخليج المرتعش ضياءً - كشفة مبلولة. لقد عملتُ طوال النهار.
*
عنوان: أمل العالم.
*
غرونييه بشأن الشيوعيّة: «المسألة كلّها هي الآتية: أينبغي القبول بحماقات، من أجل عدالة مثاليّة؟». من الممكن الإجابة بنعم: هذا جميل. لا: هذا نزيه.
ومع حفظ التمايز والفرق: معضلة المسيحية. أيشعر المؤمن بالحرج من تناقضات الأناجيل وشطط الكنيسة؟ أيكون الإيمان هو القبول بسفينة نوح - الدفاع عن محاكم التفتيش، والمحكمة التي حكمت على غاليليوس؟
لكن، من جهة أخرى، كيف يمكن التوفيق بين الشيوعية والاشمئزاز؟ لو جرّبتُ الأشكال المتطرّفة، في بلوغها حدّ العبث واللاجدوى، لأنكرت الشيوعية. وذاك الهاجس الديني.
*
الموت الذي يمنح اللعبة والبطولة معناهما الحقيقي.
*
أمس. الشمس على أرصفة الميناء، الحواة العرب، والمرفأ الطافر نوراً. وكأنّ هذا البلد يغدق عليّ خيراته ويتفتّح في آخر شتاء أمضيه هنا. هذا الشتاء الفريد المتوهّج بالبرد والشمس. بردٌ أزرق.
سكرة واعية وعوزٌ مبتسم اليأس الكامن في التقبل الرجولي للأنصاب الإغريقية. ما حاجتي إلى الكتابة أو الخلق، إلى الحبّ أو العذاب؟ ما ضاع في حياتي ليس هو الأهمّ في الحقيقة. كلّ شيء يصبح بلا جدوى. فلا اليأس ولا الأفراح تبدو لي ذات معنى في مواجهة تلك السماء وما ينبعث منها من حرارة مضيئة.
*
16 أيار
نزهة طويلة. هضاب مع البحر في الخلفية. والشمس المرهفة. في الأجمة كافّة، زهور النسرين البيضاء. أزهار كبيرة دبقة بوريقات بنفسجية. العودة أيضا، رقّة صداقة النساء. الوجوه الجادّة والمبتسمة لنساء شابّات. ابتسامات، مزاح، ومشاريع. ندخل في اللعبة. ومن دون تصديقها، يبتسم الجميع للمظاهر ويدّعي الرضوخ لها. ما من نغمة خاطئة. إني متمسّك بالعالم بكلّ حركاتي، وبالبشر بكلّ امتناني(6). من أعلى الهضاب، كنّا نرى الضباب الذي خلّفته الأمطار الأخيرة وهو يولد مجدّداً تحت ضغط الشمس، حتّى عند نزولي مروراً بالغابة، وأنا أغوص في هذا النسيج القطنيّ، والشمس تنقشع في الأعالي، وهذا اليوم العجائبيّ الذي كانت ترتسم فيه الأشجار. ثقة وصداقة، شمس وبيوت بيضاء، نبرات بالكاد تُسمع، آه! أفراحي الكاملة التي تنجرف الآن فلا تُرسل إليّ في حزن المساء إلاّ ابتسامة صبيّةٍ، أو النظرة الذكيّة لصداقة تُدرِكُ أنها مفهومة.
*
إذا كان الوقت ينساب بهذه السرعة، فلأننا لا ننشر فيه علامات استدلال. هكذا من القمر إلى السمت وإلى الأفق. لهذا السبب، تكون سنوات الصبا طويلة جدّاً لأنها ممتلئة جدّاً، وسنوات الشيخوخة قصيرة جدّاً لأنّها قد سبق وتكوّنت. على سبيل المثال، يلاحَظ شبه استحالة مراقبة عقرب الساعة وهو يدور خلال خمس دقائق لأن الأمر طويل ومزعج.
*
آذار
سماء رماديّة. لكنّ النور يتسلّل. بعض القطرات المتساقطة منذ قليل. والخليج الذي يتلاشى هناك في البعيد. أضواء تتراقص. السعادة وأولئك الذين يشعرون بالفرح. هم لا ينالون سوى ما يستحقّون.
*
آذار
لا نهاية لفرحي.
*
لا يمكن التعبير عن الحبّ إلا من خلال الألم (باللاتينية في النصّ).
*
آذار
عيادة أعلى مدينة الجزائر. يصعد الهضبة نسيمٌ قويّ، مازجاً الأعشاب والشمس. تتوقّف تلك الحركة الرقيقة الشقراء على مسافة قريبة من القمّة، عند أقدام أشجار السرو السوداء التي تتسلّق القمّة بصفوف متراصّة. يهبط نور رائع من السماء. وفي الأسفل، البحر الأملس الهادئ وابتسامة أسنانه الزرقاء. تحت الشمس التي تسخّن وجهي من جهة واحدة، منتصباً في الريح، أتأمل هذه الساعة الفريدة وهي تنقضي، ولا أجيد التلفظ بكلمة. لكن، يظهر مجنون مع ممرّضه. يحمل تحت إبطه علبة ويتقدّم بوجه جادّ.
- صباح الخير آنستي (متوجّهاً إلى الشابّة التي ترافقني). سيّدي، اسمح لي أن أعرّف بنفسي، أنا السيّد أمبروزينو.
- أنا السيّد كامو.
- آه، كنت أعرف رجلاً يُدعى كاموو. صاحب شركة شحن في مستغانم. لا بدّ أنه أحد أقربائك.
- لا.
- لا بأس. هل تسمح ببقائي معكما لبعض الوقت. يحقّ لي الخروج لمدّة نصف ساعة كلّ يوم. إنما عليّ أن أتوسّل الممرّض لكي يقبل مرافقتي. أأنت قريب الآنسة؟
- أجل يا سيّدي.
- آه! ها أنذا أعلمك إذًا أننا سنخطب في عيد الفصح. لقد أذنت لي زوجتي بذلك. تفضّلي آنستي، واقبلي منّي هذه الورود. وهذه الرسالة أيضاً، إنها لك. اجلسي بقربي، لديّ نصف ساعة فقط.
- يجب أن نذهب يا سيّد أمبروزينو.
- حسناً، لكن متى أراك مجددّاً؟
- غداً.
- آه! لديّ نصف ساعة فقط، وقد جئت لكي أعزف بعض الموسيقى.
مضينا. في طريق العودة، التألّق الرائع لأزهار إبرة الراعي الحمراء. سحب المجنون من علبته قصبة شُقّت بالطول وغُلّف شقّها بجلدة مطّاط. منها، أخرج موسيقى غريبة، حزينة ودافئة: «إنّها تمطر على الطريق...». تبعتنا الموسيقى أمام أزهار إبرة الراعي والمساحات الكبيرة من اللؤلؤية، وأمام هذا البحر ذي الابتسامة الهادئة.
فتحت الرسالة. كانت تحوي قصاصات إعلانات مصنّفة بعناية ومرقّمة بقلم رصاص.
*
(م)(7) - كان يضع كلّ ليلة هذا السلاح على الطاولة. وحين يفرغ من عمله، كان يوضّب أوراقه، يرفع المسدّس ويلصقه بجبينه، يمرّغ صدغيه ويبرّد حمّى وجنتيه بالحديد. كان يبقى على هذه الحال لوقت، تاركاً أصابعه تهيم فوق الزناد، مداعباً زرّ الكابح، إلى أن يصمت العالم من حوله، فيتقوقع كيانه كلّه وقد أصابه النعاس، في إحساس وحيد ناجم عن ملامسة الحديد البارد والمالح من حيث يمكن للموت أن يخرج.
منذ لحظة امتناعنا عن قتل أنفسنا، ينبغي أن نصمت بشأن الحياة. وهو، منذ استيقاظه بفم ملآن بلعاب مرّ، كان يلعق فوهة السلاح، يُدخل لسانه فيها، ويردّد مذهولاً فيما هو يتنهّد بسعادة لامتناهية: «لا ثمن لفرحي».
(م) - الجزء الثاني.
الكوارث المتتالية - شجاعته - الحياة تُنسج من المصائب تلك. إنه يستقرّ في هذه الشبكة المؤلمة ويبني أيّامه حول عودته إلى المنزل مساءً، وحدته، حذره، واشمئزازه. يظهر متماسكاً صلباً. وتبدو الأمور لدى معاينتها جيّداً كأنّها تسير على خير ما يرام. وذات يوم، حادث سخيف: يحادثه أحد الأصدقاء شاردَ الذهن. فيعود إلى منزله. ويقتل نفسه.
*
31 آذار
يبدو لي أني أطفو شيئاً فشيئاً.
الصداقة الرقيقة الرزينة مع النساء.
*
قضية اجتماعية محسومة. توازن مستعاد. سأدرس الموضوع بعد 15 يوماً. - كتابي، التفكير به دوماً. عملي، تنظيمه دونما تسويف ابتداء من يوم الأحد.
البناء مجدّداً بعد الفترة الطويلة هذه من الحياة المضطربة اليائسة. الشمس أخيراً وجسدي الفاقد أنفاسه. الصمت. والثقة بنفسي.
*
نيسان
أيّام الحرّ الأولى. جوّ خانق. جميع الحيوانات مضطجعة. عند مغيب النهار، النوعية الغريبة للهواء فوق المدينة حيث يعلو الضجيج ويختفي كبالونات. سكون الشجر والبشر. على أرصفة المقاهي، المغربيون يتحادثون في انتظار حلول المساء. البنّ المحمّص تتصاعد رائحته أيضاً. ساعة حنونة ويائسة. ما من شيء لنقبّله. ما من شيء لنجثو أمامه، غارقين في الامتنان.
*
الحرارة على أرصفة البحر - هائلة، ساحقة، تقطع الأنفاس. روائح قطران طاغية تجرّح الحنجرة. التلاشي وطعم الموت. ذلك هو جوّ المأساة الحقيقي، وليس الليل بحسب الرأي الشائع.
*
الحواسّ والعالم - تختلط الرغبات. وفي هذا الجسد الذي أضمّه، أحتفظ أيضاً بذاك الفرح الغريب الهابط من السماءإلى البحر ¶
هوامش
(1) هذا النصّ حيث يظهر موضوع الأمّ (الغريب، سوء التفاهم، الطاعون) هو من دون شكّ الصياغة الأولى لبحث يحمل عنوان «ما بين نعم ولا»، ضمن كتاب «القفا والوجه».
(2) مارس جان غرونييه، وكان أستاذ كامو في مادّة الفلسفة، تأثيراً عميقاً عليه يظهر في مشاعر الصداقة التي ربطت بينهما، وكذلك في إهداء «القفا والوجه» و»الصحراء» (في «أعراس»)، بالإضافة إلى الطبعة الأخيرة من «جزر»، إلى جان غرونييه.
(3) أوّل صياغة لمواضيع «القفا والوجه»، ص 122.
(4) مخطط خاص ب «الموت السعيد»، رواية كامو الأولى.
(5) باتريس هو الشخصيّة الرئيسيّة في رواية «الموت السعيد». يتكرّر موضوع المحكوم بالإعدام في رواية «الغريب».
(6) ملحوظة مكرّرة في «القفا والوجه»، ص 124.
(7) ملاحظات خاصّة ب «الموت السعيد».
=================
نجوى بركات/ روائية لبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.