المفتشون غاضبون، وغضبتهم ليست سياسية، إنها غضبة تربوية واجتماعية تتلخص في تحسين ظروف عملهم والارتقاء بأحوال معيشتهم، وهم لذلك عبروا عن احتجاجهم بالوسائل الحضارية التي يضمنها الدستور، ومن أوجب واجبات وزارة التربية الوطنية أن تحتضن غضبتهم وتتعهد مطالبهم بالحوار والنقاش والإنجاز، فهم عيونها التي لا تنام، وآذانها التي تصغي إلى نبض الإيقاعات التربوية المنبعثة من فضاءات الحياة المدرسية. ومع ذلك فإن أجورهم قد تجاوزتها الأثمنة المرتفعة باستمرار حتى أضحت لا تختلف عن أجور موظف بسيط يسعى إلى الكفاف والعفاف، أما تعويضاتهم الهزيلة فلا تتناسب مع حجم المهام التي يقومون بها. تصوروا معي أن المفتش المركزي التخصصي المثقل ببرامج عمل وطنية ضخمة ومنهكة، والذي قد يقوم برحلات مكوكية بين الرباط العاصمة ومدينته النائية يتقاضى صفر درهم عن أعبائه ولا يتوفر على مكتب خاص به، وتصوروا معي أن المفتش الجهوي التخصصي الذي يقوم بإنجاز أهم أعمال برامج الأكاديميات الجهوية، والذي يشتغل في الآن نفسه بالمقاطعات التربوية لا يلوي على شيء من التعويض عن مهامه الغلاظ، بل يمكنكم أن تمعنوا معي في التصور لتجدوا أن مفتش المقاطعة التربوية - بعد النزوح التاريخي للمفتشين نحو ضفاف المغادرة الطوعية - يقوم بعمل مفتشين أو ثلاث وربما أكثر، وقد ينفق من رزق عيّاله لأداء مهامه على أحسن وجه مستحضرا حبه لوطنه واعتزازه بمغربيته، ويستوي في ذلك جميع المفتشين العاملين بالابتدائي أو الثانوي. المفتش التربوي هو الذي يبني المناهج التعليمية الوطنية، ويؤلف الكتب المدرسية، ويخطط البرامج الوطنية و الجهوية والإقليمية وينسق أعمال تنفيذها، ويقوم بأعمال المراقبة التربوية والتكوين المستمر في أرجاء الأقاليم والجهات وكل أنحاء هذا الوطن العزيز، وهو الذي يعدّ موضوعات الامتحانات على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي، ويرأس لجن امتحانات البكالوريا، ويشارك في تنظيم سير الامتحانات الإشهادية ويراقب سيرورتها، وينجز أعماله الاعتيادية من زيارات وتفتيشات وندوات تربوية ودروس تطبيقية وترقيات وكفاءات، ويفعّل سلسلة طويلة من اللقاءات والاجتماعات والتكوينات، وينجز تقارير الافتحاصات التربوية والمالية وتقارير تتبع الدخول المدرسي، ويبلور على أرض الميدان مشاريع البرنامج الاستعجالي الذي اعتمدته الوزارة في الإصلاح، وذلك من خلال المشاركة الفعّالة في الاقتراح والإنجاز أو رئاسة أهم هذه المشاريع وطنيا وجهويا وإقليميا، وهو الذي يشرف على التأطير النظري والتدريب الميداني للمتدربين من أطر وزارة التربية الوطنية، وهو الذي يقوم بالدراسات والبحوث التربوية ويستثمر نتائجها، ومهامه متعددة ومتولدة باستمرار، بل يمكن القول إنه قطب الرحى في منظومتنا التربوية، ومع ذلك فعمله مبخوس لأن حقه مهضوم. إن الغالبية المطلقة من رجال المراقبة التربوية المعروفين بالمفتشين لايشتغلون قرب محل إقامتهم نظرا لتعطل جهاز الحركة الانتقالية بفعل عدم تخرج أفواج جديدة من المفتشين خلال سنوات عديدة، وهم ماضون بخطى حثيثة نحو الهرم والتقاعد، ومما جعل خطبهم فادحا حدوث زلزال المغادرة الطوعية الذي أودى بأعداد كبيرة منهم، وهذا ما يفرض على وزارة التربية الوطنية - وبإلحاح شديد - تجديد خلاياهم بإحداث أقسام جهوية (ولا أقول مراكز جهوية) لتكوين مفتشي التعليم الابتدائي والثانوي حتى لا يتعرض هذا النوع النادر من أطر وزارة التربية الوطنية إلى الانقراض، وفي انتظار ذلك نرجو من نتائج الحركة الانتقالية لهذه السنة أن تجمع الشمل المتناثر لأسر المفتشين خاصة أولئك الذين يشتغلون في المناطق النائية. لا نريد من إضرابات المفتشين أن تستمر طويلا، ولا ينبغي أن يضطروا إلى التصعيد خاصة في هذه الظرفية الحساسة من السنة الدراسية، فما أحوج الوطن إلى جهودهم واستمرارهم في بلورة مشاريع الإصلاح الطموحة، واعتقد أن وزارة التربية الوطنية ستسعى إلى إيجاد حل فوري لتحقيق مطالبهم البسيطة أسوة بالحلول التي اقترحتها على فئات أخرى من رجال التعليم ونسائه في الأيام الأخيرة، وعليها المعول في تفهم غضبتهم لأنها غضبة تربوية اجتماعية ليس غير، غضبة قد تعقبها ابتسامة، ولا يبتغي المفتشون من خلالها سوى تحسين ظروف عملهم وصون كرامتهم وطموحهم إلى عيش كريم.