توطئة إن حقوق الإنسان هو موضوع الساعة بدون منازع، وقد كثر فيه القول منذ منتصف هذا القرن الميلادي أي منذ صدور ميثاق حقوق الإنسان سنة 1948، وقد حسب الناس أن ذلك فتحا في هذا المجال، وسبقا في هذا الميدان، ومن أجل ذلك نوضح موقف الإسلام من الإنسان وحقوقه وواجباته، متى كان هذا الموقف؟ ومتى ابتدأ؟ ومن هو أول معلن لتلك الحقوق؟ وما هو المعنى السامي الذي جاء به الاسلام؟ وهل استطاعت المذاهب والمواثيق قبله وبعده أن تدركه في هذا المجال؟ وما هي مسؤولية المسلمين اليوم تجاه الحقوق التي قررها الإسلام؟ يعتبر الإسلام أكثر الأديان كلها رعاية للإنسان، وأعظمها عناية به وتقديرا له، باعتباره خليفة الله في الأرض، وأعظم مخلوقاته في هذا الكون، وهو الذي أعطاه قيمته الحقيقية، واعترف بإنسانيته، وجعله مناط تطور الكون وتقدمه، وتحقيق إرادة الله فيه، ولذلك حمله أمانة الحياة ومسؤوليتها وأحاطه بكل معاني التكريم، حتى اعتبر الإسلام حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة المشرفة نفسها. لذلك يعتبر الإسلام في حقيقته وهدفه وتوجيهه للناس إعلاما وإعلانا إلاهيا لحقوق الناس، وواجباتهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه ومنذ خمسة عشر قرنا، من قبل أن تعرف الإنسانية كلها هذه المواثيق البشرية والمعاهدات الدولية. ولا شك أن هذا الإعلان الإلهي يعلو ويسمو على كل المواثيق الوضعية والعهود البشرية، لكونه يقوم على الإيمان بالله وابتغاء مرضاته، ورغبة في ثوابه، وخوفا من عقابه، كما يقوم على الضمير الديني الموجه لتصرفات الناس في السر والعلن، وفي كل أحوالهم وعلى مختلف مستوياتهم، وعلى أن ما يفوت ويمضي في الدنيا لن يفوت في الآخرة، وعند من لا تخفى عليه خافية في الأرض وفي السماء. وأمر آخر يمتاز به الإعلام الالهي عن سائر المواثيق الوضعية هو أنه يرتفع بحقوق الإنسان، فيجعل رعايتها واجبا على المجتمع كله، على قادته وحكامه وقضاته كما هي واجب على صاحبها، يدافع عنها ولا يتهاون في الحصول عليها، ومن أجل ذلك اعتبرت الشريعة الإسلامية أداء الواجب قبل تقرير منح الحق والحرية اعتبارا على أن النهوض بالواجبات ضمان لصاحب الحقوق والحريات، لأن ضمانها منشأة التشريع بما فرض من تكاليف وواجبات، ومن ثم كان الانطلاق في الحقوق والحريات العامة لا يستقيم مع التكليف، الذي لا ينفصل معناه عن مفهوم الحريات العامة في الإسلام، اذ أن ثمة تلازما بينهما، فالواجب يقابله حق، ولذلك قيل لا واجب بلا حق، لأن التكاليف حقوق للغير. لذلك كان تقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة منشأها التكاليف، وهذه مصدرها الأحكام التي هي مصادر الحريات لا ذات الإنسان كما هي عند الآخرين (1). وقد نظم الإسلام الحريات العامة، على اعتبار أن الحرية منشأها التكليف والمسؤولية، لا حرية الانطلاق والفوضى والأنانية والهوى، والخضوع لهيمنة الأعراف السائدة والتقاليد الموروثة، امتثالا لله وطاعة في التكليف، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان، ولذلك قامت الحقوق على حقائق عقائدية، قبل أن تكون تصرفا سياسيا أو مجرد نظام دستوري. فكل حرية عامة في الإسلام مظهر للعقيدة والتقوى، قبل أن تكون أمرا آخر، ومن ثم كانت ممارستها عبادة وخلقا، أداء للتكليف المبني على المسؤولية، وذلك ما ميزها وخصصها في الإسلام عن غيرها، وهذا ما جعل الحرية في الإسلام حقا وواجبا معا، يؤكد ذلك أن حق الحياة مصون للإنسان شرعا، غير أنه في نفس الوقت واجب وتكليف تنهض المسؤولية عن أدائه والتصرف فيه، ولنضرب لذلك مثلا بحق الحياة نفسه، فإذا كان من حق الإنسان أن يحيا، فإن من واجبه أيضا أن يحيا، أداء لأمانة التكليف وعمارة الدنيا في ظل العبودية لله وتنفيذ شرعه، فليست حياته حقا خالصا له يتصرف فيه كيف يشاء، إنما خلق ليؤدي واجبا لنفسه ولغيره، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان واجبا عليه أن يحيا لأنه لم يخلق عبثا ولا سدى «أيحسب الإنسان أن يترك سدى» (2). ومن أجل ذلك، حرم الإسلام الانتحار واعتبره جريمة عظمى في حق الإنسان، بدليل خطورة العقاب الأخروي على اعتبار أن روحه ليست ملكا له، لأنها ليست من صنعه، وإنما هي ملك لبارئها وخالقها، ومن ثم كان الاعتداء عليها اعتداء على حق الله فيها، وقضاء على أداء مهمتها التي خلقت من أجلها، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي في «الموافقات»: ونفس المكلف داخلة تحت هذا الحق أي حق الله تعالى إذ لا يجوز له أن يعتدي على نفسه بالإتلاف» (3). وإذا لم يكن جائزا للإنسان أن يعتدي على نفسه لم يجز له بالأحرى الاعتداء على غيره، لأن العدوان فيه أظهر، وهو مصداق قول الله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»(4). فهذا المثل يوضح بجلاء وظيفة حقوق الإنسان في الإسلام، لاتحاد عنصرالواجب والحق وتلازمهما، وهو معنى جديد لم تعرفه الإنسانية قبل الإسلام سواء في المواثيق السالفة عليه أو حتى المواثيق المعاصرة، لذا يكون الاعتقاد بثبوت هذه الحقوق شرعا بالتكليف والمسؤولية، هو منطلق ممارستها في المجتمع الإسلامي، تبعا لمفهومها المنوط بالطابع الاجتماعي الإنساني. ومن أجل ذلك أبادر إلى القول، بأن ما ادعته وتدعيه الدول المعاصرة، من كونها كانت السباقة إلى الدعوة إلى حقوق الإنسان وتقريرها، وأن لها فضل الريادة في تطبيقها ورعايتها غير صحيح، وها هو التاريخ الحضاري والإنساني خير دليل وشاهد، فليس صحيحا أن الإنجليز والفرنسيين كان لهم فضل الريادة والسبق في المطالبة بها، والدعوة إليها في ثوراتهم ومواثيقهم. فقد تصور الناس نتيجة تأخر المسلمين، وتخلفهم عن السير بمقتضى أوامر دينهم، أن حقوق الإنسان مرتبطة بالعهد الأعظم الإنجليزي «ماجنا كارتا» الصادر سنة 1215م، أو ميثاق توم سنة 1737م أو إعلان الثورة الفرنسية سنة 1789م، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948م. ولكن الذي علمته الإنسانية منذ خمسة عشر قرنا، والذي ينبغي أن يعلمه الناس اليوم، أنَّ الإسلام أعلن هذه المبادئ وقررها منذ ظهوره، وكان السباق إلى الدعوة إليها وتقريرها ورعايتها، في أوسع نطاق وأكمل صورة، وأن الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وقادة المسلمين وعلمائهم، كانوا أسبق إلى تقريرها، وتطبيقها على نحو رائع، وبشكل ما تزال الأمم المعاصرة لم تبلغه، وإن مجرد مقارنة بسيطة بين التشريعات السابقة على الإسلام، وكذا المذاهب اللاحقة عليه بما في ذلك المعاصرة، تظهر ريادة الإسلام وأسبقيته في هذا الباب. إن الإسلام دين حقوق الإنسان التي قررها القرآن، دستور المسلمين. «ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير»(5). خطبة حجة الوداع: ونظرا لأهمية خطبة حجة الوداع في تاريخ الإسلام والمسلمين فقد آثرنا أن نشير إليها هنا باعتبارها نصا عظيما لحقوق الإنسان، ودعوة للحفاظ عليها، والتشبث بها، واحترامها والدفاع عنها، وقد توج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مسيرة الإسلام بخطبته في حجة الوداع، التي تجمع فيها أكبر عدد من المسلمين حينئذ، وقد ضمن تلك الخطبة وصيته إلى الأمة الإسلامية، وما ينبغي لها أن تشد عليه بالنواجد من بعده، لتعيش مؤمنة كريمة مستقرة، وكان أعظم ما وصى الأمة به، بل البشرية كلها، هو الحفاظ على معالم الدين، واتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وكانت هذه الخطبة إعلانا عظيما جامعا للدعوة إلى رعاية حقوق الإنسان وعدم الاعتداء عليها، يقول عليه السلام: «أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، إنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لاتظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لاربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أما بعد أيها الناس، فان لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهم أن لايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح(6)، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان(7) لايملكن لنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فذكر لي أن الناس قالوا: «اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أشهد» فلنفتخر نحن بديننا، ولنتأس برسولنا هذا الرسول الذي يأبى في آخر خطبة له إلى الناس وهو يودع الدنيا، يأبى إلا أن تكون وصيته الأخيرة إلى الأمة، دعوة إلى رعاية حقوقهم، والتشبث بها، وعدم الإعتداء عليها، لأنها أساس كل استقرار وتضامن بين الإنسانية كلها، وما أحرانا اليوم أن نعود إلى هذه الوصية الخالدة، فنعمل بها ونسير على هديها. الحرية الدينية في شريعة الإسلام: لقد وحد الإسلام مفهوم الدين برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، التي كانت آخر الرسالات إلى الأرض حيث قرر القرآن «إن الدين عند الله الإسلام « ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (8). وترتب على ذلك أن «الإسلام يجب ما قبله» لأنه دين الوحدة والبعث والعدل، والسماحة واليسر، ولأنه قضى على كل وثنية وظلم، ودكتاتورية وتمييز». ولكن الإسلام تميز في هذا الميدان، ميدان الحرية الدينية، بموقف كله تسامح وحكمة، ولذلك قامت الحرية الدينية في الإسلام على مبادئ أهمها: 1 قيام الإيمان الصحيح على اليقين والاقتناع المنبعث من الفكر والنظر، وذلك هو ما دعا إليه الإسلام المؤمنين، أن ينظروا إلى الكون كله، و يفكروا في آيات الله بعقولهم وبصائرهم، وكان هذا المبدأ الإسلامي العظيم، حدثا عظيما في تاريخ الأديان، وتاريخ الإنسانية كلها، وقد أخذ الله على المشركين تقليدهم الأعمى، وإهمالهم الفكر والنظر، وفيما يؤمنون وما يتبعون، قال: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءناو، أو لو كان أباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون» (9) ومن أجل ذلك كله ذهب العلماء الى أن إيمان المقلد غير صحيح، حتى قال الشيخ محمد عبده: إن التقليد بغير عقل ولاهداية، هو شأن الكافرين، وإن المرأ لايكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه، وعرفه بنفسه حتى اقتنع به». (10). 2 الإقناع بالمنطق والحكمة. وقد هدى القرآن المؤمنين والمسلمين. أن يلجأوا في مناقشتهم وحوارهم لأهل الكتاب، ولمن عداهم من أهل الأديان وغيرهم، بالحكمة والعقل، والحجة والمنطق والحسنى، وعدم التعنت، ويكون ذلك عمادهم في حوارهم، وأن آي القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عامرة مليئة بذلك: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...» الآية (11) «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن...» الآية (12) وبقوله: «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين » الآية (13). 3 لا إكراه في الدين وتبعا لذلك واعتمادا على الإيمان الصادر عن العقل والنظر والإقناع، المعتمد على الحجة والمنطق، وبعد أن تبين أن الدين عند الله الإسلام، الذي أوضح الرشد من الغي، لم يلجأ الإسلام إلى إرغام الناس على ترك دينهم، وإجبارهم على اعتناق الإسلام، وعلى هذا الهدي سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده، وعليه سار المسلمون، وقد تبين ذلك من معاملة الإسلام لأهل الأديان الأخرى في سلمهم وحربهم، فكانوا لا يرغمون أهل البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، وترك ما يدينون به، وإنما يسمحون لهم بالبقاء على دينهم مع الطاعة وأداء الجزية، مقابل حمايتهم من كل اعتداء، واحترام شعائرهم ومعابدهم، تطبيقا للآية الكريمة: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» الآية (14) ويكفينا في هذا الباب مثالان رائعان على سماحة الإسلام، وهما العهد العمري مع أهل بيت المقدس، وما تضمنه من مبادئ، حتى إن عمر أبى أن يصلي في كنيسة القيامة، احتراما لهذا المبدإ وتطبيقا له. الهوامش: (1) حقوق الإنسان في التشريع الاسلامي للدكتور فتحي الدريني «مجلة نهج الإسلام» ص 32 ع 6 ذو الحجة 1404 اكتوبر 1981 (2) سورة القيامة الآية: 36. (3) الموافقات للشاطبي. 4- حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي ص 39. 5- سورة البقرة - الآية: 195 6- سورة الحجرات - الآية: 136 7- غير مبرح - غير شديد 8- عوان. جمع عانية، وهي الأسيرة (9) سورة آل عمران الآية 85. (10) سورة البقرة الآية 17. (11) حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور علي عبد الواحد وافي ص 223. (12) سورة النحل الآية 125. (13) سورت العنكبوت الآية 46. (114) سورة البقرة الآية 111 (15) سورة البقرة الآية 256.