عقدت محكمة الاستئناف بطنجة يوم 9 مارس 2011 ندوة علمية في موضوع: (دعوى ثبوت الزوجية كآلية قانونية لتسوية الأوضاع الزوجية غير الموثقة)، وفيما يلي الجزء الأول من عرض الأستاذ نافع غزيل، العدل بهيئة طنجة وعضو المجلس العلمي لإقليم الفحص أنجرة: نظم المشرّع المغربي (الزواج) وضبط سائر قواعده وأحكامه ضمن مقتضيات الكتاب الأول من مدونة قانون الأسرة، ومن ضمنها مرحلة الخطبة، لما ترتبه من آثار محتملة، كل ذلك في نسقية متكاملة استوعبتها خمس وستون مادة، ابتداء من المادة الرابعة، وانتهاء بالمادة التاسعة والستين، فضلا عن المادة الأربعمائة المتمّمة، التي شملت مقتضياتها سائر مواد القانون دون استثناء. لذلك، كان تعريف الزواج وتقديمه فيها، قد تضمن فحوى جديدا، كان أكثر انسجاما وملاءمة مع مقتضى حمولة الإسم الحديث لمدونة الأسرة ذات الصّفة المؤسّساتية، التي تصون كيانها، وتضمن حقوق كل طرف فيها، وتستشعر الحقوق والإلتزامات والعدل والمساواة. ونظرا لأهمية ومكانة مؤسسة الزواج باعتبارها الأرضية الصلبة، والمنطلق الأساس، لسائر الحقوق التي تنشئها، فتشمل الأسرة وتمتد من خلالها إلى الأغيار من الأقارب، فإن المادة 16 من هذا القانون الجامع المانع، قد جعلت من وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة في إثبات الرابطة الزوجية، لطبيعة صرامة ما ترتبه هذه العلاقة الشرعية من آثار، كوعاء حافظ لكل الحقوق على الدوام. ومتى تحققت هذه الرابطة بموجب هذا العقد الرسمي المنظّم وفق القانون، فذلك هو المستند والأصل في الإثبات. ويندرج في مفهوم هذا الأصل أيضا، كل (وثيقة عقد الزواج) قد يبرمها المغاربة وفق القوانين المعمول بها لدى بلدان إقامتهم، متى كانت مطابقة لمقتضيات المادة 14، والشروط المقررة في مقتضيات المادة 15 بصرف النظر عما إذا كان للمغرب مع تلك البلدان اتفاقيات أم لا. أما الزواج في (صفته الاستثنائية)، فهو الذي لم يقم بالأساس على وفق مقتضيات هذا القانون ، لاسيما المواد من 65 إلى 69 من جهته التوثيقية فتنصرف إلى كل زواج قائم بذاته، صحيح في وجوهره ، لكنه غير موثّق، لافتقاره إلى هذا المستند المادي الذي يثبته، وذلك لأسباب قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وهو في كل الأحوال، يبقى أمر ثبوته متوقفا على القضاء، الذي له وحده صفة الاختصاص في البت فيه وإثباته. ولذلك، فإن مفهوم حالة الاستثناء، لابد وأن يكون قائما بالأساس على وجود علاقة شرعية صحيحة، وليس مجرد علاقة بيولوجية مطلقة، التي هي غير معنية بمواد الخطاب في هذا القانون قطعا. وعليه فقد نصت المادة 16 في فقرتها الأولى على أنه: (تعتبر وثيقة عقد الزواج، الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج، فيكون بذلك هو الزواج بالأصل). وتنص الفقرة الثانية بعدها: (إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات، وكذا الخبرة). ويكون بذلك هذا الزواج الذي حالت ظروف قاهرة عن توثيقه على ماهو المفترض فيه، هو (زواج الاستثناء) لطبيعة حالته المفتقرة للعقد. الفرق في الأثر بين الأصل والاستثناء: وعليه، فهل ثمة فارق موضوعي بين الأصل والاستثناء في الزواج؟ لاشك أن هناك فارقا كبيرا بين حالة الزواج الموثّق، وحالة الزواج غير الموثّق، سرعان ما تنعكس آثار ذلك على حياة الأسرة بأكملها سلبا أو إيجابا. والزواج الموثّق وفق مقتضياته القانونية ينتج أثره الإيجابي بتلقائية مطلقة، من جهة استقرار الأسرة وسرعة اندماج أفرادها في محيطهم الإجتماعي، وممارسة حياتهم الطبيعية التي تكفلها لهم النظم والقوانين، باعتبار كون (وثيقة الزواج) النواة الأولى، وأم الوثائق والصكوك التي تتطلبها الحياة المدنية، والمرتكز الأساس في ثبوت الهوية والنسب والتوارث والإدلاء بالدين والقرابة والمواطنة، وكل أسباب ومحفزات العيش الكريم في ظل المؤسسة الأسرية. فهي المثبتة للفراش (النسب) باعتبارها الحجة القاطعة التي لا يمكن الطعن فيها إلا من الزوج (المادة 153). هي المثبتة (للقرابة) وما تنتجه من آثار حقوقية ودينية واجتماعية (المواد من 187 إلى 193، ومن المواد 197 إلى 202). هي المثبتة للبنوة إزاء كناش الحالة المدنية التي يقوم عليها مستقبل أفراد الأسرة (المادة 54). هي المثبتة للمواطنة في اكتساب حقوقها (مقتضيات الفصل السادس من القانون 62-06 المنفذ بالظهير الشريف رقم 1.07.80 مؤرخ في 3 ربيع الأول 1428 (23 مارس 2007)... وغير ذلك مما لا حصر له من ضوابط ومقومات ومنافع امتيازية، وكلها إنما ترجع بالأساس إلى تلك الوثيقة الأولى التي هي بمثابة أصل النشأة والارتقاء والتفرع ، بينما الزواج غير الموثق، وإن كان صحيحا وسليما في جوهره الشرعي على المفترض فيه غير أنه في غيبة (وثيقته الأساسية)، لا يمكن أن تقوم للأسرة فيه قائمة، ما دام الأمر متوقفا عليها في ما يترتب من الآثار المذكورة، لأن العلاقة الشرعية للأزواج، لم تعد مسألة شخصية موكولة لضمير الزوجين مع ربهما وحسب، وإنما هي رهينة شبكة من الحقوق والالتزامات إزاء الأغيار والنظام العام في أوسع مفهومه، فالإغفال والإهمال من قبل الزوجين عن توثيق زواجهما على مقتضى القانون يعتبر انتكاسة أخلاقية واجتماعية للميثاق الأسري المقدس، وإهانة نفسية لأفراد الأسرة الذين لم يكن لهم أية إرادة في صياغة واقعها المفروض قسرا. لذلك، فإن توثيق الزواج أضحى من اللوازم التي تحوز أحكامها بالتبعية، لان حكم الوسيلة يتبع حكم الغاية من جهة الشرع الحنيف. ومادامت هذه الغاية النبيلة متوقفة في أحكامها على هذه الوسيلة لا تنهض إلا بها، فالحكم فيها أنها واجبة بالتبعية لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن هنا أضحت من الواجبات الحتمية لا يجوز التهرب منها أو سلوك سبيل الشغب والتحايل بشأنها لما تحققه من مقاصد الشرع، وما مقتضيات القانون في هذا الباب، إلا سياج محكم لضبط وضمان حقوق العباد في العاجل والآجل. المسوغات المفترضة في عدم توثيق عقود الزواج: لعل من التساؤلات التي تثير الاهتمام باستمرار، في خضم تزايد وتيرة التطورات الهائلة التي تجتازها المجتمعات الحديثة، ومنها المجتمع المغربي، والانتقال النوعي من رتابة التقليدية إلى ثورة الحداثة، بمواكبة التشريعات الحديثة على رأسها (قانون الأسرة)، وهو وجود (واقع) أقل ما يقال فيه إنه خارج عن التغطية الحضارية، (واقع) يمس الأسرة المغربية، التي هي النواة الأولى لهذا المجتمع الذي ما يزال رب الأسرة فيها، لا يلقي بالا، ولا يستلهم نداء إلى وجوب توثيق الزواج. وإذا ما بحثنا عن الأسباب والدوافع الكامنة وراء هذا (الواقع) النادر المتخلف عن الركب، لا نكاد نظفر فيه بالإجابة المقنعة، لذلك وجدنا المشرع إدراكا منه بوجود هذا الواقع غير المرتفع، قد تعامل معه بغاية من المرونة المفضية إلى إنهائه، واصفا ملابساته (بالأسباب القاهرة) من دون أن يحددها أو يعين بعضا منها، فاتحا بذلك المجال الواسع لسلطة القضاء في تقييمها وتقديرها بالاعتماد على وسائل الإثبات المقررة، بما فيها الخبرة الجينية كمعطى جديد ينضاف إلى تلك الوسائل الإثباتية الشرعية، مع الأخذ بعين الاعتبار، وفي كل الأحوال، بالأثر الشرعي المترتب عن تلك العلاقة، وحالة وجود الأبناء، والحمل، وما إن كانت دعوى الزوجية في حياة الزوجين.... إلى غير ذلك مما يندرج في قاعدة المصالح المرسلة المعتمدة لدى المشرع المغربي. والواقع الذي لا مفر من الإقرار بتحيينه والتعامل معه، هو ناتج بالدرجة الأولى، عن ثقافة يمكن وصفها (بثقافة حالة الإستثناء) التي طالما كرستها مدونة الأحوال الشخصية المنسوخة لأمد غير قصير، وآن لها أن تنزاح وتنزوي جانبا أمام الثقافة الجديدة لجيل (مدونة قانون الأسرة) والواعدة، التي هي أمل الأسرة المغربية ومحل إجماع المغاربة. ونتابع الجزء الثاني من العرض في العدد المقبل.