كثير من المقالات التي تناولت التطورات الجارية في المحيط المغاربي والعربي ، وقفت بانبهار كبير متسم بطابع المفاجأة مما حصل خاصة في تونس ومصر ..وبالطريقة والأسلوب الذي يكاد يكون متطابقا، ولعل القاسم المشترك في هذه التحاليل خلاصتها بأن مواقع التواصل الاجتماعية العالمية قامت بدور محوري ومركزي في مجمل ما حدث ..لكن الغريب هو محاولة البعض القيام بإسقاط أوتوماتيكي لما جرى في البلدين على الحالة المغربية ، دون الأخذ بالاعتبار مجمل الاختلافات الواضحة بين المغرب وهذه البلدان والتي يمكن إجمالها فيما يلي: 1. وجود تعددية حزبية متجذرة في الحقل السياسي المغربي حتى قبل مرحلة الاستقلال السياسي. 2. فشل كل تجارب خلق حب الدولة أو الحزب السلطوي منذ تجربة الفديك ووصولا إلى خلق حزب الأصالة والمعاصرة. 3. وجود مجتمع مدني نشيط حقق تراكمات مهمة في التظاهر والاحتجاج السلمي، حتى أن وسائل الإعلام التي تروج اليوم لتظاهرات 20 فبراير وكأنها فتح مبين ، كانت تحجم عن متابعتها وملاحقتها ، بإعتبارها بضاعة أصبحت غير قابلة للتسويق ولا تخلق الإثارة ، ويمكن أن نقدم نموذجا عن ذلك من الحركة الإحتجاجية التي تواصلت منذ أزيد من عشر سنوات والخاصة بحركة المعطلين . 4. تسوية شاملة منذ منتصف التسعينات لملفات الإعتقال السياسي والمنفيين لأسباب سياسية . 5. لا وجود لحالة الطوارئ التي توجد على رأس المطالب في عدد من الدول العربية. 6. غياب إشكالية شرعية النظام السياسي المتمثل في الملكية . 7. صحافة حرة منذ بداية التسعينات ، وغياب أية قيود على وسائل الاتصال الحديثة خاصة الانترنت. 8. حرية تأسيس الأحزاب السياسية، التي تسوق اليوم في تونس ومصر على أنها من إنجازات الثورة ونتائجها المهمة. 9. انتخابات دورية على المستوى المحلي والوطني. هذه الحقائق وغيرها لا يمكن القفز عليها بالسهولة التي يعتقد البعض، وبالتالي يجب القول أن المغرب لا يوجد عمليا في نفس درجة الاحتقان التي ميزت تونس ومصر أو غيرها من البلدان العربية التي تعرف اليوم حراكا كبيرا ، وبالتالي يجب الإقرار بكل تواضع وصدق أننا لسنا في نفس الوضعية وبالنتيجة المنطقية فإننا بحاجة إلى أسلوب مختلف عن الأساليب التي تم اعتمادها في هذه البلدان التي كانت تعرف غيابا مطلقا للمؤسسات الوسيطة التي تم سحقها تحت أقدام الديكتاتوريات المطلقة التي عمرت لعقود طويلة . بالعودة إلى أسلوب الاحتجاجات والتي تتسم بالثورات السلمية، أجد نفسي أبتعد تلقائيا من تجربة تونس ومصر باعتبارهما إلى حدود اليوم غير مكتملتين ولا يمكن الحكم عليهما بالنجاح أو الفشل ، ماداما معا في مرحلة مخاض مفتوح على كل الاحتمالات ، باعتبار عمليات التحول نحو الديمقراطية ، هي مسألة معقدة وتتطلب الرهان على الزمن ، كما حصل في عدد من البلدان التي تعتبر اليوم رائدة في الديمقراطية عبر الثورات التاريخية التأسيسية التي تعتبر مرجعا بالنسبة للجميع خاصة الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية ، حيث أنه بعد أزيد من قرنين وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية فقط أصبح للمرأة الفرنسية الحق في التصويت ونفس الشيء بالنسبة لبلجيكا ، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية يعلم الجميع كيف خاض السود من خلال حركة مارتن لوتر للمطالبة بالحقوق المدنية ، معارك ضارية مع نظام الميز العنصري وإنتزاع حقوق المواطنة الكاملة في سنوات الخمسينيات والستينيات ، وإستمرت نفس المعارك داخل المجتمع بعد أن تم حسمها في القوانين إلى حدود نهاية السبعينيات من القرن الماضي ..العقل المغربي اليوم وكل متتبع يملك حسا نقديا يجب أن يتأمل التجارب التي سبقت تونس ومصر ، وهي في كل الأحوال ليست بعيدة من الناحية الزمنية ، وهنا أريد أن أتوقف على تجربة مر عليها الجميع مرور الكرام بما فيه الصحافة التي تروج اليوم ل 20 فبراير ونموذجي تونس ومصر . لقد عرفت أوكرانيا سنة 2005 ما عرف بالثورة البرتقالية بقيادة فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكا ، حيث نزل مليون [ لا حظوا الرقم السحري مليون مواطن ] مواطن أوكراني إلى ساحة الاستقلال [ وهو ما تم إستنساخه في مصر من خلال ميدان التحرير وفي البحرين بميدان اللولؤة ] بوسط العاصمة كييف للمطالبة برحيل الرئيس فيكتور يانكوفيتش ..السياقات المحلية الظاهرة التي دفعت الأوكرانيين للخروج للشارع كانت الإحتجاج على تحول البرلمان الأوكراني إلى مؤسسة خاضعة لنفوذ أصحاب الملايير ، وتهميشه المطلق لقضايا الشعب الملحة ، وهو ما وضحه بتفصيل كل من ماك فول وأسلوند من مركز كارينجي الأمريكي وذلك في كتابهما الصادرة سنة 2006 تحت عنوان « ثورة بلون البرتقال « ..في ساحة الإستقلال قدم المعارض وقائد الثورة فيكتور يوشينكو إلتزامات حول ما سوف يحققه للثوار ، حيث تعهد ب : 1. خلق 5 ملايين منصب شغل . 2. زيادة الرواتب والمعاشات. 3. خفض الضرائب. 4. شن حرب على الفساد. 5. مضاعفة الناتج الزراعي. 6. الحد من الفوارق الطبيقة. الحصيلة بعد خمس سنوات كانت هي بلوغ معدلات الفقر مستوى قياسي غير مسبوق في أوكرانيا وصل إلى حدود 37 في المئة من مجموع السكان ، في بلد غني بثرواته الغازية ومؤهلاته الفلاحية وبنية صناعية وتكنلوجية موروثة عن الحقبة السوفياتية ..سنة 2010 أسقط الأوكرانيون زعيم الثوار فيكتور يوشينكو ورفيقته يوليا تيموشيبكو وأعادو للسلطة عبر صناديق الإقتراع الرئيس فيكتور يانكوفيتش الذي خرجت الملايين تطالب برحيله قبل خمس سنوات ، فماذا جرى بعيدا عن الشعارات الحالمة التي رفعت في ميدان الاستقلال ؟. خلصت كل الدراسات التي تابعت هذه الثورة إلى خلاصات وحقائق رئيسية هي على الشكل التالي : 1. الثورة البرتقالية لم تكن بتلك العفوية التي تم تصويرها ، ولم تكن نتيجة تراكم الوعي بالتغيير بل كانت ثورة حركها ومولها رجال أعمال كبار كانوا في صراع على الصفقات الكبيرة للغاز. 2. صرف ما يقارب مليار دولار لإنجاح الثورة من خلال 700 مليون دولار للدعاية الإعلامية في التلفازات والإذاعات والجرائد المملوكة لرجال الأعمال ، و150 مليون دولار لتغطية نفقات الاعتصام في ميدان الاستقلال ، وذلك بتوفير الخيام والأغطية والتدفئة والطعام والفرق الموسيقية التي كانت تلهب حماس المعتصمين . هذه الدراسات والأبحاث خلصت إلى أن رجال الأعمال أشعلوا الثورة وركبوا على المطالب الاجتماعية للمواطنين ، ليس انطلاقا من صحوت مفاجئة للضمير والوعي بأهمية وجود مؤسسات ديمقراطية ، ولكن لفرض اقتسام المنافع الاقتصادية ، والحصول على امتيازات ضريبية واسعة ، هذه الخلاصات دفعت عددا كبيرا من الباحثين ومراكز الدراسات إلى إعادة تسمية ثورة البرتقال من خلال وصفها ب « الانقلاب السياسي السلمي « أو « انتقال السلطة بين جماعات المصالح « ... قبل أيام جر نقاش مهم على القناة الفرنسية « كنال بلويس « ، كان موضوعه الثورات العربية خاصة في تونس ومصر ، ومن بين ما دار في النقاش التأكيد على الدور الذي يلعبه « مركز الحركات غير العنفية والإستراتيجية « التي يوجد مقرها في صربيا والتي يتم تمويلها عن طريق المعهد الجمهوري الأمريكي وفريدم هاوس منذ سنة 2000 ، وهو المركز الذي يقوم بتأطير حركات الاحتجاج التي تعتمد على الشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك وتويتر ، وهي من قام بتأطير الثورة على ميلوزوفيتش في صربيا ، والثورة البرتقالية في أوكرانيا ، والثورة الوردية في كازاخستان ، وحركة 6 أبريل المصرية...وللصدفة إن كان مازال للصدفة من موقع يعتبر شعار/ لوغو « مركز الحركات غير العنفية والإستراتيجية « مطابقا لما هو موجود عندنا في المغرب بالنسبة لحركات 20 فبراير ... الحالة المغربية هي إستنساخ لجوانب كثيرة من الحالة الأوكرانية من خلال : 1. وجود برلمان يغلب عليه أصحاب المال ، وهيمنة منطق المال في كل الانتخابات ، وهو ما يجعل عددا من الأطر والسياسين بدون إمكانية واقعية لدخول المؤسسة التشريعية. 2. إنعكاس تركيبة البرلمان على القضايا التي تحظى بالأولوية بالنسبة لطبقة من رجال الأعمال حيث يغيب الإهتمام التشريعي بعدد من القضايا التي تهم فئات واسعة من الشعب. 3. دخول عدد من النخب السياسية والكفاءات في مرحلة اليأس من إمكانية إصال صوتها عبر المؤسسات المنتخبة . 4. وجود صراع بين رجال الأعمال حول عدد كبير من الصفقات ، التي كانت نتيجة للأوراش الكبرى وللانفتاح الاقتصادي الذي يعرفه المغرب. 5. ردود فعل عدد من رجال الأعمال الذين تم مسهم في عدد من الامتيازات التي كانوا يحصلون عليها نظير الدعم المقدم للمطاحن والسكر ومستوردي النفط وإلغاء العمل بالرخص بالنسبة لنقل السلع والنقل البحري ، ومنتجي السكن الاجتماعي ، ومن كانوا يحصلون على صفقات بدون طلب عروض ... 6. هيمنة رجال الأعمال على صحافة القطاع الخاص وتحويلها إلى وسائل للضغط وتصفية الحسابات، وتهييج الشارع والتغطية على ما يتم إنجازه من طرف الحكومة ، وإبراز فقط الانتظارات والحاجيات التي سوف تظل دائما موجودة في ظل أي حكومة لأسباب موضوعية . اليوم نحن بحاجة إلى حوار حقيقي بعيدا عن الشعبوية والديماغوجية التي لا يمكن أن تنتج شيئا في الواقع ، اليوم يجب أن نقول بأن ما تحقق في المغرب يعتبر مهما ، غير كافي ..نعم ، غير مكتمل ..نعم ، غير نهائي ..نعم ، لكنه أرضية متقدمة وصالحة لبناء مستقبل أفضل ، ما يجري في تونس ومصر يمكن أن نحكم عليه في السنوات المقبلة ، دعونا ننشغل ببلادنا بالكثير من « التمغريبيت « المنتجة والفاعلة والممانعة . أخيرا لا بد من التنبيه إلى واقعة على درجة كبيرة من الرمزية وقعت في تونس بعد هروب بنعلي إعلان نجاح الثورة والتي تم تهميشها من النقاش في صحافة القطاع الخاص ، والمتمثلة في « حريك « 5000 شاب تونس نحو السواحل الإيطالية ...واقعة مثل هذه تسائلنا وتسائل الثورة التونسية ، عن كيف يهرب الشباب من الحلم ومن الثورة ؟؟؟