في منتصف السبعينيات كان الحسن الثاني رحمه الله، قد نجح في إنشاء التفاف وطني في الداخل. وتمكن من استعادة نفس الديبلوماسيا المغربية علي الصعيدين العربي والدولي، بعد العزلة التي وجد فيها منذ 1965. وأمكن للملك المعزز في الداخل والمنتعش في الخارج، أن يرتب الأجواء لإنجاح المسيرة الخضراء، وهذه أدت كما هو معلوم إلي اتفاقية مدريد. ولم تنفع محاولات جزائر بومدين لتكسير التضامن العربي والإسلامي مع المغرب. إلا أنها نجحت في خلق تيار مؤيد لها نسبيا ولفترة قصيرة في اليسار الأوربي، الذي كان ينظر إلي الجزائر كنظام تقدمي. علي الصعيد العربي خدم المنطق الوحدوي لفائدة المغرب، الذي تحرك بنشاط في القضية الفلسطينية. ولم يسع الرئيس بومدين أمام القمة العربية في 1974 إلا أن يصرح بأن بلاده تؤيد الاتفاق المغربي الموريتاني، وأنه لا مطلب للجزائر في الصحراء. ولكن الديبلوماسيا الجزائرية راهنت علي المجموعة الإفريقية في الأممالمتحدة من أجل أن يبقي ملف الصحراء مفتوحا علي صعيد الأممالمتحدة. وفي الوقت الذي أيدت الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تصفية الاستعمار في الإقليم، والتخلص من ملف كان يربك العلاقات مع إسبانيا، تعبأت الجزائر من أجل ألا يحصل المغرب علي تزكية من المنتظم الدولي لفائدة اتفاقية مدريد. ويحكي أندري ليوين، الناطق باسم الأممالمتحدة في عهد فالدهايم، الذي عاش عن قرب اللحظات الأخيرة الحرجة قبيل اتفاق مدريد نوفمبر 1975، ما رآه في مدريد من مظاهر لذاك التحرك الجزائري العنيف لمعاكسة المغرب، بما في ذلك اجتماع في دهليز للسفارة الجزائرية مع وفد يضم صحراويين أعضاء في البرلمان الإسباني، وذكر الديبلوماسي المشار إليه أنه أسبوعا بعد ذلك وجد نفس الوفد في القصر الملكي بأكادير. لقد قامت الجزائر بتحرش كثيف لمناوءة اتفاقية مدريد، ولدى التصويت علي توصية تتعلق بالمصادقة علي تلك الاتفاقية تقدمت الجزائر بمشروع يرمي إلي تجاهل اتفاقية مدريد والتأكيد علي ضرورة إجراء استفتاء. وحدث لأول مرة في الأممالمتحدة أن تم التصويت فيها، في نفس اليوم، في نفس النازلة، علي موقفين متباينين. إذ جرى التصويت في الجمعية العامة للأم المتحدة يوم 10 ديسمبر 1975، علي المشروع المغربي المتضمن للاعتراف باتفاقية مدريد، وكذا علي المشروع الجزائري الذي يتجاهلها. وأحرز كل مشروع علي عدد من الأصوات يكفي لإنجاحه. وهنا بدأ مسلسل استمر حتى اليوم قوامه سوء استغلال مساطر العمل الديبلوماسي، بعيدا عن الموضوعية والمنطق. وتزايد التصعيد بعد ذلك إلي أن حدث تدخل عسكري جزائري رسمي بالجيش النظامي، في مغالة أولا وثانيا في يناير/فبراير1976، قبل إعلان ما يسمى بالجمهورية العربية الصحراوية. وهذا بالإضافة إلي محاولة عرقلة المصادقة في مجلس الجماعة بالعيون علي اتفاقية مدريد. إذ عملت الأجهزة الخاصة علي اختطاف بعض أعضاء المجلس كمحاولة لعدم اكتمال النصاب. وقد فضح ذلك نائب ريس الجماعة الذي عاد إلي العيون بعد أن تعرض للاختطاف. واستمرت الجزائر في مكائدها مسلحة بإرادة راسخة وواضحة في أن يستمر التوتر قائما، وفي كل مرة يكون هناك مبرر جديد، باعتبار أن ملف الصحراء خلق ليبقى، و الاحتفاظ به مفتوحا، يعتبر من الغايات الاستراتيجية التي تم التخطيط لها. وقد كان جائزا في وقت ما أن يفكر البعض في أن هدف الجزائر هو الحصول علي ممر نحو الأطلسي، أو خلق كيان طيع في المنطقة يخدم رغبات الجزائر، أو يقطع الامتداد الإفريقي للمغرب. ولكن ما ثبت طيلة العقود التي مضت هو أن الجزائر، وهي شاعرة بأن توسعيتها لا تكتمل بسبب قدرة المغرب علي مقاومة مخططاتها الهيمنية، تعمل علي أن يبقى المغرب منشغلا بملف يمكن أن يسبب له إرهاقا أو علي الأقل عدم اطمئنان، في انتظار أن تجبره الظروف علي الخضوع. وهذا هو الأساس في حسابات الجزائر. وقد واجه الحسن الثاني كل هذا بصبر سياسي مدروس، و بمخطط دقيق يرمي إلى صيانة حقوق المغرب والحفاظ على ما هو جوهري، وفي نفس الوقت إنقاذ المستقبل. وفي وقت مبكر من النزاع علي الصحراء بعد تحريرها أي بعد أن جلت عنها إسبانيا، كان الملك الحسن الثاني قد خاطب الرئيس هواري بومدين: "أناشدكم أن تجنبوا المغرب والجزائر مأساة أخرى. وأطلب منكم كذلك إما أن تعملوا بحرب مكشوفة ومعلنة جهارا، وإما بسلام مضمون دوليا". كان تاريخ الرسالة هو 2 أكتوبر 1978. وفي 6/10/78 جاء رد الرئيس بومدين مؤكدا الرغبة في استيناف الاتصال المباشر، "حيث أن الحوار المباشر أفضل لا محالة". وتضمن ذلك الجواب استطرادا غريبا خارج السياق، إذ قال الرئيس الجزائري: " ولكن هل يعقل ذلك (الحوار المباشر) بعد المواقف التي اتخذها كل منا في شأن القضية الفسطينية، وامتداداتها بالنسبة للشرق الأوسط والأمة العربية؟ (يقصد الاختلاف بشأن مبادرة الرئيس السادات).. لقد تمكنا جلالتكم وأنا من رفع سياسة بلدينا طيلة عشر سنوات إلي مستوى التطلعات الطبيعية لشعبينا. وهكذا فقد زرع بومدين في هذه الرسالة الجوابية ما يفيد أن الرئيس الجزائري كان بصدد اختراع أي مبرر لتلافي الحوار البناء مع المغرب، وفي هذه الحالة، "الاختلاف" بشأن الشرق الأوسط. وهي ذريعة مفضوحة الغرض للحفاظ على التوتر مع المغرب. كانت العلاقات بين البلدين فيما سبق متعددة المحاور، حيث كانت ذيول حرب الرمال سنة 1963، تعمل عملها في تكييف نظرة كل منهما نحو الآخر. كما أن مشكلة الحدود شغلت قائدي البلدين حوالي عشر سنوات. ومن الناحية الأمنية كان إيواء الجزائر لمعارضين مغاربة يربك العلاقات الثنائية. ولفترات متقطعة كان البلدان يجران الحديث حول التعامل التجاري والاقتصادي، أيام الولع بالخطاب المغاربي الذي قطعه بروز شعار "مغرب الشعوب" االذي اخترعه بومدين لوقف مسلسل توحيد المغرب العربي. لقد هيمن الهاجس الصحراوي على انشغالات البلدين منذ أوائل السبعينيات. وباستثناء خط أنبوب الغاز، الذي أنشيء تجاوبا مع رغبة أوروبية، جرت الجزائر جرا لتلبيتها، فلا تعاون اقتصادي يذكر، بعد أن أقفلت الحدود بين البلدين في 1995. وإذا كانت لقاءات زيرالدة (10/6/1988)، ومراكش (17/2/1989) قد أثمرت معاهدة اتحاد المغرب العربي فإن فورة الخطاب تلاشت ليحل محلها واقع يشبه القطيعة. ولم يبق من مظهر للتعامل المغربي الجزائري إلا ملف الصحراء، وتطوراته علي مسرح الديبلوماسيا المتعددة الأطراف. ومما لا شك فيه أن ملف الصحراء، لا يعكس عنوانه المحتوى الحقيقي لهذا الملف، ألا وهو سوء التفاهم المزمن المغربي الجزائري. فمنذ أوائل السبعينيات، سعت الجزائر إلي اكتساب صفة "الطرف المهتم" بتصفية الاستعمار في الصحراء، نظرا لتطلعها في الفترة البومدينية إلي إقامة ترتيبات جهوية تكون هي مركزها. وهكذا حضرت في مداولات محكمة لاهاي، وتحركت بنشاط في سبتمبر/نوفمبر 1975 من أجل معاكسة أن تتم التسوية بين إسبانيا و كل من المغرب وموريتانيا. وفي لاهاي وقع شيء فريد من نوعه في تاريخ تصفية الاستعمار، فقد وقف مندوب الجزائر البجاوي إلى جانب إسبانيا للدفاع عن نظرية الأرض الخلاء. وبذلك سجلت الجزائر على نفسها أنها الدولة الوحيدة من العالم الثالث التي وقفت إلى جانب دولة استعمارية ضد دولة شقيقة. وحينما تمكن المغرب من استرجاع الصحراء، اعتبر الرئيس بومدين أن " التوازن في المنطقة تطلب سنوات من الإعداد " وهو لا يقبل تغيير ذلك التوازن. كما قال إذ ذاك في تصريح لجريدة لومانتي الفرنسية في ديسمبر 1975. ومنذ ذلك الوقت والمغرب لا يجد في مواجهته في المحافل الدولية سوى الجزائر. فمنذ ثلاثين سنة وملف الصحراء هو المحور الرئيسي، إن لم يكن الوحيد للعلاقات الثنائية، مع حرص البلدين على ألا تتجاوز المواجهة بينهما بشأنه، قدرا معينا من السخونة تمكن الطرفان من التحكم فيه. فمنذ مغالة كف الجيشان المغربي والجزائري عن المواجهة المباشرة، ليتم ذلك بواسطة البوليزاريو، ولكن دائما بقدر محسوب. وبقيت العلاقات الثنائية بين أخذ ورد، يكاد يتراءى أحيانا حصول تفاهم، قبل وفاة بومدين، ثم سرعانما تسقط العلاقات في توتر ثم في قطيعة، كما هو الحال الآن، حيث أن الحدود مقفلة، ولا يتم " التبادل " إلا عبر قنوات التهريب. وقد وصف وزيران جزائريان للخارجية، هما صالح ديمبري في أوسط التسعينيات، وبلخادم في بداية الألفية، العلاقات الجزائرية المغربية بأنها في "حالتها الطبيعية". ويمكن القول فعلا إن إقفال الحدود هي الحالة الطبيعية السائدة بين البلدين، وأن فتحها هو الاستثناء. حدث هذا عدة مرات، بعد حرب 1963، ثم بعد بروز ملف الصحراء، ثم بعد حادث فندق آسني. وموقف صارم من هذا القبيل يعبر عن حالة من اللزوجة تتجلى في أن هناك صدودا باتا عن إقامة تفاهم كامل ، وفي نفس الوقت أن هناك حرصا على عدم المغامرة بالوصول إلي مواجهة كاملة. ولكن السباق نحو التسلح لا يمر دون أن يشحذ حالة الحذر. وهناك على الدوام رغبة في التمطيط بالنسبة لملف الصحراء، وذلك باستعمال التقنيات التي تتيحها ميكانيزمات الشرعية الدولية لحشر بنود معينة في التقارير والتوصيات الأممية المتعلقة بالصحراء. وقد أدرك كل من دي كويليار وبطرس غالي و كوفي عنان، أن التسوية كما طرحت في وقت من الأوقات، غير قابلة للتطبيق. وهذا هو حال الملف منذ 1964 حينما كانت إسبانيا تتلكأ في تطبيق الشرعية الدولية. وكما هو ملموس فإن العقدة التي تكتنف العلاقات بين الجزائر والمغرب، ليست من النوع الذي تظهر أعراضه فجأة. والغالب علي الظن أن الأمر يتعلق بمجموعة من العقد، كلما تم فسخ إحداها برزت أخرى تحتها. فإذا حلت عقدة التاريخ، ظهرت عقدة الثري المطمئن إلي وسائله المادية. وإذا توارت هذه وتلك، تأتي عقدة طبيعة النظام الجزائري. وهو نسيج فريد. وهذه العقدة لخصها محللون في أن كل دول العالم لها جيش، أما في الجزائر فإن الجيش هو الذي يملك الدولة. وبما أن هذا الجهاز لا توجد قناة طبيعية للتحاور معه سلميا، فإن شركاء الجزائر الاقتصاديين والسياسيين يظلون يحاورون الأشباح. وإليكم هذه القصة المعبرة، أنقلها عن إبن زيدان، ذكرها في "الإتحاف" لابن زيدان. كان قراصنة الجزائر قد اختطفوا حوالي سنة 1785 أميرة إسبانية كانت في طريقها إلي نابولي. وطلب ملك إسبانيا كارلوس الثالث وساطة صديقه محمد الثالث ملك المغرب، موضحا أنه مستعد لأداء الفدية مهما كانت. ولبى العاهل المغربي التماس نظيره الإسبالني لكن داي الجزائر لم يتجاوب. فما كان من سيدي محمد بن عبد الله إلا أن كتب رسالة احتجاج إلي السلطان العثماني الذي قام من جانبه بتوبيخ حكام الجزائر، لأنهم ردوا وساطة ملك المغرب، وأمرهم بأن يحلوا المسألة في أسرع وقت، رعاية لملك المغرب الذي بذل جهودا سياسية ومالية ذات بال، طيلة سنوات عديدة، من أجل افتكاك الأسري المسلمين من يد الممالك المسيحية. وكانت المفاجأة عظيمة حينما قال داي الجزائر لمبعوثملك المغرب الذي استلم الأميرة من خاطفيها، إنه "مجرد حاكم"، أما القرار فهو بيد قادة الجيش، وأن هؤلاء كانوا يرفضون الفدية. إلا أن التعقيد الأساسي ينبع من كيفية نظر الجزائر إلي نفسها. فمن قراءة التاريخ القريب، بالذات منذ 1962، نجد أن هناك أطوارا مختلفة. فالجزائر البومدينية، كانت تحلم بأن تصبح يابان إفريقيا. وجزائر ما بعد ذلك، منهكة بمشاكلها لكنها ما زالت فريسة لتصور موروث ينطلق من أن الجزائر لكي تكون يابانا أو أي نموذج آخر، فيجب ألا يكون هناك من يخطف منها هذا الدور وهذا الموقع. وبالتالي فإن هذا الجار أو ذاك من دول المنطقة غير ليس شريكا بل غريم، وبذلك يقوى عند قادتها الشعور بأن موقع الجزائر ودورها هو حتما علي حساب الغير. وهذا الغير الذي يحجب عنها البريق هو بالضرورة المغرب. وتنقل نيكول غريمو في بحثها عن السياسة الخارجية الجزائرية عن م. حربي، مؤرخ الثورة الجزائرية، إن بن بلة كان يتوق إلي مغرب عربي يتألف حول الجزائر، "بالاعتماد علي الثوريين في كل من تونس والمغرب"، ومن هنا انفتاحه علي الانقلابيين، أما بومدين فإنه ببساطة لم يكن يومن بالمغرب العربي بسبب مشاعر ترجع إلي أيام الثورة. (نيكول غريمو ص 192).وتبسط هذه المؤلفة أن قيادة الجزائر لأقطار المغرب العربي وفق هذا ىالتصور تصبح ، أمرا بديهيا. فهي تغطي مساحة تضاعف المغرب خمس مرات، وتونس 19 مرة. (ص 194). هذه الرؤية التضخمية إلي الذات، التي ترجع إلي حقب يمكن القول إنها أصبحت تنتمي لما قبل التاريخ، نظرا للتطور السريع الذي انتهى إلى عالم معولم، كانت تقوم ولا زالت علي أساس أن الجزائر هي المؤهلة لتكون مركز الجاذبية. فهناك واقع جديد في العالم، لكن إدراك هذا الواقع متعذر على من امسك بمطرقة رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في السبعينيات. إن مشكلة الجزائر هي أن يكون المغرب مستقرا، وهذا عكس ما يفكر فيه المغرب، على عهد الحسن الثاني واليوم وغدا، حيث أنه يرى أن أفضل وضع يمكن أن يسود في المنطقة هو الاستقرار الداخلي في كل بلد، والتركيز علي التنمية، والتعاون فيما يضمن المصالح المشتركة وهي كثيرة، ويضمن المنافع المتبادلة وهي ممكنة التحقيق، في ظل التخلي عن التوسعية وأوهام الهيمنة.