كأس أمم إفريقيا – المغرب 2025 .. الإعلان عن المدن والملاعب التي ستستضيف المنافسات    سلا: توقيع اتفاقية لاحتضان المغرب رسميا مقر جمعية الأندية الإفريقية لكرة القدم    وزارة التجهيز تُحقق في فاجعة سد المختار السوسي    أداء متباين في بورصة الدار البيضاء    لقجع يوقع مذكرة تفاهم مع هيرسي علي سعيد لاحتضان المغرب لمقر جمعية الأندية الإفريقية لكرة القدم    عملية حد السوالم إستباقية أمنية و يقظة إستخباراتية في مواجهة الخطر الإرهابي.    فاجعة نفق سد أولوز بتارودانت .. انتشال جثتين فقط وفرق الوقاية المدنية تسارع الزمن لانتشال الباقي    اخنوش : المغرب حقق إنجازا "غير مسبوق" باستقطابه 17.4 مليون سائح سنة 2024    رئيس الحكومة: انخرطنا في توقيع عقود تطبيقية لتنفيذ خارطة الطريق السياحية جهويا    الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية يشيد بالرؤية السامية لجلالة الملك للنهوض بالسياحة في المغرب    وزارة التجهيز تحذر من أمواج عاتية بعلو يتراوح بين 4 و6.5 أمتار الخميس المقبل    توقيف شخصين متورطين في ترويج المخدرات القوية بطنجة    انهيار ترابي كبير يقطع الطريق الساحلية بين الحسيمة وتطوان    موتسيبي: كأس إفريقيا للأمم 2025 في المغرب ستكون الأفضل في التاريخ    أخنوش: الرهان على التسويق والترويج مفتاح لتكريس مكانة بلادنا كوجهة سياحية عالمية    أخنوش: لدعم السياحة نفذت الحكومة في عز الجائحة مخططا استعجاليا بقيمة مليارَي درهم    مستشفيات طنجة: خلية طوارئ تعمل 24/24 لمواجهة وباء بوحمرون بخطة عمل استباقية    بعد غرق قارب.. إيقاف الملاحة البحرية بميناء العرائش    توقعات بعودة التساقطات الثلجية إلى مرتفعات الحسيمة    رحو يدعو إلى عقلنة استغلال المعطيات الشخصية في "السجل الاجتماعي"    مئات الآلاف من النازحين يعودون إلى شمال غزة في مشهد إنساني مؤثر    ناس الغيوان تلهب حماس الجمهور في حفل استثنائي في ستراسبورغ    طهاة فرنسيون مرموقون: المطبخ المغربي يحتل مكانة متميزة في مسابقة "بوكوس دور"    الجامعة الوطنية للصحة بالمضيق-الفنيدق تصعّد ضد تردي الوضع الصحي    بما فيها "الاستبعاد المدرسي".. "الصحة" و"التعليم" تطلقان تدابير جديدة في المدارس لمواجهة انتشار الأمراض المعدية    مسرح البدوي يخلد الذكرى الثالثة لرحيل عميد المسرح المغربي الأستاذ عبدالقادر البدوي.    الدفاع الجديدي يطالب بصرامة تحكيمية ترتقي بالمنتوج الكروي    بعد النتائج السلبية.. رئيس الرجاء عادل هالا يعلن استقالته من منصبه    مشاهير مغاربة يتصدرون الترشيحات النهائية ل "العراق أواردز"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    كأس إفريقيا للأمم…تصنيف المنتخبات في القرعة    هروب جماعي من سجن في الكونغو    المعارضة تطالب باستدعاء التهراوي    المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 17 سنة ينهزم وديا أمام غينيا بيساو    أمطار وزخات رعدية متوقعة في عدة مناطق بالمغرب مع طقس متقلب اليوم    متى تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟    المال من ريبة إلى أخرى عند بول ريكور    الولايات المتحدة تعلن تمديد وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حتى 18 فبراير    إضراب واعتصام أمام الادارة العامة للتكوين المهني لهذا السبب    نقابة التعليم العالي تدين توقيف أستاذين بجامعة محمد الخامس وتدعو إلى سحب القرار    الكرملين ينتظر إشارات من واشنطن لاجتماع محتمل بين بوتين وترامب    ريدوان يهدي المنتخب المغربي أغنية جديدة بعنوان "مغربي مغربي"    الصين: قدرة تخزين الطاقة الجديدة تتجاوز 70 مليون كيلووات    وعود ترامب الثلاثة التي تهم المغرب    وفد عسكري مغربي يزور مؤسسات تاريخية عسكرية في إسبانيا لتعزيز التعاون    انخفاض أسعار الذهب مع ارتفاع الدولار    سكان قطاع غزة يبدأون العودة للشمال بعد تجاوز أزمة تتعلق برهينة    تايلاند تصرف دعما لكبار السن بقيمة 890 مليون دولار لإنعاش الاقتصاد    طلبة الطب والصيدلة يطالبون بتسريع تنزيل اتفاق التسوية    تراجع أسعار النفط بعد دعوة الرئيس ترامب أوبك إلى خفض الأسعار    برودة القدمين المستمرة تدق ناقوس الخطر    ندوة ترثي المؤرخة لطيفة الكندوز    حريق جزئي في بناية 'دار النيابة' التاريخية بطنجة بسبب تماس كهربائي    شبكة صحية تنتقد الفشل في التصدي ل"بوحمرون" وتدعو لإعلان حالة طوارئ صحية    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاجتنا إلى حركة إصلاحية جديدة
الإصلاح ينشد التغيير في ظل الاستمرار دون المس بالثوابت
نشر في العلم يوم 16 - 01 - 2011

شارك الدكتور سعيد بن سعيد العلوي في الندوة الخامسة لمؤسسة علال الفاسي بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الزعيم تحت عنوان التطور الثقافي بالمغرب خلال القرن العشرين ومساهمة علال الفاسي وذلك في مداخلة تحت عنوان حاجتنا إلى حركة إصلاحية جديدة وكان ذلك في المائدة المستديرة التي كانت في موضوع الحاجة الى حركة اصلاحية جديدة.
ونقدم فيما يلي نص مداخلة الدكتور سعيد بن سعيد العلوي.
هل نحن اليوم في حاجة إلى حركة إصلاحية جديدة؟
في هذا السؤال عناصر ثلاثة ( نحن، اليوم، الحركة الإصلاحية الجديدة) يتوجب كل منها وقفة مساءلة وتوضيح وهذا ما نرى ضرورة البدء بالقول فيه حتى يكون كلامنا مسؤولا ويكون لحديثنا ما يلزم أن يكون له من الدقة والوضوح.
من البديهي أن قولنا « نحن» في السؤال أعلاه، يفيد الحديث عن الشعب المغربي ويعني مجموع المواطنين المغاربة من حيث إننا ننتمي إلى وطن هو المغرب وإلى دولة هي الدولة المغربية ومن الطبيعي أن الاشارة إلى « اليوم « تقصد وجودنا الحالي وطنيا، وجهويا، وعالميا، ولكل من النعوت الثلاثة دلالات تفيدها وأمور عليها. أمور متشابكة تتصل ببعضها البعض في حلقة واحدة غير أن الضرورة البيداغوجية تقضي أن يكون أول كلامنا في الحركة الإصلاحية، معناها والقصد بالجدة فيها،ثم أن نثني على ذلك الحديث بشرح يسير لمعنى اليوم أو الحاضر، من جهة النظر التي نصدر عنها، وتقضي الضرورة البيداغوجية بعد ذلك أن نخوض في السؤال الأساس، موضوع لقائنا.
أولا- الحركة الإصلاحية والحاجة إليها
لا توصف حركة ما بالإصلاحية، أي لا تكون حركة ما حركة إصلاحية، إلا متى كانت تقصد الفعل وتتجاوز النظر المجرد. غير أنها لا تستقيم إلا متى كانت تتصل بفكر يسندها ونظرية أو بناء نظري يدعمها. والحركة الإصلاحية، ثالثا، تقتضي وجود النخبة التي تبلورها وتجليها في ساحة العمل ذلك أن النظر الإصلاحي لا يخاطب إلا النخبة والحركة الإصلاحية لا تكون إلا بالنخبة أو النخب. وللحركة الإصلاحية سمة رابعة، وربما كانت أهم سماتها وأكثرها قوة، دون أن يكون في ذلك تقليل من شأن السمات الثلاث الأخرى. الخاصية الرابعة في الحركة الإصلاحية أو السمة المركزية، هي استلزام وجود الثوابت وهي كذلك لأنها إصلاح لا ثورة، إصلاح لا قلب للنظم والقيم والمعتقدات بل هي حفاظ عليها وسعي إلى الانطلاق منها . ذلك ما يفيده التاريخ البشري، وذلك هو الدرس الذي نستخلصه من النظر في اللحظات القوية التي عرفت انبثاق الحركات الإصلاحية الكبرى ولنا على ذلك أمثلة نشير إلى بعضها على سبيل الإيجاز.
أ?- النهضة الكبرى التي عرفتها دول أوروبا الغربية في القرن السادس عشر سبقتها حركة الإصلاح الديني فكانت النهضة، بمعنى من المعاني، ترجمة لحركة الإصلاح الديني وتوظيفا للمبادئ التي وجهتها ( التسامح من جهة أولى، ومعناه في العمق الحق في الاختلاف في عبادة الله وفي ممارسة الشعائر الدينية، ومن ثم اعتبار البروتستانتية حركة إصلاحية دينية وتياراً دينياً له الحق في الوجود على قدم المساواة مع الحق الذي كانت الكاثوليكية تقدر أنها تمتلكه بمفردها. ومن جهة ثانية، نذكر الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول، أي إلى الينابيع الأولى للفكر الغربي، أو ما يعتبر أنه كذلك، والقصد به المصادر اليونانية من جانب والأصول اللاتينية من جانب آخر. وجعلت حركة الإصلاح الديني ما يصح اعتباره جذورا للشعار الذي سيملأ الساحة في» عصرالنهضة» شعار الإنسية». وفي هذه الأخيرة جذر هو « الإنسان» باعتباره مركزا للتفكير وغاية له في الوقت ذاته). يصح القول، في عبارة جامعة، إن النهضة الأوربية كانت حركة إصلاحية شاملة وأنها جعلت من شمول الإصلاح برنامجا لها.
ب- والنهضة الكبرى التي عرفتها اليابان كانت بدورها حركة إصلاحية كبرى عمادها الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول والعودة إلى « السلف». مما حدا باحثا مغربيا استوقفته تجربة التحديث في اليابان فرافقها بالبحث العلمي زمنا غير يسير ( هو الأستاذ محمد أعفيف)، حدا به إلى نعت حركة التحديث في اليابان بالحركة «السلفية». حركة تجديد بدايتها الفعلية في القرن السادس عشر الميلادي بدورها وليس الميجي وعصره (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) سوى نتيجة لمسيرة عميقة شملت مجالات شتى.
ج?- هل نحن في حاجة إلى القول بأن «النهضة العربية» في القرن التاسع عشر كانت بدورها حركة إصلاحية تدعو إلى الرجوع إلى الأصول الأولى، وبأن مفكري النهضة العربية كانوا على اختلاف مشاربهم دعاة إصلاحيين؟
د- ثم هل نحن في حاجة إلى التنبيه أيضا بأن الحركة الوطنية المغربية كانت منذ بداياتها في مطلع القرن العشرين حتى اشتداد عودها حركة إصلاحية ودعوة إلى الإصلاح الشامل من أجل تجاوز الأسباب التي جعلت استعمار المغرب ممكنا.
ثانيا: «اليوم» ومقتضيات الإصلاح
الحديث عن اليوم يستدعي (كما ذكرنا، الحديث عن وجودنا اليوم) سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. باعتبار انتمائنا إلى وطن هو المغرب وانتمائنا إلى أمة وشعب هو الشعب المغربي، كما يستدعي هذا الحديث الانتباه إلى الدلالات التي يستوجبها وجودنا في الأصعدة الوطنية والجهوية والعالمية.
-فأما من الناحية الوطنية، فنحن في المغرب نعيش مرحلة تاريخية لها جملة مميزات تلتقي عند إرادة الإصلاح، عند الرغبة في التغيير وتلك إرادة الشعب المغربي وذاك مضمون الخطاب الملكي فهو لا يفتأ يتحدث عن التطلع إلى المجتمع الحداثي الديمقراطي وإلى تشييد دولة القانون. ولكن هناك بالمقابل، من جانب آخر، قوة (وربما قوى خفية) ترى في التغيير تهديدا لمصالحها فهي تقاومه بكل سبيل وتشغب عليه. وإذن فالوجود المغربي وطنيا، يستدعي ظهور فكر إصلاحي، سمته الوضوح والايجابية، ويتطلب قيام حركة إصلاحية تتناسب مع المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية الجديدة ومن ثم حركة إصلاحية جديدة.
=وأما في الصعيد الجهوي فيكفي أن نتبين أن وجود المغرب يجعل له جملة انتماءات يقتضى كل منها نقلة نوعية في الفكر بالنظر إلى ما تمثله وتعيشه اليوم جهات الانتماء المتعددة. فالمغرب جزء من المغرب العربي، وهذا الأخير قوة اقتصادية وبشرية، والمغرب بعض من الوطن العربي، وقسم من العالم الاسلامي، وهو، بحكم الجغرافية والثقافة معا، ينتسب إلى حوض البحر الأبيض المتوسط من جهة، وإلى القارة الإفريقية، من جهة أخرى. والتاريخ الاجتماعي والثقافي للمغرب هو، في كلمة جامعة، انفعال بهذه المعطيات كلها وصهر لها في بوتقة محلية مميزة.
وأما في الصعيد العالمي، فتكفي الإشارة أن العالم يعيش صراعاً دولياً في صورة جديدة، مغايرة لما كان عليه الشأن قبل عقود قليلة، بل قبل عقدين من الزمان فقط. فهناك من جانب أول، بروز قوى اقتصادية جديدة (الصين، الهند، البرازيل، مجموعة جنوب شرق آسيا عامة). وهناك، من جانب ثانٍ، توجه أكثر فأكثر إلى اقتصاد السوق، ومن جانب ثالث، تطور وتنام متصلين في المعرفة وفي التواصلوالتكنولوجيات المتصلة بهما، ومن جانب رابع، توجه إلى فهم جديد للتدبير المحلي والجهويات الكبرى، وحديث عن حقوق الإنسان.. وبالتالي فنحن في عالم يعرف حركية مرتفعة الإيقاع ويعيش أزمة طرفها الأول العولمة وحكمها، وطرفها الثاني الدفاع عن الهويات الثقافية المهددة من قبل النموذج القوي الذي يريد أن يكون واحداً مفرداً.
نحن، اليوم، في الخيار بين الانتماء إلى العالم حقاً والارتماء في حلبة المعركة الكبرى أو الرضا من القافلة البشرية بموقع الذنب. فأما إن قنعنا من الوجود العالمي بالمؤخرة فإن المكنسة الهائلة للتاريخ، كما يقول هيجل، ستلقي بنا حيث تكون المزابل.
ثالثا- نحن وثوابتنا
الحديث عن الثوابت،في مقام الكلام عن الحركة الإصلاحية الجديدة والحاجة إليها، هو من قبيل التذكير الضروري، وهو، كما أسلفنا الإشارة إلى السمات الأساس التي تلازم كل حركة إصلاحية وكل فكر إصلاحي، مما يلزم تبينه من أجل الوضوح النظري الضروري بدوره للعمل الإصلاحي.
ما الثوابت في الوجود المغربي؟ ما ثوابتنا إذن؟
هي ثلاث : الإسلام، الملكية الدستورية، الالتحام الكامل بين المكونين الأعظمين : العربي والأمازيغي. لنقف وقفة قصيرة عند كل من المكونات الثلاث المذكورة.
1. الإسلام :
يردد المغاربة تقليديا، حين الحديث عن الإسلام، بيتا شهيرا في منظومة ابن عاشر :
في عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك
فالإسلام في المغرب إسلام سني طرفاه (بمعنى مكوناه الأساسيان) الأشعرية من حيث المذهب الكلامي (= حق الاعتقاد على قواعد محددة) والمالكية من حيث المذهب الفقهي. فإذا ما تركنا المذهب المالكي جانبا، فإنه يلزم التنبيه إلى أن الأشعرية هي اليوم المذهب الوحيد لأهل السنة.. لا، بل إنني أذهب بعيداً فأقول إن العقيدة الإباضية (وهي، كما هو معلوم، أهم مذاهب الخوارج) في كل من سلطنة عمان وما عليه الشأن في تاهرت، في الجزائر، وفي جبل نفوسة في ليبيا وكذا في صحراء تونس، لا تتعارض، في العمق، مع الاعتقاد الأشعري. فالاختلافات جزئية، هامشية، لا تكاد تذكر. والشأن نفسه بالنسبة للشيعة الزيدية في اليمن. ثم إن كلا من الفقه الزيدي وفقه الخوارج يتوافقان، في الأساس و في الأغلب في الفروع، مع فقه المذاهب الأربعة. وإذن، فقولنا إن المغاربة سنة (أشاعرة، على المذهب المالكي في الفقه) قول يجعل انتمائهم إلى العالم الإسلامي السني انتماءً قويا يضرب في التاريخ بجذوره بعيداً.
يتعين علينا بعد هذا أن نضيف أن الحديث (في منظومة ابن عاشر التي ترسم الملامح العامة لما ارتضاه المغاربة لأنفسهم في اعتناق الإسلام) عن «طريقة الجنيد» إنما هو من باب التكلمة التي لا تتصل بالجوهر ولا تنال العمق أو قل إذا شِئت أنها ? كما يقول الفقهاء والحقوقيون على السواء ? شرط كمال لا شرط صحة. ذلك أن الحديث عن «طريق الجنيد السالك» (= الزاهد المتصل بعلم السلوك) لا يفيد الطرقية في شيء ولا يعني الانتساب إليها على أي نحو من الأنحاء كان ذلك.. فسلوك الجنيد في بساطته الشديدة ووضوح الاعتقاد فيه والالتزام بجوهر الإسلام لا يستدعي ما تستدعيه الطرقية من أوراد وأذكار، ولا يستوجب وجود الشيخ «الموصل». لا يعني الاقتداء بالجنيد الأخذ بممارسة معينة والنهي عن الانتساب إلى غيرها. علينا، حين الحديث عن «طريقة الجنيد السالك» أن نتجنب الأخذ بكلمة الحق يراد بها الباطل وعلينا، في الوقت ذاته، أن لا نعمد إلى تشويه تاريخ المغرب وسلوك طريق الكذب والتضليل خدمة لأهداف غير معلنة. الحق أن المراحل القوية من تاريخ المغرب، أي الفترات المشرقة، لم تكن كذلك إلا لأن الطرقية كانت فيها غائبة عن الساحة. إذ كان الميدان يستدعي إعمال العقل والخشوع لله والحب له ولرسوله بعيدا عن الأوهام والأغراض الدنيوية التي تحمل على نشر ثقافة الخنوع والتواكل والسلبية التي تستدعيها الطرقية.
2. الملكية الدستورية
يعلمنا الفقه الدستوري أن الملكية لا تخرج عن نوعين اثنين لا ثالث لهما : ملكية مطلقة أو ملكية دستورية. غير أن الفكر السياسي المعاصر، من جهة أولى، واختيارات الشعوب، من جهة ثانية، تعلمنا كذلك أن مضمون «الدستورية» في الملكية الدستورية لا يكون واحدا في شكله إن كان، من حيث البنية العميقة، واحدا من جهة الإفادة والمعنى. فالملكيات الدستورية مختلفة. إنها ليست واحدة في اليابان والتايلاند والسويد والنرويج والدانمارك وهولندا وإسبانيا وبريطانيا وفي المغرب. الملكية الدستورية في المغرب، كما يرتضيها المغتربة ويفهمونها تقضي بكون الملك يملك ويحكم والمغربي، كما كتب الحسن الثاني، لا يملك أن يتصور ملكاً يملك ولا يحكم. وما نحسب أن المسألة تستدعي شرحاً ولا تستوجب إبانة. غير أن الملكية الدستورية في المغرب تقتضى، بطبيعة الأمر، ما تقتضيه الملكيات الدستورية من وجود حياة برلمانية سليمة، وهذه تستدعي وجود المجتمع السياسي النشيط، أي وجود الأحزاب السياسية والحياة الحزبية الطبيعية، فذلك كله هو التعبير عن الممارسة الديمقراطية الحق والحياة السياسية السليمة.
3. المكونان العظميان
الثابت الثالث في الهوية المغربية يقوم في وجود التلاحم بين المكونين البشريين العظميين: المكون العربي والمكون الأمازيغي. والمكونان، في التاريخ المغربي، متضافران متلاحمان دون أن يملك أحدهما أن يذوب الخصائص الثقافية الذاتية المميزة لكل منهما حيث يقوم كل من الدين الإسلامي من جانب، والعرش المغربي من جانب آخر بوظيفة اللحمة أو الإسمنت الذي يشدهما إلى بعضهما البعض مثلما يجعل من المكونات الثلاث (في اجتماعها) جسدا واحدا صلبا ومتماسكا. والحق أن في المغرب قبائل عربية قد تمزغت وقبائل عربية قد تعربت وهذه القولة صادقة صدق النظرية التي تقضي بأن صفاء العرق كذب ووهم. والحق أخيرا أن الأمازيغ قد حفظوا على المغرب لغته العربية، إذ كان كبار فقهاء اللغة العربية والمبدعون فيها من الأمازيغ، مثلما حفظوا عليه إسلامه فكانت تامكروت (أو الزاوية الناصرية) في منطقة سوس، والزاوية العياشية في الأطلس المتوسط وغيرهما خزانات ضخمة لكتب الفقه واللغة والعقيدة.
رابعا- روافد الحركة الإصلاحية الجديدة في المغرب
أول القول هو التسليم بصحة القضية التي تقرر أنه لا حركة إصلاحية دون فكر إصلاحي يلهمها وينير لها الطريق، مثلما أنه لا نجاح بل ولا مستقبل للحركة الإصلاحية دون نخبة (أو نخب منسجمة) تسندها وتسعى إلى بلورتها وترجمتها في أرض الواقع الاجتماعي والسياسي. ولما كان ذلك كذلك فأن الحركة الإصلاحية لا تمتلك أسباب النجاح إلا متى اتجهت إلى الجذر والأساس، أي متى كانت رجوعا إلى الأصول ونظرا جديدا في الثوابت. فعلى أي أساس يكون ذلك النظر وبأي معنى يكون ذلك الرجوع؟
1. مقتضى الحال أن تكون المراجعة، فيما يتعلق بالثابت الأول (= الإسلام) بالنظر ثانية، أي إعادة النظر فيما يسمى في أدبيات علم الاجتماع بالحقل الديني أو، بالأحرى، تدبير الحقل الديني. وفي تدبير الحقل الديني جانب إداري محض، يرجع إليه أمر تدبير المساجد والمؤسسات الدينية وتنظيم المجالس العلمية الجهوية خاصة. لسنا إلى ذلك نهدف بإشارتنا هذه، وإنما الحديث عن إعادة النظر في تدبير الحقل الديني في المغرب يرجع، من جهة النظر التي تصدر عنها، إلى الأسلوب الذي يتعين سلوكه في إعداد العلماء في المغرب، علماء اليوم وعلماء الغد خاصة في ضوء الظروف التي أسلفنا الحديث عنها («اليوم» ومقتضيات الإصلاح)، وهذه أولا. أما ثانيا، وهي وطيدة الصلة بما تقدم، فهي وجوب إعادة الاعتبار لجامعة القرويين من حيث هي المجال الطبيعي والضروري لإعداد العلماء. سبقت مني أحاديث فيما يتعلق بالنحو الذي يلزم، من جهة النظر التي تصدر عنها، الأخذ به في إصلاح القرويين وفي العمل على بعثها في صورة جديدة. غير أني لضرورة العرض مع ضيق المجال، أختصر الحديث (حتى لا أقول أبتسره، إذ هو في الحقيقة يستدعي بسطا في الموضوع يستوجب الفهم) فأقول : ظلت جامعة القرويين، طيلة قرون عديدة تُؤَمِّن جملة من الأدوار والوظائف. الوظيفة الأولى سياسية محورية، هي وظيفة إتمام البيعة لأمير المؤمنين، ثم هي القيام بالمهام الاستشارية التي كانت تطلب منها بواسطة رسائل استفتاء توجه إليها من ملك البلاد قصد إبداء الرأي الشرعي في الأمور العامة التي تستوجب إبداء الرأي فيها. والوظيفة الثانية هي وظيفة إعداد الأطر العليا والمتوسطة للدولة في المغرب (القضاة، المحتسبون، العدول، الكتاب، الفقهاء، الوعاظ..)، وبالتالي فقد كانت القرويين تقوم بالأدوار التي تقوم بها اليوم مراكز الإعداد العلمي والجامعات. والوظيفة الثالثة وظيفة اجتماعية، إذ كانت الجامعة العتيقة مقصد الطالبين الذين يلتمسون الإرشاد ومعرفة الحكم الشرعي فيما يتصل بقضايا المعاملات والعادات الاجتماعية. والملاحظ أن جامعة القرويين أخذت تفقد تلك الوظائف الثلاث على التتالي منذ استعادة المغرب لاستقلاله : مع قيام الدستور والتنظيم القانوني الحديث والدقيق للحياة السياسية ما لم تعد الجامعة العريقة الوظيفة السياسية الكبرى التي كانت لها. ومع إنشاء الجامعة المغربية ومراكز الإعداد والتكوين المختلفة لم يعد في وسعها أن تواكب حاجة البلاد إلى الأطر في المجالات المختلفة التي تقتضيها الحياة الإدارية والعلمية والتجارية وما إلى ذلك.. وبالتالي كفت القرويين عن أن تكون مركزا لتكوين الأطر، فلا هي تمتلك الوسائل التي تمتلكه الجامعات ومراكز التكوين، ولا هي قادرة على التفرد بتقديم نتاج لا تملك الجامعات العصرية تقديمه. إن في الوسع، بسهولة تامة، إدماج كليتي الشريعة في قسم القانون الخاص من جهة وفي المعهد العالي لإعداد القضاة من جهة أخرى. وفي الوسع، بسهولة أكبر، إدماج كليتي اللغة العربية في شعب اللغة العربية وآدابها في كليات الآداب، وكذا إلحاق كلية أصول الدين بشعب الفلسفة طوراً (في جوانب من التكوين) وشعب الدراسات الإسلامية (في الجوانب الأخرى). وإذن فالجامعة العريقة تقف عند مفترق الطرق ليكون عليها الاختيار ? أو بالأحرى ليكون علينا أن نختار بين الإلقاء بها في المتحف، مع تحية الشكر والتقدير للجهود التاريخية التي بذلتها أو القول بأن مهام جديدة تنتظرها: مهام إعداد علماء المستقبل، بل والحاضر، حسبما يقتضيه الإعداد العصري من معرفة باللغات والمناهج العصرية.. بل، إن الحاجة أصبحت أكيدة لتخريج علماء من أقسام يدرس فيها العلم الشرعي باللغات الأجنبية مباشرة بالإضافة إلى التكوين الآخر الضروري والأصلي.
2. أما المراجعة الواجبة في حق الثابت الثاني فهي تتعلق بالممارسة السليمة للحياة السياسية الطبيعية أي تلك التي تتمثل في وجود المجتمع السياسي، في وجود الأحزاب السياسية. ويحدد الدستور المغربي (في صيغه جميعها) الوظائف التي يؤول إلى الأحزاب القيام بها مثلما يفرد بندا صريحا من بنوده لتحريم نظام الحزب الوحيد. ومن جهة أخرى، يقوم القانون المنظم للأحزاب بتفسير ممارسة الحياة الحزبية ومقتضياتها. لكن الحق أن خللا جليا يوجد في الأحزاب السياسية وفي الحياة الحزبية في المغرب، والحال أن هذه رافد قوي من روافد الحياة السياسية في المغرب وتجسيد للممارسة الديمقراطية.
ما مكامن الخلل؟ ما مظاهر الضعف في الحياة الحزبية؟ على أي نحو يلزم أن تكون الحركة الإصلاحية المطلوبة إصلاحا للخلل وقضاء على مواطن الضعف وأسبابه؟
لا يتسع المجال إلا للغة إشارية، تلغرافية، مع أن الحديث ذو شجون ؛ مع أنه يمسنا في الصميم المشهد الحزبي في المغرب يشي بضعف شديد، والأمارات على ذلك الضعف كثيرة وواضحة. أولها تدني المشاركة في الاستحقاقات التشريعية. وثانيها ضعف الأداء في المؤسسة البرلمانية بغرفتيها نتيجة تنامي ظاهرة الغياب المتكرر (يكاد يصبح غيابا بنيويا) عن جلسات المجلسين. وثالثها التراجع الشديد في أداء ومبيعات الجرائد الحزبية في المغرب، مقارنة مع الصحافة الموسومة ب «الحرة».
ضعف في الجماهيرية، ضعف في التأطير. أما الأسباب فعديدة ولكن الأساسي فيها يرجع إلى انصراف الحزب السياسي في المغرب عن الوظيفة الأساس الموكول إليه القيام بها : تكوين المواطن وصناعة الوعي السياسي. يبدو أن الجوانب التنظيمية، والحاجة إلى التلاؤم مع المقتضيات التشريعية لقانون الأحزاب في المغرب يصرف الحزب عن الهدف الأساسي. كذلك نلاحظ غياب الدراسات العميقة المتعلقة بمناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فلا جامعات موازية ولا مدارس للتكوين. تكتفي أحزاب الأغلبية بالتصفيق وإصدار بيانات باهتة في التأييد في المناسبات والشأن عند أحزاب المعارضة رفض واعتراض دون إجهاد للذات أو اجتهاد في صياغة ملفات مقنعة قادرة على بلورة مشاريع عملية بديلة.
الأحزاب السياسية في المغرب، الرافد الأساس للديمقرطية، ومدرسة الأداء الديمقراطي في حال من العطالة تستوجب إصلاحا يطال العمق ويشمل جوانب الحياة الحزبية برمتها (التساهل في إكساب صفة العضوية، عدم التردد في توقيع تزكية الترشيح لمن آنس فيه الحزب قدرة على الوصول إلى قبة البرلمان، ولاعتبار الوسائل والطرق، إذ النتيجة تشفع كل شيء والغاية، فيما نرى تبرر الوسيلة. شتان بين الممارسة الحزبية اليوم وتلك التي كانت عليها أحزابنا في السنوات القليلة التي أعقبت استعادة الاستقلال!
لست أريد أن أختم حديثي عن الحركة الإصلاحية الجديدة وحاجتنا إليها في المغرب اليوم بنظرة سلبية، لا بل إني أومن أن الإصلاح في العمق ممكن بقدر ما هو ضروري. هو ممكن متى خلصت النوايا وصدقت العزائم. البدء يكون بالرفض والانتفاض حتى يكون البناء الجديد على أسس صلبة.
نعم، في الإمكان التشوف إلى حركة إصلاحية جديدة قادرة على تحقيق النقلة المأمول الوصول إليها على أرض الواقع، حركة إصلاحية جديدة يقودها ملك البلاد، وتؤطرها الأحزاب الفعلية، وتشارك فيها النخب، ويكون فيها لنخبة المثقفين مسؤوليات وأدوار. حركة إصلاحية جديدة، سياسية، دينية، اجتماعية وثقافية. حركة إصلاحية جديدة لأنها تستوجب أن تكون حركة إصلاحية شاملة.
ذاك ما نحن في حاجة إليه، وذاك ما يستدعيه وجودنا في عالم اليوم : وطنيا وإقليميا وعالميا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.