من يٌماري بالقول إن الفسائل التي تفتَّقت واسْتَوْرقت من قاحل الرمال، ستطول ذات موسم نخيلا يشْرئِبُّ بسجوفه سامقاً أبعد من الصحراء؛ أبداً، لأنَّ نبتة النَّخل السحرية، كما الإنسان تماماً في سغب الحياة، مهما لامست الأعالي، تبقى وثيقة الجذور بالأرض؛ يكمن الفرق فقط في أن الإنسان يحمل هذي الجذور في سويداء الذات، حتى لا نقول في حقيبة السفر، أينما دب بالترحال في أصقاع العالم؛ ذلكم ما استقرأه «جان ماري غوستاف لوكليزيو» (نوبل للآداب عام 2008) في كتاب لا يفارقه مدى الحب مفتوحاً، لأنه بمثابة شريكة الحياة؛ إنها زوجته المغربية «جميعة العروسي» التي أصبحت تحمل إسم «جميعة لوكليزيو»، ذات الأصول الصحراوية من تخوم الساقية الحمراء؛ وإذ ينبري هذا الروائي العالمي بالقلم ليدير أسطوانة الحاكي عن السفر إلى مدينة الساقية الحمراء، نجد الحبر لا تسعه كل محابر العالم ليُكفْكف هائج الكلمات، التي يفيض بنوسطالجيتها «لوكليزيو» الناطق الروائي باسم زوجته «جميعة»؛ فقد امتشقا حفيف الشجر ليهمسا بالحديث عن هذا السفر إلى الساقية الحمراء منذ لقائهما الأول؛ لكن ظروف الحياة التي تتنهَّبُ الإنسان بما لا ينتهي من الانشغالات والالتزامات العائلية، جعلت هذه العودة تكاد تستحيل؛ لنقل ما أقرب الحلم من رمش الأعين؛ ذلك الحلم الذي يشاطئ قبيلة العروسيين التي لما تزل تنصب خيامها ذات الكرم، بأوتاد محفورة سحيقاً في ذاكرة «جميعة لوكليزيو»، لتسّاءل؛ أمازالت تحوطهم قطعان الجمال والماعز، وهل يدجنون دائماً النَّعامات؛ وكم كان عددالعروسيين؛ وهل تغيروا على مر القرون، منذ أن أسس سيدي أحمد العروسي القبيلة؟؛ لكم يقشعر التوق بجسدي «جميعة» ومتوج نوبل «لوكليزيو»، لسماع صدى الأسماء التي تعلمتها الزوجة بنت الساقية الحمرا من أمها، والأشبه بأسطورة قصية في الزمن؛ وهي الأسماء التي أخذت اليوم معنى مغايراً وحيّاً، مثل؛ النساء الزرقاوات، تجمعات الجمعة، الشّرْفا المُتحدِّرين من النبي (عليه السلام)، بالإضافة إلى آيت الجْمَلْ، وأهل المُزْنة الذين وَسَم «لوكليزيو» روايته بهم، فاندلقت تحت عنوان «أناس الغيوم» (دار ستوك الفرنسية عام 1997)؛ وقد جاء هذا الاسم ، «أهل المُزْنة» للتعبير بليغا عن أناس يعيشون على مطاردة المطر أنى سينهمر؛ هكذا وبوازع من الفتيل المستوقد في ديناميت الذاكرة، أسلمت «جميعة» و «غوستاف لوكليزيو» الخطى للسفر دون تفكير، إلى تخوم الصحراء المغربية المعترشة بنخيل الحنين؛ وهاهي سيَّارة الجيب تسابق هذا الحنين، دونما مشقة، فوق الطريق السَّوية للكعدة، وكلما انتهبت السيارة فراسخ في هذه الطريق المهجورة، يزداد تفكير الزوجين أدغالا؛ فيجدا نفسيهما يصعدان عبر تارودانت باتجاه السمارة، ليدنوا من مسقط رأس أو قلب «جميعة» التي لم تصدق أنها في حضرة ذلكم الوادي الذي أنضبته بقولها إنه عسير البلوغ؛ كما لو تنوجد في هذا الوادي (الساقية الحمرا) حقيقة السر الذي تكتنفه في جوَّانيتها؛ وما هذا السر سوى ألم الإغتراب الذي شطَّ بها قصيا في عالم عصري، لا يعرف معنى الخوارق والسرابات، وجمال شعوب الحجر والريح، وبلاغة الصمت في طروس الصحراء؛ هكذا اقتحم الروائي الكبير المدفوع بأشرعة الأنثى المضمَّخة بعطر الصحراء، البوابة التي عبرتها «جميعة» لتنفصل ردحاً من الشوق، عن عالم ما قبل ولادتها؛ ما الذي يترصَّع لؤلؤيا في مملكة الصحراء المغربية، إننا نرى؛ صخورا مسننة، شاطئا صخريا ضارباً للازرقاق، أودية، أخاديد طباشيرية، ركام أحجار سوداء؛ هنا السماء تندغم بالأرض؛ ويستمر «غوستاف لوكليزيو» في ثقب خرزات الكَلِم، ليرسمها في تشكيل بديع، قلادة حب، حول جيد الأنثى الصحراوية، الفاغمة بغواية التاريخ، ليسَّاءل: ما الذي يجدي أن نسافر ونوغل في السفر؟؛ سوى فهم ما أنت في شوق إليه؛ الوجه القديم، والنظرة العميقة والناعمة التي توشّج الطفل بأمه، ببلد ووادٍ؛ هنا كل أقانيم الطبيعة في الصحراء المغربية تبدو مألوفة؛ كل قطعة أرض، كل ظل، كل حصاة تطوحها الريح، كل شبح كثيب يلوح من بعيد؛ بل إن كل لحظة تفنى بالانصرام، تهجّجُ العاطفة، وتقص الحكاية؛ ليست حكاية فخمة عن غزو أو اكتشاف، ولكنها سردية رجل وامرأة لا تنفصم جذورهما الوالغة، عن أرض الصحراء؛ والبرهان الدامغ للرؤوس مهما تصخّرت، هو زوجة نوبل الآداب «جميعة لوكليزيو» التي عادت إلى وطنها بعد جيلين من الغياب، لتقتحم هذا الباب المشرْع دائماً أمام محبيه الذين يربون بعناية جذور البلد، كشرايين القلب: إنه باب الصحراء المغربية.. يقول الأستاذ «خالد الراز» في «AFlik.com»؛ إن «جان ماري غوستاف لوكليزيو» في كتابه «أناس الغيوم» قد امتشق أسلوبا غاية في التوازن؛ دقيقاً وجلياً؛ ليتناول أبسط حركات وتعابير الشعوب التي ينسرد في توصيفها؛ لنقرأ الذكرى كرواية، تتشذَّرها حكايات تاريخية مفيدة ولذيذة، تضع القارئ في مناخ استذكاري أكثر كثافة؛ لنقل إن تاريخ هذه الصحراء (الصحراء المغربية)، هو نسيج كل هذه السلوكات؛ سواء كانت شائنة أو بطولية؛ أسطورية أو من صنيع زمننا المعيش؛ إن هذا العرس الرمزي بين «جميعة» وأرضها الأصلية (الساقية الحمراء) أشبه بالرقصة في نفس المكان، مهما انزاحت جسدياً في جغرافيا الكون، أو استعارياً في الإبداع العالمي؛ رقصة بكل النبضات في قلب الساقية الحمرا...