كان الدكتور عبد الجليل بادو في كتابه (السلفية والإصلاح) هو الذي لفت نظري إلى هذا المقال الذي نشره علال الفاسي في سنة 1926، مما جعلني أطلب من الصديق يه، وينتصر للطرق وأصحابها، والإعلان مؤرخ ب 16 جمادى الآخرة عام 1344 (1925)، فتصدى للرد عليه الأستاذ محمد علال الفاسي، وهو الرد المنشور بجريدة (إظهار الحق) التي كانت تصدر بطنجة. (السنة الثانية، عدد 13 بتاريخ يوم الجمعة 4 رمضان عام 1344 موافق 19 مارس 1926) نشر المقال في الصفحة الأولى . كما تصدى للانتصار للكتاب أخو المؤلف الأديب الشاعر محمد بن اليمني الناصري، فألف كتاباً سماه : «ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار»، ونشرت جريدة (إظهار الحق) تعليقات مفيدة حول هذا الكتاب الثاني وكذا حول الكتاب الأول». فهل هذا المقال هو أول مقال نشر لعلال الفاسي؟. طرحت هذا السؤال على أحد العارفين بتراث الرجل، فنبهني إلى أن المقال الأول ربما كان قد نشر في مجلة (الشهاب) الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ومعروف أن علال الفاسي، وغيره من شباب الكتاب والأدباء المغاربة في تلك الفترة، كانوا ينشرون في (الشهاب). غير أنني وقفت في مقال منشور في عدد من مجلة (الأصالة) الجزائرية صدر بعد وفاة علال الفاسي (عدد 20/السنة 2/مايو-يونيو 1974)، على معلومة تفيد أن الزعيم نشر لأول مرة قصيدة بعنوان (واحسرتاه) في مجلة (الشهاب) في عدد (17-2-1927)، ثم نشرت في المجلة نفسها في عدد (24-3/1927) قصيدته الشهيرة التي تحمل عنوان (سيعرفني قومي) والتي تبدأ بهذا البيت الشهير : أبعد مرور الخمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب؟. فهل أغامر بالقول إن هذا المقال هو أول ما نشر لعلال في الصحافة بصورة عامة؟. إن اعتبارات كثيرة، منها أن عمر الكاتب لم يكن يتجاوز ست عشرة سنة، ومنها أن (إظهار الحق) هي المطبوعة الوحيدة التي كانت تصدر باللغة العربية حتى ذلك العهد في المغرب، ترجح هذا الرأي. يطالعنا علال الفاسي في هذا المقال البكر، بوجه العالم السلفي السمح الغيور على دينه الذي يتصدى للشعوذة وللمسخ الذي يلبس لبوس الدين. وهي سلفية مبدعة، متجددة، بانية وهادفة، تدافع عن صفاء الدين ونقاء الشريعة، وليست بسلفية مبتدعة، تنشر البدع وكل ما يتعارض مع صحيح الدين وجوهر الرسالة. وشتان بين سلفية علال الفاسي التي كانت القوة الدافعة المحركة للحركة الوطنية، وبين السلفية التي يحاول أصحابها تشويه الإسلام بها وإظهاره بغير مظهره الحقيقي. تلك السلفية التي تجنح إلى التشدّد والتزمت والتطرف، والتي تطغى مظاهرها في هذه المرحلة في عدد من البلدان الإسلامية، والتي تسيء إلى الإسلام الحق بغض النظر عن صدق النية وخلوص الطوية، لأن ذلك لا يكفي ما لم يكن في إطار العلم الصحيح والفهم الرشيد والإدراك الواعي لمقاصد الشرع، مع فقه مستنير للأولويات. من هنا تأتي أهمية مقال علال الفاسي الذي نرجح أنه أول مقال كتبه ونشره في الصحافة. يبدأ علال الفاسي مقاله الذي وقعه باسم (محمد علال الفاسي أرشده الله) بقوله تعالى : «.._لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين_. ثم يشرح الآية : «كانوا يسجدون للأصنام ويخضعون للأوثان ويفعلون أشياء لم ينزل بها الله من سلطان، فجاء ذلك النبي العربي ليخرجهم من ظلمات الجهل والشرك إلى نور التوحيد والعلم، وينقذهم من بحر الهمجية بإشراق شمس المدنية الحقة الثابتة الفرع والأساس». ويسترسل بعد ذلك : «بزغ ذلك النور المحمدي من بين الجزيرة العربية ومبدؤه الوحيد تخليص البشر أجمع من أشياء يأباها العقل والإحساس، ولم يزل ثابتاً على مبدئه ساعياً فيما يشيد ركنه لا يزعزعه عنه ما يلاقيه من أذى قومه ورميه بأنه ساحر ومجنون، حتى كان بعد أعوام قلائل دستوراً عاماً في جميع الأنحاء مشرقاً نوره على كل أحد، سبقت له العناية ولم تعمه حب الرياسة. ذلك المبدأ المحمدي هو الإسلام _وإن الدين عند الله الإسلام_. فما أجدر ببني آدم وهم المكرمون بالعقل، أن يكونوا مسلمين لا يشركون بربهم أحداً ولا يخضعون لسواه أبداً، وما أجدر المسلمين أن يتبعوا مبدأهم الشريف ويعرفوا معناه، فينقذون أنفسهم من عمى الجهل والتقليد. علم المسلمون أيام كانوا مسلمين، معنى ذلك المبدأ ونتائجه، فعملوا له وخدموه كل خدمة يطيقها البشر، فأصعدهم في عرش العظمة، وأوحى إليهم نور الهداية والرشاد، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم وعاشوا أفضل العالمين وأشرف المخلوقين. ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوه ونبذوه وراء ظهورهم واتبعوا من سلفهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فحرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا ما ذكروا به، فأهبطوا إلى أسفل سافلين، وعاشوا أحقر الجاهلين ومثل المقلدين، وذلك جزاء من أساء العمل ورضي الكسل ولا يظلم ربك أحداً. ذلك الخلق سواده الأعظم هو هؤلاء الطرق الضالة التي انتشرت في جل المعمور وأخذ المغرب الأقصى منها الحظ الأوفر، فوقفت عقبة كؤوداً في سبيل تقدمه وإحياء مجده. هنا أقف قليلاً ثم أثب أمام شيخ الإسلام بالرباط، سائلاً منه أن يسمح لتلميذ قروي لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، أن يناقشه في منشوره الذي فرقه مجاناً ونشرته جريدة (إظهار الحق) الغراء معتذراً عن الشيخ بأن الحامل له إنما هو حسن الظن الذي هو شروط القوم (شنشنة أعرفها من أخزم). يقول الشيخ إنه بريء من الموافقة على تلكم الوريقات المطبوعة (يعني إظهار الحقيقة) وليت شعري ماذا في تلكم الوريقات من الأشياء التي تخالف الإسلام حتى يتبرأ منها شيوخه!. ما الذي لا يوافق عليه الشيخ من تلكم الوريقات؟. لقد طالعتها مطالعة متأمل منصف، فلم أجد بها إلا دعوة الحق وإرشاداً إلى الصراط السوي صراط الله العزيز الحميد الذي لا يغفر أن يشرك به أو يخضع لغير عبوديته. هل إنكار الرقص حالة الذكر الجهري، وأول من فعله السامري حينما قام لعبادة العجل ولم يفعله أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أهل الاقتداء، بل دلت أصول الحنيفية السمحة على إبطاله كما أبان ذلك غير واحد من العلماء حتى معتمد الصوفية صاحب الإبريز رحمه الله، ويكفيك ما فيه من تهديم القبور التي حرم بعض الأئمة الجلوس عليها مطلقاً، زد إلى ذلك ترديد أصوات الغلمان المرد بأغاني مهيجة وأناشيد مذهبة عن الحضرة الإلاهية (إن لو كانت) إلى الحضرة الشيطانية؟. على أنه ينجم على ذلك الفعل الوحشي رزايا أبدية وأمراض رئوية لما فيه من سوء التنفس المؤدي إلى داء السل، كما بين ذلك السيد فريد وجدي في رسالته «بحث جديد في معالجة الأمراض» نقلاً عن جماعة من الدكاترة كفرانك وسلفستري ومارسال هال وغيرهم، وأولئك الأقوام أنفسهم يعرفون ذلك بيد أن رؤساءهم يقولون لهم موتوا على ذلك فإن من مات بالسل مات شهيداً، والعياذ بالله من الضلال. كل ذلك والشيخ يقول إن الأئمة حكوا الاتفاق عليه بعد الاختلاف فيه. وهنا أسأل الشيخ : من هؤلاء الأئمة؟. وما هي مقدرتهم في العلم ومكانتهم في الدين؟. وهل يتفق المسلمون على جواز بدعة محرمة بالشرع والعقل؟ هل إنكار تحلية المساجد وتزويقها، وذلك مما ينافي الإسلام، لأنه لم يكن في عهد أهل القرون الثلاثة. هذا محمد أصدق من نطق ينهانا عن ذلك ويحذرنا مفاجأة العذاب ونزول الدمار، ولكننا خالفنا تعاليمه المقدسة، فحل بنا الخسف والنكال، وأصبحنا ألعوبة بين الأمم، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى؟. هل النهي على ذلك أنه منكر؟ وقد قال تعالى : _ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر_. ألا يوافق الشيخ على أمثال القرآن؟ حاشاه من ذلك، إنما يقول لابد من الشروط الموجودة في قواميس الكسالى، تلك الشروط التي لا ينطبق عليها عقل أهل العقل الحر والبحث الصادق؟. أسمعتَ بربك أحداً من سلفك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة على نفسه؟ وليت شعري ما الأحق أن يخاف عليه : أدين الله الذي هو العاصم من الضلال؟، أم النفس الخبيثة التي تجر لمواقع النكال؟. هذا كتاب الله يقول : _وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك_ يأمرنا بالأمر والنهي، ثم يردف ذلك بأن يقول اصبر على مضض من الخلق يلاقيها الآمر الناهي. ثم نجبن من الامتثال معتذرين بما يبعدنا عن العزة والأنفة. أليس الله بكاف عبده؟. ألا إنما تلكم الشروط أفكار اصطلح عليها المتأخرون ليعتذر بها المقلدون أمام المصلحين، وقد أشار إلى ردها صاحب الفصل وصرح بذلك الأستاذ الإمام وهو الحق الذي أدين به الله سائلاً منه التوفيق. على أن من الشروط عندهم الإجماع. والحال أنه يوجد من لا يقول بإمكانه «راجع إرشاد الفحول» ترشد إلى الصواب. هذا ويقول الشيخ إن النهي عن هذا المنكر يجر إلى معاداة أولياء الله، وأقول له إن من يفعل تلك الأفعال المنافية للشريعة السمحة هو الذي يعادي الله ورسوله وأولياءه والناس أجمعين. حاشا أولياء الله أن يوافقوا على شيء مما يفعله هؤلاء الجهال أصحاب الأغراض السافلة أو يرضوا أن يقع بأضرحتهم شيء من ذلك، وهم الذين خصهم الله بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟. هذا ما حذرت منه تلكم الوريقات، وهل ترى بربك أن تتنسم شيئاً يخالف دين الله الذي مبدؤه إنقاذ البشر من المهالك التي أودت به. إنك لو نظرت إلى هؤلاء نظرة خاصة، لوليت فراراً، ولملئت منهم رعباً، وكنت من الباكين على دين الإسلام ومدنية القرآن؟. ترى أفرادًا نبذوا التعاليم الإسلامية والإرشادات المحمدية، وتحصنوا باتباع شيخ من أشياخ الوقت الذين همتهم في كسب الأموال، سامعين لمن قال ما تهواه الأنفس ويزينه الشيطان كالرقص والشطح وغير ذلك مما يأباه العقل السليم، ظانين أن تحصنهم مانعهم من الله ومن انتقامه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ألا وإن الإسلام، أيها المسلمون، ليس دين خرافات وأوهام وشطحات، وإنما هو دين الله والخضوع له وحده والتعبد له لا لغيره من المخلوقات، والنظر في وحدانيته من الطريق الكونية والعلوم والأسرار_فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون_ ودعوا اتباع أشياخ الوقت، فإنما هم دجالون طالما حذركم منهم نبيكم (ص). يا معشر المسلمين دعوا الخرافات والأوهام واتبعوا أمر القرآن وهدي النبي (ص)، فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وأصحابه. وأنتم يا أيها العلماء يا حماة الإسلام، يا أصحاب الغيرة، يا ذوي النجدة، يا أهل الشعور، ليس بأمانيكم ولا أماني أولي الأمر من الناس السكوت عن أمر حرمه الله تعالى وجلب علينا مضارًا تعرفونها، وسود وجوهنا بعد أن كانت بيضاء نقية. فانهضوا نهضة شهم غيور وقوموا ضد ما يخالف الإسلام قومة واحدة، وانصحونا وأنتم معنا، قبل أن يفوت الإبان وتفقدوا سلطتكم على العوام، فليس بكافيكم التحسر والبكاء والتأوه والنياحة». هكذا كتب علال الفاسي مقاله الأول سنة 1926.