كثر الحديث واللغط حول مفهوم الجودة في التربية، واتجهت الغالبية العظمى من المنظرين للجودة إلى كونها تعميما للتمدرس وتأهيلا جيدا للفضاءات التربوية وتحسينا ملموسا لمختلف جوانب الحياة المدرسية، بل إن أقصى ما يمكن أن نصل إليه من خلال إعمال آليات الجودة هو حصول تلامذتنا على معدلات عليا تسمح لهم بالانتقال إلى القسم الأعلى خاصة في الامتحانات الإشهادية. نحن مع تعميم التمدرس والبحث الجدي عن سبل الارتقاء بنتائج تلامذتنا في جميع المستويات والشعب، وخلال مراحل تدرجهم الطويلة من التعليم الأولي إلى التعليم العالي، لكن لا ينبغي النظر إلى الجودة بعيون تربوية تكوينية، فتلك إذن نظرة ضيقة لا تراعي الانفتاح على المقاربات الإبداعية والاجتماعية والتنموية، بل إننا سنظل سجناء مقاربة الكم دون النوع بالرغم من حماسنا الكبير في تسطير نوايا وإجراءات لتعميم التمدرس والقضاء على التسرب الدراسي والحفاظ على الزمن المدرسي. إن الحديث عن الجودة يرتبط بقوة بالمجهودات التي تبذلها الإدارة التربوية في التدبير والتنسيق من اجل الرفع من كفاءة المهنة التربوية والتكوينية، ومن أجل إعمال آلية التخطيط والتوجيه والمراقبة التربوية والمالية والمادية حتى نشق جميعا وبروح وطنية عالية مسالك تعليمية واضحة ومعبدة للنفاذ إلى سوق الشغل وتدبير عالم المال والأعمال لمواصلة الجهود المبذولة في بناء الاوراش الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي يعرفها المغرب الحديث. إن الحديث عن الجودة _ مرة أخرى _ يتطلب مجموعة من المقاربات الموجودة في صلب جهود التربية والتكوين ومجموعة من المقاربات التي توجد في المحيط العام للمجتمع لان جل المشاكل التي يعرفها قطاع التربية والتعليم ذات صلة باختيارات سياسية تغوص في عمق الماضي السحيق وبعراقيل سوسيو اقتصادية نسعى جميعا للتخلص منها والبحث عن حلول ناجعة لها. إن أهم مقاربة داخلية لتحقيق الجودة هي المقاربة التربوية الاجتماعية التي تعتبر التربية عملية تنشئة اجتماعية يحدثها الجيل الراشد في الجيل القاصر بهدف إدماجه داخل المجتمع عن طريق إكسابه بعض اللغات الحية ولغة التكنولوجيا والإحصاء، وعن طريق غرس القيم الفاضلة في نفسه وجعله يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وتزويده بطائفة من الآداب والعلوم قصد تهييئه للحصول على مهنة وإبراز كفاءاته.وبالإضافة إلى ذلك هناك مقاربتان تحومان في فضاء التربية والتكوين دون إن تسير في رحابهما، واعني بذلك المقاربة الإبداعية والمقاربة التنموية. لقد دعا الميثاق الوطني للتربية والتكوين _ باعتباره مرجعية صالحة للإصلاح ونصا متميزا _ إلى تنمية القدرات الإبداعية لدى التلاميذ، وسار على دربه البرنامج ألاستعجالي حينما شجع التميز والتفوق. ويمكن القول رغم ذلك إن المدرسة المغربية _ أو المدرسة عموما - لا تعلم الإبداع، ولكنها قادرة بالاستناد إلى نتائج البحوث في النظرية الإبداعية إلى إخراج القدرات الإبداعية من حيز القوة إلى حيز الفعل، بمعنى أن هذه القدرات الكامنة في حجر عقل التلميذ تظل نائمة خاملة إلى أن تخرج إلى حيز الوجود بفعل عامل خارجي يتمثل في التربية والتكوين، أي أن المدرسة المغربية مدعوة إلى تفتيق القدرات الإبداعية لدى التلاميذ من أجل تأهيلهم لخوض غمار التنمية الشاملة والمستدامة، واهم هذه القدرات هي الحساسية للمشكلات و الطلاقة والمرونة والأصالة و التنظيم و التخييل إذ بين ثنايا هذه القدرات العقلية ترقد الجودة ونحن مطالبون بإيقاظها وتفتيقها. إن أي نظام تربوي أو منهاج تعليمي لا يستحضر مستلزمات التنمية في محيطه لا يعتبر منتجا وفعالا، ولا يمكن أن يحقق الجودة المنشودة،إذ لا تكفي الأخلاق لخلق التنمية الشاملة المستدامة، ففي صولات نيتشهNitch الفكرية في (هكذا تكلم زرادشت) ألح على أن الناس الطيبين لا يصنعون الحضارة، فلابد للمدرسة من أن تزود المجتمع بمنتوج تربوي جيد نجده في الكفاءات العليا من العمال والتقنيين والمهندسين والأطباء وأصحاب الخدمات ورجال المال والأعمال ورجال التدبير المالي والإداري... إننا لا نروم في الجودة مقاربة الكم على حساب مقاربة النوع، ولا ينبغي أن نلهث وراء تعميم للتعليم وإقبال كبير على المدرسة من اجل تخريج ذوي الكفاءات المتوسطة والجهود المحدودة، نحتاج بإلحاح كبير إلى بذل جهود مبدعة خلاقة للحصول على العباقرة والنوابغ والأفذاذ والأذكياء في مختلف مجالات التنمية وفي كل تخصصات الآداب والعلوم وهذا هو صلب الجودة في التربية والتكوين، ورهان بناء مغرب قوي بأخلاقه وقيمه وأبنائه المبدعين الذين سيحولون بعون الله سطح ارض المغرب و بطنها وبحارها إلى أوراش تنموية كبرى، وسينقلونه إلى مصاف الدول الراقية. [email protected]