عناقيد من كرمة ابن هانئ و قطوف من دالية سرفانطيس هذه سلسلة مقالات و قراءات أدبية أندلسية اسبانية متنوعة خص بها جريدة « العلم « الكاتب السفير محمد محمد الخطابي التي بدأها في الشهر الفضيل ، يقربنا فيها من عالمين ليسا غريبين و لا بعيدين عنا ولا عن تاريخنا و ثقافتنا و تراثنا ووجداننا و هما العهد الأندلسي الزاهر الذي كان له صلة وثقى بتاريخ المغرب على امتداد العصور بحضوره الفعلي على أرض شبه الجزيرة الأيبيرية ، و إسهامه الوافر في بناء صرح حضارة مزدهرة أشعت على العالم في ذلك الإبان ،و أنارت دياجي الظلام في أوربا التي كانت غارقة في سبات التأخر و دهاليز التزمت و الجمود. والعالم الآخر هو الأدب الاسباني المعاصر الذي تربطه كذلك روابط شتى و صلات وثقى مع بلادنا بحكم الجيرة و الجوار و المعايشة و القرب الجغرافي و التاريخي المشترك الشيء الذي جعل للمغرب حضورا قويا متواصلا في هذا الأدب من خلال أعمال المبدعين و الشعراء و الكتاب و الروائيين و الرسامين الأسبان على اختلاف مشاربهم الأدبية و تباين أساليب إبداعاتهم على امتداد الزمن و العصور. ان سلسلة او حلقات « عناقيد من كرمة ابن هانئ و قطوف من دالية سرفانطيس « تؤكد لنا أن هذا الأدب سواء الأندلسي المغربي القديم أو الاسباني المعاصر هو مستوحى من معين واحد ،و قد تفجر و تفتق من ينابيع مشتركة و روافد متداخلة متشابهة و ان اختلفت لغاته و بلاغته طورا أو تباينت أساليبه و أغراضه أطوارا أخرى، ومافتئت العديد من النصوص و الوثائق و أمهات الكتب والمخطوطات والأشعار و الآداب التي أبدعها كتاب و شعراء و مؤلفون مغاربة أقاموا و استقروا أو ولدوا و ترعرعوا أو عبروا أو مروا بالديار الأندلسية إلى جانب المعالم التاريخية و المآثر الحضارية و العمرانية و القلاع الحصينة شاهدة على الإشعاع العربي و المغربي في هذه الأصقاع. كما أن الأدب الرفيع الذي لا يحيا ولا ينمو ولا يزدهر أبدا داخل حدود مغلقة يقف هو الآخر مشرئبا متعانقا شامخا بهامته على ضفتي البلدين الجارين اللذين جمع بينهما المصير حينا،و فرقت المصالح و الأهواء و المطامح حينا آخر. هذه الباقات و القراءات الأدبية المنتقاة لا جرم أنها ستعود بنا الزمان القهقرى لنستحضر بها و فيها و منها ماضيا تليدا ، و مجدا ضائعا، و تراثا نابضا حيا في زمن أضحى فيه الثنائي بديلا عن تدانينا ، و ناب فيه عن طيب لقيانا تجافينا ! عندما حصل شيخ المستشرقين الاسبان الراحل «اميليو غارسيا غوميس» في 22 مايو 1989 على أكبر جائزة وطنية تمنحها وزارة الثقافة الإسبانية سنويا في حقل البحوث التاريخية عن كتاب له حول قصر الحمراء بغرناطة. استقبل المستشرق الاسباني خبر فوزه بهذه الجائزة بالهدوء نفسه الذي استقبل نبأ حصوله عام 1988 على الجائزة العالمية مننديث بيلايو، حيث قال: «إنها مفاجأة لي كبرى، ذلك أنني لا أرشح نفسي أبدا للحصول على أي جائزة، إنني جد مسرور ومتأثر للغاية» الكتاب الذي حصل به على هذه الجائزة هو عبارة عن دراسة معمقة عن قصر الحمراء بعنوان: «بؤرة الضوء القديم على الحمراء». ويشير المؤلف إلى أن هذا الكتاب يأتي بمعلومات جديدة تتعلق ببناء الحمراء نظراً لعدم توفر نصوص عربية من قبل حول هذا الموضوع، ذلك أن معظم المعلومات التي في حوزتنا هي مصادر مسيحية ويرجع تاريخها إلى الفترة التي تلت خروج المسلمين من الأندلس. ويشير «غارسيا غوميس» إلى أنه قد عثر على مخطوط عربي في المكتبة الشرقية بجامعة ليدن يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر الميلادي وهو لابن الخطيب، وهذا المخطوط في شكل يوميات أو مراسلات، وتوجد نسخة منه في الرباط. من المعلومات المثيرة التي يتضمنها هذا المخطوط وصف لحفل أقيم في قصر الحمراء بالضبط في30 ديسمبر 1352، وبواسطة هذا الحفل اكتشف أوصافا دقيقة للحاضرين ومواقعهم في الحفل ونوع الأطعمة التي قدمت خلاله، والموسيقى التي صدحت لها جنبات القصر، والقصائد التي أنشدت، وقد شمل وصف ابن الخطيب كذلك المعالم التي كانت في طور البناء داخل الحمراء، لهذا فانه يمكن معرفة على وجه الدقة المعالم و البنايات التي كانت موجودة قبل 1352 والتي تم بناؤها بين 1352 و1375 وهو تاريخ الانتهاء من بناء الحمراء. ومن خلال هذا النص نكتشف كذلك أن البناء النصري (نسبة إلى بني نصر) لم يكن مقسما إلى غرف ولا مجزءاً، بل كان بناء متكاملا وموحدا، وكان يعتقد أن القصر كان يوجد في المكان الذي يسمى بغرفة التاج، في حين أنه كان موجودا في قاعة الأختين. إن الجديد الذي جاء به هذا الكتاب هو أن باباً رئيسا كبيرا للحمراء اتضح انه نقل من طرف الملك الاسباني كارلوس الخامس ووضع في قصره الذي يحمل اسمه حتى الآن وأنه فعل ذلك حفاظاً عليه من التلف لحبه وشغفه بالفن! سيرة ثرية ولد المستشرق «إميليو غارسيا غوميس» بمدريد في 4 يونيو 1905 ، درس الفلسفة والآداب في جامعة مدريد، وتخصص في مادة اللغة العربية، ثم واصل دراساته في كل من بغداد والقاهرة. وبدأ عمله في حقل التدريس الجامعي عام 1930 بعد أن أصبح أستاذ كرسي في مدرسة غرناطة للأدب العربي، وكان أول مدير لمدرسة الدراسات العربية بهذه المدينة، ومنذ ذلك التاريخ اعتبرت أعماله في حقل الدراسات الأندلسية ذات قيمة كبرى وأصبح يعد من أكبر المتخصصين في هذا المجال على المستوى العالمي. كما شغل منصب مدير معهد «مغيل أسين بالاثيوس» التابع للمجلس الأعلى للأبحاث العلمية، وأشرف على مجلة البحث الأدبي حول اللغة العربية وآدابها وهي مجلة «الأندلس». وهو حاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعات اشبيلية، وقرطبة، وبوردو، والجزائر، وكان عضوا للأكاديمية الملكية للتاريخ، والأكاديمية الاسبانية للغة باسبانيا، وعضو أكاديمية المملكة المغربية، ومجمع اللغة العربية في كل من دمشق و القاهرة. من أشهر أعماله: « قصائد عربية أندلسية» التي أعيد طبعها عدة مرات منذ نشرها للمرة الأولى عام 1928. من أعماله كذلك: «خمسة شعراء مسلمين» و«الخرجات المستعربة واليهود في الأندلس» وتحقيقه لعدة مخطوطات أندلسية وترجمته لكتب مهمة منها: «طوق الحمامة» للفقيه ابن حزم، وكتاب «رايات المبرزين وغايات المميزين» لابن سعيد. من أعماله كذلك: نص عربي غربي حول «أسطورة الاسكندر» و«القصيدة الأندلسية» و«كسوف الشعر في اشبيلية» و«عهد الموحدين» و«اشبيلية العربية» و« مشاهد أندلسية جديدة» و«الحمراء: المنزل الملكي» وكتاب حول «أبي عبد الله آخر ملوك بني نصر» الذي يعد مصدرا مهما لتاريخ اسبانيا المسلمة. يصف أحد الكتاب الاسبان الكبار «غارسيا غوميس» انه « من أكثر الناس الذين عرفهم موهبة و عطاء ». في العام 1985 احتفى «اميليو جارسيا غوميس» بمرور خمسين عاما قضاها في دراسة حمراء غرناطة التي أخذت بمجامعه بنشره لكتاب مثير و طريف تحت عنوان: «قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء». إن الحمراء تضم بين أرجائها خاصية مميزة ومحيرة بكونها تعتبر «ألبوما» شعريا لثلاث و ثلاثين قصيدة تنتمي لشعراء معروفين أو مجهولين، مكتوبة بلغة شعرية على المرمر المصيص الخالص على الخشب في جدرانها وينابيعها ونافوراتها، وهي تكون بذلك في دقة و انسجام رائعين صنفاً من الأصناف الأدبية التي يمكن أن نطلق عليها بالشعر المنقوش كتابة. إن القصائد التي تنمق الجدران و النافورات والحيطان توجد في المشور وساحة الأُسود والأبراج وفي جنة العريف، هذا التنظيم الطبوغرافي هو الموجود في الكتاب. وبطبيعة الحال فإن التركيبات ليست تصويرية في شكل واقعي ذلك أنه لو اختفت الحمراء فرضا فانه سيكون من غير الممكن الاقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد. ويتساءل الكاتب: ما هي قيمة هذه القصائد في حد ذاتها. ويبرز بشكل خاص القصائد التي توجد في قاعة «الأختين» ل(بيت الأسد)، أن «ابن زمرك» هو الغسق اللماع الآيل للغروب للقصيدة العربية الأندلسية التي كانت ولا تزال تحتفظ بجمالها ورونقها في عهده، إلا أن مجموع هذه القصائد تشكل جمالية مركبة لا يمكن فصلها عن الإطار الذي توجد فيه. ويشير الكاتب إلى أننا نعرف أن هذا الديوان لم يكن مكتملا كمجموع عضوي. وأن أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء العرب الأندلسيين التي كان المستشرق غوميس قد نشر بعضها في «مجلة الغرب» عام 1928. ولكي يتبين للقارئ الكريم مقدار ما يتسم به المستشرق الكبير «إميليو غارسيا غوميس» من عمق وخصوبة و قوة، بل ولكي يتضح لنا المستوى الذي تتميز به أعماله وترجماته نورد بعض النماذج الشعرية التي نقلها فيما بعد إلى اللغة الاسبانية في كتابه القيم «أشعار عربية على جدران ونافورات الحمراء» الصادر عن المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد .