كان المفروض في حديث اليوم أن نواصل الكلام عن المرحوم العلامة عبد الله كنون، ولكن آثرنا ان نخص حديث اليوم لذكريين مهمتين هما: ذكرى غزوة بدر التي ستحل غدا (السبت) السابع عشر من رمضان حسب رؤية المغرب لهلال رمضان واليوم (الجمعة) حسب رؤية غير المغرب للهلال، أما الذكرى الأخرى فهي ذكرى إعدام الشهيد سيد قطب التي تحل يوم الأحد المقبل 29 غشت، إذ في مثل ذلك التاريخ من سنة 1966 علق الرجل المجاهد والعالم المفكر، والشاعر المبدع والداعية المومن على أعواد المشنقة فلفظ أنفاسه وهو موقن ان الله يجزي الناس على أعمالهم إن خيرا فخير وان شرا فشر. وعلى أي حال فمن خلال النص المقتبس يظهر مدى إيمان الشهيد بأن الأمر كله لله وان الإنسان ليس له من الأمر شيء. من شب على شيء شاب عليه لست أدري أهذه العادة التي نشأت عليها منذ بدأت أقرأ وأكتب أهي عادة وسنة حسنة أو هي غير ذلك، وعلى أي حال فقديما قيل (من شب على شيء شاب عليه) وهو كذلك بالنسبة لي شخصيا، لقد نشأت منذ البداية كما قلت على الاعتزاز بالشخصيات ذات اثر علمي أو أدبي أو دور تاريخي، وكذلك بالأحداث الكبرى في التاريخ وهكذا كنت صحبة أصدقاء نقيم ذكريات لمشاهير الأدباء والمفكرين ونجهد أنفسنا لاختيار بعض إنتاجهم وقراءته ومدارسته، وصار هذا طبيعة وعادة أو سنة لا تزال متحكمة في قراءاتي وبعض ما اكتب، وهكذا أجد نفسي في كثير من الأحيان أسيرا لهذه العادة، وصرت أفرضها -ان صح التعبير- حتى على الذين يسوقهم القدر لقراءة ما أكتب، فلا أكاد اخرج من ذكرى حتى أجد نفسي مسوقا للحديث عن ذكرى أخرى وهكذا دواليك. ولعله يطرح هنا سؤال لماذا هذه المقدمة ولأي شيء تمهد في حديثك هذا الذي تسوده كل يوم جمعة منذ التزمت مع بعض قراء «العلم» الذين يستهويهم أن يقرأوا أو على الأقل أن يطلعوا على هذا الحديث الذي التزم خطا تحريريا معينا لا يكاد يخرج عنه. مغزى اليوم السابع عشر من رمضان أقول هذا لأنني عندما أمسكت القلم لأخط ما أخط تساءلت أين نحن من شهر رمضان المعظم؟ فكان الجواب أننا على مقربة من السابع عشر منه بل يوم الجمعة هو السادس عشر منه ولهذا اليوم في تاريخ المسلمين ذكرى وأي ذكرى؟ بل له في تاريخ الإسلام أكثر من ذكرى ويرتبط بأكثر من حدث، ولكني الآن أجد نفسي مشدودا إلى ذكرين مهمين في هذا اليوم من رمضان، أحدهما كان حدا فاصلا بين تاريخين تاريخ اضطهاد المسلمين وتغريبهم عن ديارهم وأهليهم وممتلكاتهم، وتاريخ انتصارهم على عدوهم الظالم، انه اليوم الذي اسماه القرآن الكريم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. أما الحدث الآخر، فهو ذلك الحدث المشؤوم الذي أقدم فيه رجل شقي على اغتيال الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هذا الإنسان النموذج في إيمانه ووفائه وجهاده وعدله وبلائه البلاء الحسن في الدفاع عن العقيدة والذي كان له دور في ملاحم الإسلام الكبرى انه تاريخ يذكر بمآسي هذه الأمة التي انطلقت منذ تلك المرحلة، مرحلة معركة صِفين. نصيحة ابن أبي زيد وهذا التاريخ في الواقع اعني صِفين وما بعدها إلى السابع عشر من رمضان في تلك السنة انا واحد من الذي يأخذون في شأنه بنصيحة الفقيه ابن أبي زيد القرواني في رسالته حيث قال _والإمساك عما جرى بينهم افضل، فأنا أتمسك بهذه الأفضلية التي أرشد إليها ابن أبي زيد رحمه الله لأن ذلك من التاريخ الذي مضى والأفضل من نبشه واجترار مشاكله العملُ على توحيد كلمة المسلمين وصفهم في مواجهة أعدائهم وخصومهم، وهذا يفضي بنا إلى العودة إلى التاريخ الأول الذي حصل قبل ذلك بما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان. انه تاريخ وذكرى غزوة بدر الكبرى. من مزايا بدر ان هذه الذكرى ترمز في حياة المسلمين ليوم أصبح فيه الإسلام قويا عزيز الجانب وأصبح فيه المسلمون قوة مؤثرة وفاعلة في محيطها العربي وكان قنطرة لتأثيرها على المستوى العالمي والإنساني كان يوما اعز فيه الله دينه وأيد جنده ونصر عبده وهزم فيه الكفر والضلال وحده. انه يوم الملحمة، يوم يرمز إلى كل القيم والمبادئ التي قامت عليها الدعوة الإسلامية والتي أسست عليها حضارة عظيمة ملأت الدنيا عدلا وعلما ونورا وهداية لا تزال مضرب المثل حتى اليوم. لقد كانت غزوة بدر من الوجهة الحربية تملك كل مقومات الروح العسكرية الصادقة وكانت القيادة فيها قيادة متميزة بكل ما توحي به وتتضمنه الكلمات من معنى، فلم يكن القائد متميزا ولا مستبدا ولا متغطرسا ولكن كان لين الجانب يرفق بأصحابه وجنده، ويحنو عليهم أكثر من حنوهم على أنفسهم، وهو حريص عليهم وهو بهم رءوف رحيم، فالقائد لم يكن فظا ولم يكن غليظ القلب وإلا لانفض الناس من حوله ولكنه كان ذا خلق عظيم في سلمه وحربه فهو رسول الله وخاتم أنبيائه ورسله. اشيروا علي أيها الناس ومن فيض هذه الأخلاق في هذه المعركة انه وقف بين أصحابه وجنده مناديا أشيروا علي أيها الناس فينبري أحد الجند قائلا: امض لما أمرك الله فوالله لن نخذلك ولنقول لك ما قالت اليهود لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون ولكننا نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون« انه جانب من هذه الجلسة التداولية الاستشارية قبل المعركة ولكن الجانب الآخر هو ان يختار موقعا فيأتي السؤال من الجند أو هو منزل انزلكه الله أو هو حرب ومكيدة؟ فقال بل حرب ومكيدة فأشار هذا الجندي إشارة بأن الحرب والمكيدة يقتضيان تغيير المكان وهكذا كانت هذه المعركة مهيأة بكل ما يلزم من معنويات الجند وكفاءة القائد وأخلاقه العالية وإخلاص الجيش وارتفاع معنوياته وإصراره على القتال والنصر. بين السلطة والعلماء ولاشك أن هذا اليوم وهذه الذكرى من أهم ما يحتفل به والتذكير به لأن التذكير به هو تذكير بأيام الله التي جاء الأمر القرآني بالتذكير بها. (وذكرهم بأيام الله). الحدث المشؤوم هذا من حيث هذه الذكرى وهذا اليوم العظيم، ولكنه جاء متزامنا هذه السنة كذلك في التقويم الميلادي مع ذكرى من ذكريات الأيام المرفوضة والمناقضة لقيم ومبادئ اليوم الأول السابع عشر رمضان فهو يوم يرمز إلى طغيان السلطة وجبروت الحكم وعدم الاكتراث بالرأي العام الوطني أو الإسلامي أو الإنساني ان يوم التاسع والعشرين من غشت عام 1966 يمثل يوما قاسيا في صراع الفكر مع السلطة وفي صراع العلماء مع الحكام، فهو يوم التف فيه حبل المشنقة على عنق داعية من أبرز الدعاة الذين عرفهم العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين فهو انسان قضى أزيد من عقد من الزمان في السجن وهو في صراعه مع قيود الاعتقال وأغلال السجن والزنازن وأسرة المستشفيات، في صراع مع الأمراض الناتجة عن تلك الأغلال والقيود، كان القلم السيال والفكر الوقاد يخطان صفحات الظلال ومعالم الطريق، كان إنسانا يومن بأن الأجل بيد الله وأن دوره هو في تحريك السواكن في عالم يراد له أن يستكن. الشهيد والحضارة كان يعرف أن دوره إيقاظ النّوم في عالم هيأ له خصومه أسباب النوم الحضاري والعلمي والثقافي، كان يومن ان دوره في حشد الطاقات وتحفيز الهمم في سعي متواصل لبناء مجد جديد ينتمي في أصوله ومنابعه وقيمه وأسسه إلى حضارة يوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، انه الإنسان الذي آمن بأن الحضارة الإنسانية الحالية لا تملك من مقومات الروح ما يجعلها تسعف الإنسان وتسعده فسعى إلى إحياء حضارة تجمع بين ما ينشده الإنسان السوي من قيم ومثل كان يؤمن ان الحضارة القائمة حضارة بدون معنى فأراد أن يعطي لهذه الحضارة معنى يليق بالإنسان وما حققه من تقدم، كان يومن أن ما يكتبه العلماء والفلاسفة والمفكرون في الغرب ينعون فيه هذه الحضارة وما آلت إليه من إفلاس وما تهيئ له الإنسانية من مصير مجهول في عالم تتنافس فيه القوات على اكتساب أسلحة الدمار والفناء ان من واجبه ان يسهم في توضيح الرؤية للإنسانية حسب فهمه وإدراكه للرصيد الروحي والفكري والعلمي الذي تملكه حضارته وعقيدته المستمدة من الإسلام. مشكلات الحضارة ومستقبل الدين لقد درس مشاكل الحضارة الإنسانية ودرس حلولها من خلال ما يقدمه الإسلام من حلول، وكان بسبب ذلك يرى أن المستقبل لهذا الدين وإذا كان المستقبل لهذا الدين كما آمن وكما كان يكتب خصومه العقديون في الغرب، فبقدر ما كان يسعى ان يجعل النبوءة بالمستقبل المزدهر والحضارة لهذا الدين بقدر ما كان خصومه يسعون ليلا يكون المستقبل لهذا الدين، ولكنه ان يكون المستقبل في العالم الإسلامي مستقبل العدمية ولا شيء غيرها، كان يدرك المؤامرات ويدرك ان الهدف هو تَوَهَانُ الأمة وضياعها وأن خصومها في الداخل أكثر اندفاعا بوعي أو بدون وعي نحو هذا الهدف ولذلك كان يحمل راية الإشارة إلى الخطر، ويحمل علم معالم الطريق المستمد من الظلال، وكان خصومه له بالمرصاد. لقد كانت الساحة في العالم الإسلامي آنذاك كما لا تزال ميدان صراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة التغريبية العلمانية، وكانت وسائل الإعلام في بلده في يد خصومه وحتى تلك الوسائل التي حاولت ان تتصدى ولو بأضعف الإيمان تصدى لها أولئك الخصوم، فهذا محمود شاكر يعتقل وهذا حلال كشك ينفي وهذه مجلة ستوقف وصحفي يُسجن ويعتقل لأن التيار السائد والمفروض هو تيار لا يقبل بوجود الفكرة الإسلامية ففي نظره هؤلاء يسعون لتأسيس حلف رجعي لمقاومة المد التحرري الاشتراكي. رغيف الخبز وكرامة الإنسان وكان هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون ان هؤلاء الذين يضطهدونهم ويعتقلونهم رحلوا من دار الفكر الاشتراكي الزائف إلى قناعة إيمانية حضارية، فهذا الإنسان كتب العدالة الاجتماعية وكتب الصراع بين الإسلام والرأسمالية ودعا إلى الحرية المبنية على رغيف الخبز وكرامة الإنسان غير أنه في الأخير أدرك أن القائمين على الأمر ليس هذا توجههم ولكنهم يتوجهون بالأمة إلى الهاوية: ومع الأسف فقد تحققت التخوفات وقاد القوم الأمة إلى ما لا تزال تعيشه الآن وتجر أذياله من هزائم منكرة وتخلف في جميع الميادين، وذهاب روح النخوة والعزة والكرامة التي كان أولئك في تلك المرحلة يروجون لها في سوق الشعارات بدون معنى وبدون سند علمي أو حضاري، إذ كانت النتيجة السقوط في أول امتحان، وكانت هزيمة عام 1967 التي لا تزال مستمرة إلى الآن، وكأن الأقدار أرادت لهذا الإنسان أن يغادر الدنيا شهيدا وان لا يرى ولا يصدم بهذه الهزيمة وبقيت كتبه ومقالاته وإنتاجه شاهدة على صدق نبوءته وصدق ما كان يدعو إليه فكان ما كان مما لا يزال مثار نقاش وجدال حتى الآن. الشهيد ومكانته في الحركة الإسلامية لاشك أن القارئ الكريم يدرك من خلال القراءة أنني أتكلم عن الشهيد (سيد قطب) الذي خلف تراثا فكريا عظيما أهمه تفسيره المتميز في (ظلال القرآن). ولاشك كذلك أن القارئ إذا كان متتبعا لمصير الحركة الإسلامية المعاصرة بعرف مكانة الرجل في هذه الحركة ويعرف كذلك الأصداء الكثيرة التي خلفها إعدامه ويعرف كذلك ان فكره وجهاده حاول البعض تشويهه وتوظيفه في كثير من الأشياء التي لم يكن يريدها ولا يسعى لها ونحن في هذه الذكرى لا نسعى للدفاع ولا للتبرير وإنما من أجل التذكير و اما مناقشة فكر الشهيد وما حام ويحوم حوله فقد سبق الكلام حوله في حوالي عشر مقالات نشرتها على أعمدة صحيفة «العلم» في مناسبات سابقة والذي أريده اليوم من خلال الحديث عن ذكرى غزوة بدر وذكرى استشهاد سيد قطب هو الربط بين الذكريين بإعادة نشر بعض ما كتبه الشهيد حول الذكرى العظيمة في تاريخ الإسلام والمسلمين غزوة بدر. الجهاد والسلام لقد تناول الشهيد الجهاد والسلم في كتاب مستقل هو:(السلام العالمي والإسلام) كما تناولهما في مختلف أجزاء كتابه في ظلال القرآن تبعا للآيات القرآنية التي تتناول الجهاد والسلم وموقف الإسلام والمسلمين منهما. وإذا كانت سورة الأنفال سورة تكاد تكون مخصصة بالكامل لغزوة بدر والتي سبق لي شخصيا أن تناولت استيحاء معانيها من خلال الومضات التي نشرتها في العلم خلال رمضان سنوات 2005-2006-2007 وجمعتهما في كتاب فإنني سأستحضر هنا ما كتبه الشهيد في كتاب: (الظلال) عند تفسير قوله تعالى: »ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة الآيات«. إن الله هو الذي نصرهم، ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات. وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة، والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر، وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحي صورتها في حسهم، كأنهم اللحظة فيها: »إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم آلاف من الملائكة مسومين«.. وكانت هذه كلمات رسول الله _صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، للقلة المسلمة التي خرجن معه، والتي رأت نفير المشركين، وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر، لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول _صلى الله عليه وسلم- ما بلغه يومها ربه، لتثبيت قلوبهم وأقدامهم، وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى، الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) .. فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه ، وأن الفاعلية كلها منه _ سبحانه _ وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ؛ لتأنس بهذا وتستبشر، وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة، ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة : (وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) .. قاعدة رد الأمر إلى الله وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله، كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصلية: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة، وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق به ما تريده (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) .. وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي، وعلى تنقيتها من كل شائبة، وعلى تنحية الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط .كما هي في عالم الحقيقة .. وبمثل هذه التوجهات المكررة في القرآن، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد، استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين، على نحو بديع، هادئ، عميق، مستنير. عرفوا أن الله هو الفاعل وحده، وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف فاستيقنوا الحقيقة وأطاعوا الأمر في توازن شعوري وحركي عجيب. ولكن هذا إنما جاء مع الزمن ومع الأحداث ومع التربية والأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث.. كهذا التعقيب، ونظائره الكثيرة، في هذه السورة.. وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول صلى الله عليه وسلم يعدهم الملائكة مددا من عند الله، إذ هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل من وراء نزول الملائكة وهو الله. الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته. ويتحقق النصر بفعله وإذنه. »الله العزيز الحكيم«.. فهو »العزيز« القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر، وهو »الحكيم« الذي يجري قدره وفق حكمته، والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة.. ثم يبين حكمة هذا النصر.. أي نصر .. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء: »ليقطع طرفا من الذين كفروا. أو يكتبهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم. أو يعذبهم فإنهم ظالمون«. النصر لتحقيق قدر الله إن النصر من عند الله. لتحقيق قدر الله. وليس الرسول صلى الله عليه وسلم ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه، ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله، وبالتأييد من عنده لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: »ليقطع طرفا من الذين كفروا«.. فينقص من عددهم بالقتل، أو ينقص من أرضهم بالفتح، أو ينقص من سلطانهم بالقهر، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة! »أو يكبتهم فينقلبوا خائبين«.. أي يصرفهم مهزومين أذلاء، فيعودوا خائبين مقهورين. »أو يتوب عليهم«.. فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم، فيتوب عليهم من كفرهم، ويختم لهم بالإسلام والهداية.. »أو يعذبهم فإنهم ظالمون«.. يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم. أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزا لهم على ظلمهم بالكفر، وظلمهم بفتنة المسلمين، وظلمهم بالفساد في الأرض، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله. وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس منها شيء.. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده سبحانه فهو شأن الألوهية المنفردة بلا شريك. الذهو بالانتصار بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا. وبذلك يرد أمر الناس طائعهم وعاصيهم إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي صلى الله عليه وسلم وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج، وأجرهم من الله على الوفاء، وعلى الولاء، وعلى الأداء. وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: »ليس لك من الأمر شيء« فسيرد في السياق قول بعضهم: »هل لنا من الأمر شيء؟«.. وقولهم: »لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلناها هنا«.. ليقول لهم: إن أحدا ليس له من الأمر من شيء. لا في نصر ولا في هزيمة. إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله. ليس لأحد منه شيء. ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصلية في التصور الإسلامي. وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث، وأكبر من شتى الاعتبارات.. إن الشهيد رحمه الله في هذه المصاحبة للآيات الكريمة يوحي كلامه ومصاحبته بشيء من الجبرية وسلب الإرادة الإنسانية قدرتها على الفعل، وهذه قضية من القضايا الكبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين وفي تاريخ الفكر الإسلامي. ولكنه عندما نربط مواقف وتحاليل واستنتاج الشهيد في مختلف الآيات الكريمة ونربط بعضها ببعض ندرك أن الجبرية وسلب الإرادة الإنسانية سلبا مطلقا ليس واردا في فكر الشهيد ، ولكنه مع ذلك فإن خصومه الفكريين يتصيدون مثل هذه المواقف والاستنتاجات فيحكمون على الرجل وإنتاجه ومواقفه حكما هو مبني على بعض الجزئيات وليس بالنظر لمجموع ما كتب وما استنتج وحلل. وعلى أي حال فإن غايتنا من هذا الاقتباس هو الاستنارة بفكر الرجل وفهمه لأحداث هذه الذكرى العظيمة ذكرى غزوة بدر الكبرى وفي نفس الوقت نرجو الله أن يتقبل منه وان يعمنا وإياه بفضله إنه ولي ذلك ومولاه.