شكلت مرحلة النفي التي تعرض لها المرحوم الزعيم علال الفاسي، فترة قاسية في حياته إذ كان إبعاده عن الوطن وقضاياه أمرا عز في نفسه. خصوصا وأن العالم في فترة النفي 1937 1946 كان يعيش الحرب العالمية الثانية. التي ضربت بقساوتها كل شعوب العالم سواء المشاركة في الحرب أو المساندة لهذا الطرف أو ذاك وحتى التي لم تشارك في هذه الحرب لكنها تضررت من جراء ويلاتها. والزعيم علال الفاسي حمل معه هموم الوطن والشعب، وهموم الحرب، وكان إبعاده محاولة من فرنسا للتخلص منه ومن رفاقه الذين أشعلوا نار الثورة على المستعمر. لكنه في منفاه لم يقف مكتوف الأيدي، ولم يخل باله عن الانشغال بقضايا التفكير في الوطن أرضا وشعبا. وقد دون مرحلة المنفى في كراسة جمعت بين المذكرات اليومية والقصائد الشعرية والرسائل وعمل الاستاذ المرحوم عبدالرحمان الحريشي مدير مؤسسة علال الفاسي على إخراجها في كتاب خاص »في منفى الكابون«. مجهودات الزعيم المرحوم علال الفاسي في منفى الكابون لم يكن التطور الذي طرأ على إخواننا في المغرب إلا نفس ما أدركته في مواجهة الحقيقة وأنا في منفاي القصي بالغابون ثم بالكونغو من أفريقيا الاستوائية الفرنسية، فبالرغم من النظام الضيق الذي وضعت فيه، وبالرغم من أنني ظللت مدة اعتقالي كلها في بعد عن كل اتصال بالحياة العامة وأخبارها، وفي منع كامل من الاجتماع بالناس وقراءة الصحف والاستماع للإذاعة، بالرغم من كل ذلك فإن اتصالي المعنوي بروح التطور الوطني في البلاد ظل قويا فعلا، ولقد فكرت في أن الحركة المغربية بعد أن بعثت الوعي القومي في نفوس الناس يجب أن تعمل بكل قواها للحصول على الاستقلال، وأن تصرف جهودها وتحصرها على هذا الاستقلال، لأنه وحده الذي يفسح المجال للنهوض بأمتنا وتحريرها مما وقعت فيه من فقر وجهل ومرض، وكنت أعود بنفسي إلى تاريخ الحماية وسياستها فأحس بأن نظامها لم يكن إلا حجر عثرة في سبيل تقدم المغرب والتطور الشعبي الذي بدأ منذ ستين عاما، ولذلك ظللت أبحث عن الوسائل التي تهيئ لي في ظروفي العصيبة الفرصة التي أعلن بها رأيي، وأقفز بالحركة معها إلى المدى الذي أريده لاستكمال القضية المغربية وإنجاحها. ولقد فكر الجنرال نوجيس في كل شيء، ولكنه لم يفكر أبدا في أن منفى الغابون أو الكونغو سيكون مجالا للقيام بحركة تحريرية لفائدة البلاد، ولقد بعثني لهذا المنفى القصي وهو لا يعتقد إلا أنه قد دفنني على الأقل إلى أمد طويل، ولم يخطر بباله أبدا أنني سأتيح لنفسي الفرصة التي أطالب فيها بالحق، وأعمل لوطني في وقت اشتدت به وطأته القاسية على الوطنيين، وحالت بينهم وبين أي عمل علني في سبيل البلاد. والحق أنني منذ اعتقلت حتى إعلان ثورة دي جول لم يكن بالممكن لي أن أقوم بأي عمل إلا الاحتجاج على سوء المعاملة، والمطالبة بحقوق المسجون السياسي، وما يقع في مناقشاتي العادية مع الضباط الذين كانوا يتعاقبون على حراستي، ولكن الهدنة الفيشية وثورة الجنرال دي جول أتاحتا لي سبيلا لرفع صوت المغرب وبذل مجهود متواضع في خدمته. وفي شهر يوليه سنة 1940 احتلت جيوش دي جول قرية مويلا الواقعة في جنوب الجابون وهي مقر اعتقالي منذ نوفمبر سنة 1937 الى يونيه سنة 1941 وسارت في طريقها لمهاجمة العاصمة الجابونية (ليبرفيل أو المدينة الحرة)، وعينت الولاية العامة رئيسا للعمالة الكومندان روجي أحد العسكريين الفرنسيين الذين يهتمون بالسياسة الإسلامية، وقد انقطعت الصلة مع المغرب وسائر الشمال الافريقي لأن ولاته ظلوا في تضامنهم مع الماريشال بيتان، وذهب ليوتنان شوفالانجير الذي كان مكلفا بشئوني من طرف الإقامة العامة لينضم للثوار الجوليين، وبقيت تحت نظر ولاة افريقيا الاستوائية وافريقيا الاستوائية في هذا العهد مركز الالتجاء الفرنسي وتنظيم المقاومة للاحتلال الألماني، وبرازافيل هي العاصمة التي حلت مؤقتا محل باريس وإليها يلتجئ دي جول كلما ضاق بمعاملة الانجليز والحلفاء له في لندن. وكانت السياسة التي اتبعها ولاة افريقيا الاستوائية مع الأوروبيين الموجودين بها هي دعوتهم للانضمام إلى دي جول وإمضاء رسالة تأييد له، أو الاعتقال في أماكن خاصة بأنصار فيشي، وهكذا دعاني ذات يوم الكومندان روجي وتحادث معي مليا في الشؤون الحاضرة، وبشرني بأن الحال سيتبدل، وأن الثورة الجولية ستعمل عملها في قلب السياسة الاستعمارية الفرنسية، وطلب مني أن أكتب للولاية العامة برأيي في موضوعها، فتملصت من الموقف، وقلت له يمكنك أن تكتب بنفسك وتخبرهم بأني كرئيس للحزب الوطني لا أريد إلا الوصول لما يصبو إليه الحزب من تطور وتحرير، ومضت أيام كتب فيها الكومندان روجي للولاية العامة وسافر لبرازافيل ثم عاد فقال لي كلاما يدل على أنه لم يجد في الولاة المحليين نشاطا واستعدادا لأن يكونوا على غرار ليوطي حسب تعبيره في العمل لصالح فرنسا. ثم تحادثنا مليا في الحالة الدولية العامة، وكنت في حديثي معه ضاربا على الوتر الذي يحسه الفرنسيون، فطلب مني بصراحة أن أكتب رسالة للجنرال دي جول وقدم لي مشروع رسالة على مثال الرسائل التي يقدمونها للفرنسيين، فأجبته بأن قضية الخلاف الحادث بين فيشي ودي جول قضية فرنسية محض لا حق لي ولا لسائر المغاربة في التدخل فيها. نعم فيما يرجع لمقاومة الألمان يمكنني أن أؤكد أنه ليس في المغاربة أحد يريد أن يصبح محكوما لألمانيا أو إيطاليا، على أنه من الوجهة المنطقية مادامت فرنسا قد دخلت الحرب، ومادام في استطاعتها أن تقاوم فليس من الوفاء أن تخون حلفاءها وتلقي بهم في أحضان الألمان، وتخيس بذممهم وهم في أشد الحاجة إليها. وأما فيما يخص القضية المغربية فأنا كممثل للحزب الوطني أعتبرها قضيتي، وأنا مستعد للتعاون مع الجنرال دي جول إذا كان راغبا في أن يحقق أماني الشعب المغربي، ولذلك فمعرفتي بسياسة الثورة الجولية فيما يخص فرنسا لا يكفيني، بل يجب أن أعرف سياسة دي جول المغربية، وحينئذ يمكنني أن أعمل على ضوء استنتاجاتي منها، ثم أفضت له القول في سوء حال المغاربة والمجهودات التي بذلها الحزب الوطني في سبيل التوفيق بين حاجيات البلاد وبين الصداقة الفرنسية، فأظهر اقتناعه بأفكاري وطلب مني أن أكتبها بنفسها في رسالة خاصة يتكلف هو بتبليغها للجنرال دي جول بمناسبة حلوله ببرازافيل في شهر مايو، وقد كان الجنرال درلارمينا هو القائد الأعلى للجيوش في افريقيا الاستوائية وهو القوميسير الأعلى بها، بينما كان الجنرال سيسي مديرا لمصلحة الصحة العمومية ومعتبرا في أوساط افريقيا الاستوائية كالعضو الأهم في انضمام الكونغو لديجول، والوالي العام ايبوى والكاتب العام لورانسي كالعاملين الأساسيين في انضمام إقليم تشاد. وبين دولارمينا وديجول نوع تنافس كبير، بينما يعتبر الآخرون أنفسهم مريدين أوفياء لديجول. كتبت رسالة للجنرال ديجول بواسطة الجنرال سيسي أقص عليه بعض ما جرى بيني وبين القومندان روجي وأقول له: »إن المغرب الأقصى المرغم على استمراره في نظام من العصور الوسطى، والذي يرغب في تطور شبيه بما وصلت إليه مصر والعراق لا يمكنه أن يقبل تجديد الاحتلال من ألمانيا أو إيطاليا، وهو يعتقد أن حكومة حقيقية لفرنسا الحقيقية جديرة بأن ترضيه بتحقيق أمانيه القومية. لست أريد أيها الجنرال أن أحدد في هذه الرسالة مطالبنا، ولكني أريد أن أؤكد أنني شخصيا لا أرغب في جاه ولا مال، وإنما أرغب في مصالح وطني وحقوقه. ورئيس الحزب الوطني المبعد منذ خمسة أعوام لا يريد إلا أن يعرف السياسة الجديدة التي ستدشنونها فيما يخص المغرب الأقصى. إنني لا أمثل شيئا من ذاتي، وإنما قيمتي فيما أتمتع به من ثقة الشعب، وفيما سأحمله لأمتي من نتائج عملكم الرسمي. إن ليوطي الذي تحترمونه لم يرتكب أخطاء نوجيس وأمثاله، وقد أعرب عن ندمه على كثير من أنواع السياسة التي اتبعها بنفسه. ولقد أيد الكثير من ا لفرنسيين حركتنا، فإذا كانت سياسة سعادتكم تتفق مع سياستنا نحن فإنه من الممكن لي أن أفعل«. حمل القومندان روجي هذه الرسالة إلى برازافيل حيث سلمها للجنرال سيسي، وهذا الأخير سلمها مباشرة للجنرال دي جول الذي وعده بدراستها مع الجنرال كاترو في سوريا الذي كان ذاهبا لها ليعلن الاستقلال... ورجع روجي لمقر عمالته فحدثني بما جرى وهو متفائل من دي جول، ومتشائم من دوملارمينا وأمثاله. ولكنه أكد لي أن الجنرال سيسي سيحل محل دولارمينا فتتحسن الحال، وفعلا سافر سيسي إلى سوريا مع الموكب الجولي ثم عاد إلى برازافيل قوميسيرا عاما لاتحاد افريقيا الاستوائية. ومضت أيام دعى بعدها روجي لبرازافيل، وأفهمني معاونه المسيو بوراسكي أن القضية سائرة سيرها الطبيعي، وأنها كانت من أسباب استدعاء روجي، وبعدما رجع هذا الأخير أخذ يهيئ الجو باستدعائي لمنزله والحديث معي بأكثر ما يمكن من الأفكار الحرة، وكان يبعث في نفسي من الآمال الشيء الكثير، وإن كنت أعرف أن الفرنسيين لا يتغيرون عن موقفهم ولو حدث من الوقائع أكثر مما حدث، لأنهم محافظون في أفكارهم، ومن الصعب أن يتطوروا بالسهولة التي تظن. ثم قدم لمويلا مبعوث خاص من طرف الشؤون السياسية بإفريقيا الاستوائية هوليوتنان البحري دولو جران أحد المستعربين الذين كانوا يشتغلون في سوريا مع المسيو بونصو، وأحد الذين حكم عليهم الألمان بالإعدام للانضمام للجنرال دي جول، وقد اجتمعت به في عدة جلسات تناولنا فيها بتفصيل دراسة الحالة الحاضرة، ثم بلغني أن الولاية العامة كلفته أن يتخابر معي باسم فرنسا الحرة في شأن المغرب وسائر الشمال الإفريقي؛ لأن الحركة الفرنسية الحرة يهمها أن ترضي الأهالي لتستعين بهم على منع احتلال ألمانيا لشمال افريقيا ومساعدة فرنسا على تحرير بلادها هي الأخرى، وقد بينت له استعدادي للتوسط بين فرنسا الحرة وبين الوطنيين التونسيين والجزائريين فيما يخص تونس والجزائر، وأما فيما يخص المغرب فقد أكدت له استعدادي أن أعمل ومعي رجال الحزب الوطني لتحرير المغرب من الضغط الألماني متعاونا في ذلك مع فرنسا الحرة، ولكن هذا التعاون لا يمكن إلا بشرط واحد صريح، هو أن يعلن الجنرال ديجول استقلال المغرب منذ الآن، ثم بعد التحرير يشكل جلالة السلطان حكومة وطنية تعقد مع فرنسا معاهدة تحالف وصداقة، وقد استمرت مخابراتنا الثنائية التي لم يتدخل فيها الجنرال روي إلا ببعض الملاحظات ثلاثة أيام، شرحت فيها كل آرائي في مصير المغرب والنظام الديمقراطي الذي سيسود بعد إعلان الاستقلال، وكنت أحيل بعض النقط التي يمكن التجادل فيها الى وقت المذاكرة الرسمية التي تجري لعقد معاهدة التحالف بعد الاستقلال والتحرير، وقد اتفقنا أخيرا على أن يوجه ليوتنان برقية لحكومة فرنسا الحرة يبلغها فيها خلاصة مذاكراتنا، وقد بعث البرقية التالية: »تفاوضت مع الأستاذ علال الفاسي، وهو يقبل التعاون مع فرنسا الحرة على تحرير شمال افريقيا من ضغط المحور بشرط الاعتراف الناجز باستقلال المغرب، والسيد علال صريح ويتكلم في استقامة ووضوح، ويتمتع زيادة على نفوذه في المغرب بثقة كثير من زعماء العرب«. ومن الغد تلقى دي لوجران برقية تطلب مني السفر لبرازافيل عاصمة الكونغو الفرنسي لتتميم المذاكرة مع إدارة الشؤون السياسية. وقد لبيت الاستدعاء وسافرت صحبة الضابط المذكور إلى برازافيل حيث اجتمعنا بمجرد وصولنا بالمسيو لورانسييه الكاتب العام بالولاية العامة وأحد الذين حصلوا على ثقة كبرى من وزير المستعمرات المسيو بلوفان ومن الجنرال دي جول بمنزله، وكان معنا مدير الشؤون السياسية لإفريقيا الاستوائية، واستمرت المذاكرة بيننا في جو هادئ مدة ثلاث ساعات تناولنا أثناءها كل الموضوعات المغربية، وكان محور حديثي يدور كله على ضرورة إعلان الاستقلال لإرجاع الثقة بفرنسا، وعلى أن ثورة الجنرال دي جول يجب أن تكون في الوقت نفسه ثورة للمغرب الأقصى لتحريره في ظل العرش العلوي الشريف من النظام الاستعماري الحاضر. ثم أقمت في برازافيل سبعة أشهر كنت أجتمع أثناءها بمختلف الشخصيات الرسمية التي ترد على عاصمة الكونغو، وأدافع أمامهم بكل حرارة عن الفكرة الوطنية التي أعتقلت من أجلها، كما أشرح لهم وجهة النظر العربية في تونس والجزائر وسوريا ولبنان وأدافع عنها بقدر المستطاع. وفي يوليه سنة 1941 وصلت برقية من الجنرال دي جول للولاية العامة يقول فيها: »لقد درست قضية الفاسي والمغرب وسأحمل معي الملف لبرازافيل«. وقد وصل الجنرال الى برازافيل للحصول في حفلات الذكرى الأولى لانضمام مستعمرات افريقيا الاستوائية إليه، أو ذكرى الأيام الثلاثة المجيدة كما يسمونها وجاء معه سفير فرنسا الحرة في أثيوبيا، وهو كولونيل من إدارة الشؤون الأهلية بمراكش سبق أن اشتغل بالإقامة العامة، وكان مكلفا من قبل الماريشال ليوطي بالشؤون المغربية، وقد اجتمعت بالكولونيل في جلسة خاصة بمنزل المسيو لورانسييه وقال لي: »إن الجنرال حدثه عني في الطيارة، وطلب منه أن يجتمع بي ويتذاكر معي«، وقد تحدث في موضوع مهم وعبرت له عن أفكاري في ضرورة استقلال البلاد بكل صراحة ووضوح، وفهمت من حديثه أن رأيه لايتفق مع الاستقلال، ولكن مع القيام بإصلاحات عملية ومفيدة. ثم اجتمعت مع الجنرال سيسي بمكتبه بالقوميسارية العليا بمحضر المسيو لورانسييه أيضا، فرأيت منه ترددا يتنافى مع ما أخبرني به عنه القومندان روجيه. وقد حاول إقناعي بضرورة استمرار المساعدة الفرنسية للمغرب، لأن المغرب لم يزل في نظره غير كامل النضوج للحصول على الاستقلال، فترافعت أمامه مدة ساعتين مدافعا عن ضرورة الاستقلال وكونه الحل الوحيد للمشكلة المغربية. وجدتني هكذا في جو غامض ببرازافيل وفي حالة المنفي المراقب باستمرار ولكنه المكافح باستمرار أيضاً، وقد تكون حولي حزبان متناقضان من الرجال الرسميين؛ حزب الوالي العام وكاتبه العام وكان رأيهما ضرورة التعاون معي ومع الحزب الوطني والاستفادة من قوتنا المعنوية وإن لم يكونا ممن يريدون إعلان الاستقلال على الصفة التي أرغب فيها بل كانا يقولان بضرورة التوسيع في نظام الحماية وإعطائه شكل استقلال نوعي يرضي المغاربة ويضمن للفرنسيين مصالحهم، وحزب المسيو جيرو رئيس ديوان القوميسارية العليا الذي استطاع أن يضم إليه الجنرال سيسي وكان من رأيه ترك الوطنيين وشأنهم والاستغناء عن كل مساعدة ترجى منهم لأنها تتطلب من فرنسا تضحية ليست هي في حاجة إليها. وطبيعي أن يجر هذا التخالف في التفكير إلى التناقض في التدبير، وإلى القيام بمقاومات من هذه الجهة أو تلك أستفيد منها أحياناً وأكون ضحيتها مرة أخرى، ولكنها مع ذلك خرجت بي من طور الهدوء المتعب إلى الحركة والكفاح، وقد أدى الأمر بالمسيو جيرو إلى أن زور على رسالة ادعى أنني كتبتها للماريشال بيتان أؤكد له فيها أن أمل المغرب كله معقود عليه، ولكن من الحق أن أسجل أن المسيو لورانسييه وقف من هذه التهمة موقفاً مشرفاً؛ إذ دافع عني دفاع الأبطال مؤكداً أمانتي وشرف القول والسلوك الذي شهد به كل من تولى شؤوني من الموظفين في المنفى، وقد أدت هذه المناقضات وغيرها أن كان القوميسار الأعلى يعطي أوامر تتعلق بي لبعض الموظفين فينقضها لورانسييه أو يعطي هو الآخر أوامر ينقضها الأول، وانتهى الأمر بوضع المسيو لورانسييه أمام مجلس الموظفين التأديبي ولكنه خرج منتصراً. ولما رأت اللجنة الوطنية التي يترأسها الجنرال ديجول اشتداد الخلاف بين القوميسارية العليا والولاية العامة في جميع المسائل القائمة. ومنها قضية المغرب وجهت البروفيسور كاسا المفوض الوطني في المعارف والعدل للقيام ببحث عام والاتصال بمختلف الأوساط في برازافيل، وقد استدعاني إليه واستفهمني عن آرائي في الموضوع المغربي، فشرحت له فكرتي، كما شرحتها لغيره من قبل، وقدم له مسيو لورانسييه باسم الحكومة العامة على ما أخبرني هو به تقريراً يتعلق بقضية المغرب يؤيد إلى حد بعيد وجهة نظري، وإن كان لايحتضنها برمتها، وعلى ما فهمته من حديثي مع المسيو لورانسييه فإن تقريره يقول بضرورة إعطاء المغرب نوعاً من الاستقلال الذاتي وإسعافه عاجلا بعدة إصلاحات اجتماعية واقتصادية مهمة، وكان يفسر هذا بأن تستعيض فرنسا عن وصايتها الكاملة بنوع من النفوذ المعنوي تحتفظ به على الحكومة الشريفة التي ستكون محل ثقة فرنسا بما تمدها به هذه من العون المخلص والمساعدة الصادقة. وكان يشتغل بقضية الشمال الافريقي في عاصمة الكونغو خليفة قنصل انجلترا العام المستر نيرن، فاسترشد به المسيو كاسا أيضاً، فأعطاه رأيه الذي يتلخص - على ما روى لي موظف كبير في الولاية العامة - في ضرورة إعلان استقلال نوعي للمغرب. وإذا كان ما حدثني به مسيو لورانسييه بعد نزول الحلفاء في افريقيا الشمالية واحتجاجي على المعاملة التي ظللت موضوعها منذ وصولي للكونغو صحيحاً - فإن وزارتي الخارجية الانجليزية والأمريكية طلبتا من الجنرال ديجول إطلاق سراحي رسمياً وتركي أدخل مع جيوش الحلفاء مع قبول شرطي في إعلان الاستقلال، وقد قال المسيو لورانسييه بالحرف: »إن الجنرال دي جول غضوب مثلكم، فقد كان يريد وضع حل للقضية المغربية باتفاق معكم، ولكن طلب الإنجليز والأمريكان إطلاق سراحكم وإعلان استقلال المغرب أحدث في نفسه تخوفات، وبعث روح الرجل الذي لا يحب أن يعمل تحت الضغط«. ومهما يكن فإن الجنرال دي جول لم يعلن في القضية المغربية شيئا، والحركة التي قمت بها لم تكن أكثر من محاولة الخطو بالقضية المغربية الى المدى الذي سارت إليه بفضل جهود إخواني في المغرب من بعد، وإذا كان عملي وصراحتي في الدفاع عن وجهة نظري قد أخر إطلاق سراحي مدة ثلاثة أعوام على الأقل ووضعاني في نظام أضيق من نظام السنين الأولى، فإنني على كل حال أرضيت ضميري بتحقيق ما كنت أصبو إليه في منفى لم يكن - والحق يقال - لي يقين في الخروج منه، كما أنني اقتنعت جيداً بأن المستعمرين متفقون على اختلاف نزعاتهم وفي سائر ظروفهم على التخوف من الاستقلال، ووجوب الاحتفاظ بالمستعمرات، وإن كانوا يبيحون لأنفسهم ولأذنابهم استعمال لفظ الاستقلال في كثير من الأحيان، وهم لا يقصدون إلا التوجيه نحو الإدماج أو ما يقاربه من أساليب. ولما تم نزول الحلفاء بشمال إفريقيا أدركت أن دور فرنسا الحرة قد انتهى، وأن الظروف ستسمح لا محالة باستئناف إخواني للجهاد لا محالة، فاقتنعت بأن واجبي في تبليغ صوت المغرب للفرنسيين الأحرار قد كمل أداؤه، وأن الخير في ترك المجال للذين بالمغرب ليقولوا كلمتهم، فيرى الفرنسيون صحة ما تنبأت به من تطور في الفكرة التي اختمرت في نفوس المغاربة جميعا ، وأعلنت في محادثاتي مع الولاة الرسميين أن كل مفاوضة يلزم أن تقع الآن مع ممثلي الحزب الوطني بالمغرب، وأنني متضامن معهم في كل ما يفعلون.