أجواء رمضان هي أجواء الحكاية بامتياز. ولا يقتصر الأمر على الليل، بل يمتد إلى النهار خاصة بعد العصر. وبالرغم من دور وسائل الإعلام، خاصة الراديو، في نشر الحكاية، بأنماطها المختلفة، بين الفئات الاجتماعية داخل البيوت أو غيرها، فإن ذلك لا يُعوض اللقاء المباشر مع الراوي في الفضاءات الشعبية التي تتحول إلى حلبة للتنافس أو التباري بين الحكّائين والرواة على اختلاف أعمارهم وباعهم، في الحكاية. في رمضان، لا تخرج الحكاية عن موضوعين رئيسيين: السيرة النبوية وبطولة الفُرسان العرب والمسلمين. كان أشهر رواة النوع الأول مُجسدا في شيخ فانٍ أعرفه بالصورة دون الإسم، كان رقيق الحال، يُغطي البياض إحدى عينيه، وعلى رأسه عمامة متواضعة لا تتجاوز اللَّفتين، وجسمه النحيف يسْتره جلباب كان في يوم ما رماديّ اللون. كان يجلس القرفصاء، وأمامه سِفْرٌ ضخم «انتشرت على غلافه الجلدي بقع كثيرة من كثرة الإستعمال، وأطلت من دفّتيه أوراق مُعَصْفرة بأحرف رفيعة. وقبل أن يبدأ الحكي، يقتعد سجادة منْسلة الخيوط، انْثلمت سُيوف فرسانها، وانسلت خيوط راياتها بعد أن تقدمت الفرسان، وعايشت الطعن والنزال في عين المكان. يبدأ الراوي حكايته بالصلاة والسلام على سيد الأنام، وجمهوره لا يتعدى الخمسة شيوخ لا تتوقف شفاههم عن الحركة، وقد ينضم إليهم، بعد قليل أو كثير، بعض اليافعين لتظل الحلقة محافظة على جمهور كيفي مميز. وبعد أن يقلب الراوي صفحات السِّفر الضخم عدة مرات، يتوقف عن إحداها دون أن يُغادر بصره الجمهور الثابت في عدده ونوعيته يقول... ذلك هو عام الفيل... أبْرهة الملعون... قولوا: لعنه الله. - لعنه وأخزاه الله. يُردد الجمهور بأصوات واهية. -... لم أسمع أي شيء!! - يقول الراوي، وهو يضع سبابته على أذنه اليمنى مُتقدما بجذْعه إلى الأمام: - كان فيل أبرهة يتقدم الجيش الحبشي الذي لا عدَّ له ولا حصر. كان قطيع الفِيلة مثل قُطعان الغنم... وأبْرهة وفيله مثل جبل فوق جبل... ولكن... «ويمكرون والله خير الماكرين»... اسودّت السماء، وأطبق الظلام، واهتزت السّحب السوداء وكأنها أشرعة ضخمة... لا، لم تَكن سُحبا... بل كانت أجنحة... صلُّوا على النبي العربي... السواد، ياسادتي،... ووقانا الله من سَوَاد القلب، السواد في ذلك اليوم الذي سُمّي ب«عام الفيل»... هو.. قبل ذلك، ارفعوا أكفّكم إلى السماء ليُبْعِدَ عنكم ظلام البصر والبصيرة... في هذه الأثناء، يَسْحَبُ الراوي صحنا بلاستيكيا صغيرا من تحت السجادة، وهو لا يتوقف عن الكلام... تهُزُّ دائرة الجمهور المتحلق حول الراوي، وكأن ريحا خفيفة اخترقت الصفوف، ومن بعيد ترددت أصوات غريبة كانت خليطا من صوت أفْيال ونعيق غربان، وخفقان أجنحة... ورؤوس المتحلقين تتحرَّك في كل الجهات... يبدأ الراوي في الدورات، بخطوات وئيدة، واعدا متوعِّدا، مذكرا بالفيل ذي الخرطوم الطويل، وراكبه الذي أطبق عليه الظلام هو ومن معه... قبل ذلك من تركني وحيدا، فسأتركه ليوم القيامة حيث لا ينفعك مال ولا بنُون...