من ينكُر أنّ الفؤاد لا يني غاصّاً بأسئلة تَنْفرع جروحاً في سطور شتَّى، ليندغم قلقها أخيرا، في نافذة مُشْرعة على أرق لاينطفئ، وهو؛ ما الذي يريده الناس، تحديداً، من الشاعر...؟؛ هل الجمالية المستقطرة لؤلؤاً من لغته التي تغدو هي المقصدية لذاتها؛ أم ما تكتنفه هذه اللغة من مضمون ومعنى؛ أم يريد الناس الشاعر ذاته، بزخمه الأنطولوجي المنصهر بمواقف سياسية واجتماعية، لا يمكن اختزالها إلا في تمثال أسطوري، يكفي أنه مبني أعلى من الأرض ببضعة أمتار ، لينقذ العالم...؟؛ فما الذي يريده الناس حقا، من الشاعر الذي ينشرخ كل يوم أكثر مما تصنعه حوادث الطٌرق بزجاج السيارات، كي يتشظى أو يقول شيئا لايفهمه أحد؟؛ دائما تلكم الرغبة العنيدة في التوصيف، توفّز الشاعر قصيا في مغامرة القول، على سبُل الروح الانسانية الأشد وعورة؛ فهو لا يتغيا قول الأشياء فقط، إنما - حسب فرانسيس بونج - يهفو لما لاينقال؛ قلمُه تيَّاه في ضفاف ما يعسر عن الوصف، منسرباً في الليل الأشد انبهاماً؛ وهنا نستحضر مقالة نشرت في عدد (13) من مجلة «دفاتر المعنى » الفرنسية، للكاتب «غوي أليكس»، حول الشعر والهرمسية، يلتقط بأنجم ثرياها، خطاب استوكهولم للشاعر الفرنسي «سان جون بيرس»؛ وهو الخطاب الذي استعر بالرد على العتاب المسدد بأسهم أقرب للضغينة، للشعر الحديث، معتبراً كَلِمه غامضاً؛ ولم ينس خطاب «سان جون بيرس» أيضاً، تحديد مهمة الشاعر، ودور الشعر؛ باعتبار أنه لا يمكن دراسة القصيدة، دونما التفكير في ما تبسطه من رهان ووعد؛ هنا يقترح مؤلف «المنافي» بعض التمايزات الجوهرية، حيث يضع طبيعة الشعر في مقابل موضوعه؛ فطبيعة أو وظيفة الشعر، تكمن في الإضاءة، ولكنها تضيء الأكثر انبهاما وانزواء، السري في تخوم الروح الإنسانية؛ بل إن «سان جون بيرس» يرد أيضاً في خطاب استوكهولم، عن الذين يربطون وشائج هذا الغموض في القصيدة، بمحسنات تعبيرية، تتحدَّرُ من التجربة الملارمية للشعر؛ ليس ثمة إذاً أي انبهام تعبيري في الشعر، بل هي الضرورة الجمالية فقط؛ هكذا ينضم «سان جون بيرس» لنداءات رامبوية، تضع الشعر إلى جوار العلم؛ فالشاعر هو «سارق النار» و «العَالِمُ الأسمى»، يجلب الضوء، لكن هذا الضوء يعمينا في الليل حدَّ الإدهاش؛ لنقل - حسب «غوي أليكس» الذي ما فتئ يتلمَّس مكامن اللغم في خطاب «سان جون بيرس» - إن استكناه الغموض والهرمسية (الإبهامية)، يعتبر سؤالا عن بؤس الشعر المعاصر الذي يعزوه البعض إلى فقدان الموضوع في القصيدة، أو سؤالا عن مهمة الشاعر، التي يمتد تحديدها بهذا السؤال قصيا، ليرسم خطاً مشتركا يرسم مجال هذا الشاعر؛ يجدر إذاً بالمقابل، مساءلة النصوص الشعرية، من عتبة هذا التفكير الجوهري في الشاعر؛ ومقارعة المقصديات الأكيدة للشعراء أنفسهم، ولقرائهم النقاد؛ ويمتد «سان جون بيرس» ليرتقي بهذه المعضلة الأدبية، إلى مستوى تاريخ الشعر، لكنه لا ينكر أن أزمته تبقى وثيقة العُرى بالتقنيات المعاصرة للإبداع الشعري؛ مهلا ثمة خطوة فلسفية تقفز هنا إلى الفجر، حيث نصيخ التفكير في هذه المقولة: «إن الشعراء لا يعرفون أبدا ما يقولون» !؛ ترى من يحدثنا هنا؟ قد يكون قارئاً حداثياً؛ آه، إنه سقراط الذي أمهل الشاعر إلى القرن العشرين كي يجد جوابا لحكمة هذا الدفاع؛ لكن «فرانسيس بونج» في كتابه «مناهج» لم يزور خلف ستور الصمت، بل أباح لنفسه تصحيح سقراط، واصفاً إياه ب «الأحمق»، مع أنه لم يسهب في الرد على الفيلسوف حول، «ما الذي تريد قوله» أيها الشاعر طبعاً؟؛ ذلك أن هذا السؤال حسب بونج لا يليق بالقصيدة، لأن ما يريد أن يقوله الشاعر قد قاله فعلا... ولايمكن قوله بشكل آخر، وكل تعبير أو شرح للقصيدة، هو خيانة؛ وإذ نعود إلى تأليب جِمار سؤال سقراط لإضاءة سؤالنا الخاص، نجزم أن هذه «الإبهامية» في القصيدة ليست حديثة، ولا ترتبط بتقنيات الشعر المعاصر فقط، إنما تتعلق من أهدابها ب «مهمة الشاعر»، أما «فرانسيس بونج» فينتهي إلى عكس هذا التقابل الذي بين العمق / والشكل الذي استثاره السؤال الأخرق لسقراط، بأن عثر على الوحدة التي يهفو الشاعر عميقاً إلى جماليتها؛ وهي وحدة القصيدة بالموضوع، أو لنقل وحدة الكلمة بالشيء؛ هنا حيث القصيدة، حسب اشتقاقها الذي استحضره «إيتامبل»؛ تعني «الفعل»؛ كما أن فرادتها الخارقة، ترفض كل صنف من الإزدواجية التي تترجمها وتخونها؛ ومع كل هذا الهدير الذي اصطخب باتهام الشعر باللاجدوى، لايمكن الجزم إلا أن الشعراء كانوا دائماً مبهمين، ولكنهم اليوم أكثر إبهاماً؛ فهل ثمة ماهو أكثر وأنأى من الشعر.. مازال يريده الناس من الشاعر...؟