تتحدث أدبيات العلاقات الدولية عن مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وتزخر بالنماذج التي تسعى إلى ملائمة هذا المعطى الجديد، لكننا قلما نسمع بنظام مالي جديد، أو على الأقل لم نكن نسمع بهذا التعبير قبل الأزمة الأسيوية التي عصفت باقتصاديات تايلاندا وكوريا الجنوبية وأندونيسيا لولا السجال الذي جرى بين جورج سوروس الرأسمالي الأمريكي ذي الأصل الهنغاري ومحمد ماهتير رئيس وزراء ماليزيا ودعوة هذا الأخير إلى أخلاقية في التعامل المالي. لكن هذه الدعوات أخذت تشق طريقها من حلبات منتديات الفكر وأعمدة الصحف الدولية المؤثرة الى أصحاب القرار المالي... دعوات صريحة إلى إعادة هيكلة نظام بروتون وودس والثنائي الذي يقوم عليه: صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، هيكلة لا تنصرف الى بنياته بقدر ما تنصرف الى دوره. وانعقد في أبريل 1998 اجتماع لبناء بناء النظام المالي العالمي أو ما سمي «بروتون وودس 2» حضره كبار المسؤولين الماليين ل 22 دولة كما طرحت إعادة صياغة النظام المالي العالمي في جدول اعمال مجموعة 17. لقد ظهر نظام بروتون وودس في أعقاب الفوضى المالية التي شاعت بعد الأزمة الكبرى وما تلاها من طفو العملات. ولذلك قام النظام النقدي لبروتون وودس على استقرار العملات ومنع المضاربة بها والحيلولة دون انتقال الأزمات الاقتصادية مثلما حدث مع أزمة 1929. لكن من يستطيع القول إن وظائف صندوق النقد الدولي الآن هي تلك التي تم تحديدها سنة 1944 في قرية بروتن وودس بولاية نيوهمبشير؟ أليس صندوق النقد الدولي هو من يدعو الى تخفيض العملة كدواء للأزمات المالية والاقتصادية؟ من ذا الذي بإمكانه أن يجرؤ الآن بالدعوة الى استقرار العملات؟ هناك إذن اختلاف بين ما قام عليه نظام صندوق النقد الدولي بالأمس وما يقوم به اليوم، فقد حصل تطور بشكل صارخ مع بداية السبعينيات حين انهدَّ أحد أعمدة نظام بروتن وودس وهو استقرار العملات بتزامن مع قرار الرئيس الأمريكي نيكسون سنة 1971 بوقف تحويل الدولار إلى ذهب مما فتح الباب على مصراعيه لفوضى نقدية تأثرت من جرائها دول العالم الثالث ودشن فصلا جديدا في مهام الصندوق الدولي وهو ما اصطلح على تسميته ب «إعادة الهيكلة» ، وهي المرحلة التي اتسمت بمنح قروض لدول العالم الثالث وخفض حجم التشغيل العام وتخفيض قيمة العملة، كما دشن هذا الصندوق محطة جديدة مع التحول الذي عرفته دول أوروبا الشرقية من نظام اقتصادي موجه إلى نظام السوق... وهو العلاج الذي اعتبر علاجا بالصدمة نظرا للاختلالات التي أفضت إليها وصفات صندوق النقد الدولي. لكن تحولا غير متوقع طرأ من جراء الأزمات المرتبطة بعولمة سوق المنتجات مع إنشاء منظمة عالمية للتجارة غايتها تحرير بسرعة برقية. هذه الأزمات ابتدأت مع الأزمة المكسيكية وبلغت أوجها مع الأزمة التي ضربت شرق آسيا، وهذا ما انعكس على مقاربة صندوق النقد الدولي ووصفاته، فقد دخل المصطلح الجديد «التسيير الجيد» أدبيات الصندوق عوض مصطلح «إعادة الهيكلة» أو علاج الصدمة وهوا لمبدأ الذي يصدف عن المقاربة المالية وحدها لمعالجة الأزمات المالية وذلك بإدخال بعد تدبيري يقوم على حكم القانون وعلى فعالية الإدارة ونزاهة القضاء، فضلا عن نظام تعليمي ناجع ملائم لمتطلبات السوق. هذه الأدبيات هي التي ستفضي إلى إعاد النظر في نظام بروتن وودس مثلما قال الاقتصادي بيتربوتوليه المكلف بقسم أسيا - الباسفيك بالبنك العالمي: «ينبغي دعم المؤسسات المالية الدولية وإن اقتضى الحال خلق مؤسسات جديدة. إن النقاش حول المسألة ما هو إلا في بداية أمره» وقد حملت دعوته هاته على غرار آخرين تصور ميكانيزمات لتفادي الأزمات قبل وقوعها. وقد لفت بعضهم مثل معهد المقاولة الأمريكي النظر إلى ضرورة أن يتوسع مجال تدخل صندوق النقد الدولي ليشمل أيضا مجال إعادة هيكلة القطاع الخاص. لكن هل معنى ذلك أن يتنبأ الصندوق بوقوع أزمة؟ ليس من السهل على المؤسسة المالية الدولية التنبؤ بذلك ولعل الأزمة العالمية التي ضربت الاقتصاد الدولي خلال خلال السنوات القليلة المالية والتي لايزال العالم يعاني ويلاتها وآثارها الوخيمة وبالأخص اقتصاديات العالم الثالث خير دليل على ذلك الأمر الذي يستوجب مع القول بأن الأمر يتعلق ببنيات النظام الاقتصادي العالمي وصياغة نظام عالمي جديد يوازي بين معالم الدول القوية والدول الفقيرة ويكفل العدالة في توزيع الخيرات والثروات لتشمل الإنسانية جمعاء.