بالطبع، تعتبر التجارب السياسية العالمية مرجعا أساسيا لاستنباط الدروس في شأن العلاقة الرابطة بين المجالات السياسية والاقتصادية في حياة المجتمعات. ونسعى من خلال الرجوع إلى التجارب الناجحة تاريخيا إلى فتح النقاش بشأن البحث عن المقومات الإنسانية لخدمة الحاضر والمستقبل خصوصا إشكالية أهمية السياسي والاقتصادي في تطوير مقومات الدولة القوية بشقيها المؤسساتي والمجتمعي. وفي هذا السياق، قررنا التطرق لوضع كوريا الجنوبية بتقديم نبذة عن تاريخها السياسي والاقتصادي وكيف تمكنت من التخلص من التخلف والرجعية وبناء دولة حديثة اعتبرها المتتبعون «أعجوبة اقتصادية في شرق آسيا». ومن أجل ذلك قررنا منهجيا تقسيم هذا المقال إلى أربع نقط تتعلق الأولى بتقديم نبذة تاريخية لهذا البلد قبل التدخل الأمريكي، والثانية بالدعم الأمريكي للنظام الفردي القائم وهزالة الحصيلة، والثالثة بالانقلاب العسكري وفشل ضمان الاستقرار السياسي والرابعة بالمرور من الحكم الفردي إلى الديمقراطية وارتقاء موقع الدولة إلى صف الدول المتقدمة الحداثية. 1 . نبذة تاريخية لكوريا قبل التدخل الأمريكي لقد تم ضم شبه الجزيرة الكورية إلى اليابان سنة 1910 . لكن بعد هزم هذا البلد المستعمر في الحرب العالمية الثانية اندفعت القوات السوفييتية والأمريكية لملء فراغ القوة الذي حدث في شمال شرق آسيا. وبعد التحرير المفاجئ من الحكم الاستعماري، اتخذ قرار متسرع بتقسيم كوريا إلى قطاع شمالي تحت النفوذ السوفييتي، وقطاع جنوبي تابع للأمريكيين. وبعد التصارع بين البلدين في إطار الحرب الباردة، حظي بالقبول المقترح الأمريكي بجعل خط العرض 38 درجة كحد بين القطاعين الشمالي والجنوبي. قبول هذا التقسيم من طرف السوفييت كان مفاجأة بالنسبة للأمريكيين خاصة أن خط الفصل كان يمثل اتفاقا أبرم قبل ذلك بخمسين عاما بين روسيا القيصرية واليابان عندما كانتا تسعيان للهيمنة على كوريا. فالقسم الأكبر من الصناعات الثقيلة (الكيماويات، والصلب، والمناجم، وتوليد الطاقة) كان في الجزء الشمالي، بينما الجنوب كان يعتمد على النسيج وعلى الزراعة وبدا للجميع عدم قدرته على الوقوف على قدميه معتمدا على نفسه. عند استقلالها وجدت كوريا نفسها أمام وضع مزري وإرث ثقيل. لقد شكل الاستعمار الياباني عائقا لتطور المجتمع الكوري. لم يكن مسموحا للكوريين بعد الالتحاق بالمدارس الابتدائية متابعة تعليمهم الثانوي والعالي، وبالأخص الدراسات الفنية والهندسية. ونتيجة لهذه السياسة الاستعمارية، أصبحت كوريا ما بعد الاستعمار محرومة من الأطر والفعاليات العلمية والإدارية والاقتصادية لتسيير دولة صناعية حديثة. أما أمريكا، فلم تر في كوريا المستقلة سوى بلد غارق في القيم التقليدية البالية والمتخلفة. لقد أعلن تقرير للجيش الأمريكي سنة 1945 أنه :«مازال هناك شيء من الحقبة الملكية القروسطية الفاسدة في كوريا القديمة، مشوبة بلمسة من تقاليد زعماء الحرب الصينيين،...، ويبدو أن الكوريين مبتلين بعقدة شعور بالدونية ضاربة في الأعماق تولدت دون شك بفعل التعرض للإهانة لفترة طويلة على أيدي اليابانيين». 2 . الدعم الأمريكي للنظام الفردي وهزالة الحصيلة كما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فبالرغم من تدهور الأوضاع في كوريا الجنوبية، دفعت الحرب الباردة كل من الأمريكيين والسوفييت إلى التسابق الإيديولوجي الدائم من أجل إظهار التفوق في مختلف بقاع العالم. وفي هذا السياق، استفادت كوريا الجنوبية من كبرياء الولاياتالأمريكية. فسعيها لتحقيق تفوق المنظومة الليبرالية، قد ألزمها عسكريا بشكل لا مفر منه ببذل جهد طويل الأمد لتحديث وإعادة بناء بلد بعيد، وعدم التخلي على بلد حطمته الحروب وعقود من الحكم الشمولي. لقد وجدت نفسها مضطرة لتقوية عزمها للاستمرار في هذه السياسة ودعم هذا البلد إلى النهاية لتجنب ما قد يسببه الانسحاب من دعاية سيئة لنوع من النظام السياسي والاقتصادي الذي ترغب الولاياتالأمريكية في الترويج له. إن ما عاشته الكوريتان من حروب ضارية نتيجة الحرب الباردة أجبر أمريكا على مواجهة ما يبدو أنه تعهد دائم من قبلها لبناء دولة كوريا الجنوبية. وقد شكل موت جوزيف ستالين مناسبة أصبحت من خلالها الظرفية مواتية لانطلاق أوراش البناء. فأحداث 1953 ستقلل إلى حد ما من القلق الذي كان علامة فارقة لنهاية العام 1952 . لقد واكب موت ستالين تغييرات في الإستراتيجية السوفييتية، وأدى تسلم دوايت ايزنهاور مهام الرئاسة في أمريكا إلى نهج أسلوب جديد في التعامل مع الصراع في كوريا. كما شكل تنصيب داج همرشولد أمينا عاما جديدا للأمم المتحدة دعامة أساسية للمساعي الأمريكية في هذا البلد. لقد استطاع الأمين الجديد من استعادة سمعة المنظمة التي تدهورت تحت إدارة الأمين العام السابق تراجفي لي. وعليه، كانت سنة 1953 (يوليوز) مناسبة تم التوقيع فيها على اتفاق الهدنة وعودة التوازن إلى السياسات الدولية. لقد ساعد هذا الوضع الدولي الجديد أمريكا على التعبير عن عمق التزامها في كوريا الجنوبية. بالفعل، ما بين 1945 و 1980، استفادت جمهورية كوريا الجنوبية من ستة مليارات دولار في شكل مساعدات غير عسكرية من الولاياتالمتحدة ناهيك عن المجهودات الرامية إلى إعادة خلق أوجه عديدة من الحياة في هذا البلد لكي ترسي دعائم مجتمع حديث وفقا للنموذج الغربي. لقد كانت الغاية من هذا العزم الأمريكي إثبات تفوق أسلوبها في التنمية للعالم. وبالفعل، بذلت الولاياتالمتحدة مجهودات كبيرة لتحقيق الاستقرار في الجنوب لضمان القدرة على مواجهة الشمال الخاضع لسيطرة الإيديولوجيا الشيوعية ومن تم تنفيذ الإستراتيجية الأعم للولايات المتحدة في شرق آسيا. هكذا، برزت في نهايات الأربعينيات الحاجة إلى تشكيل كوريا وتحويلها إلى دولة تتمتع بالحيوية ذات اقتصاد حديث بدون التركيز على ضرورة تحويلها إلى بلد ديمقراطي. ومن أجل إعطاء الانطلاقة لأوراش الإصلاح، وبعد استنتاجها كون الكوريين في حاجة إلى تطوير نظرة مستقبلية للعالم تضع ثقتهم التامة في التقدم المادي وفي المؤسسات الحديثة، بادرت الولاياتالأمريكية إلى إعطاء الانطلاقة لتنفيذ برامج إصلاح ملكية الأراضي، وتطوير الصناعة والزراعة، والعمل تدريجيا على تخفيف القبضة اللامنطقية لمن يعرفوا باليانجان (الإقطاعيون المحليون)، وإحداث مراجعة كلية لأسلوب التعليم الذي أرسى دعائمه اليابانيون، وتنفيذ برامج تدريب فني من أجل خلق جيل جديد من المواطنين مع إرسال عدة مجموعات من الطلبة إلى الجامعات الأمريكية لتعلم آخر ما وصلت إليه تقنيات الطب، والزراعة، والهندسة،... إنها إرادة لتطوير المنطق التعليمي من خلال تجاوز إيديولوجية موالاة الإمبراطورية بغرس الإيمان بالتقدم والإنجازات التقنية. في سنة 1948، أعد بول نيتز وآخرون غيره في وزارة الخارجية ما يسمى ب«برنامج الإنعاش الآسيوي» والذي يرمي إلى معالجة خاصة للأجزاء الأفقر والأقل نموا في العالم والتي تفتقر إلى أساسيات الاقتصاد الصناعي، ومثقلة بمعتقدات سياسية وثقافية رجعية. ودعما لهذا التوجه، قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بوضع برنامج المساعدة الأمريكية لتدعيم نظام شان كاي شيك الواهن ضد ما يواجهه من تحديات شيوعية. ووضعت هذا البرنامج تحت إشراف إدارة التعاون الاقتصادي التي أنشئت لتنفيذ خطة مارشال في أوربا والتي مدد دورها سنة 1948 ليشمل المناطق النامية في العالم خاصة كوريا الجنوبية. وخلال هذه السنة، قررت أمريكا إنهاء احتلالها العسكري بصورة رسمية وولدت الجمهورية الكورية تحت حكم سينجمان ريهي القومي الاتجاه والموالي للأمريكيين. ومع انهيار الوطنيين فوق الأرض الصينية سنة 1949، اشتد عزم أنصار هذه السياسة على استغلال المقدرة الاستثنائية لأمريكا وتفوقها في مجال التقنية الرفيعة لتحفيز التنمية وتشجيع التغيير الاجتماعي في آسيا. وأصبحت فكرة دعم دولة مضادة للشيوعية وقابلة للحياة في جنوب كوريا أمرا ملحا. إلا أن بعد انسحاب القوات العسكرية من الكوريتين (القوات الأمريكية والسوفييتية)، نشب الصراع من جديد بين الدولتين حيث ستصبح فترة عمل إدارة التعاون الاقتصادي في كوريا صعبة وقصيرة الأمد. لقد اشتد التوتر بالجنوب (داخليا) وبين الشمال والجنوب. لقد أدى نشوب الصراع في الجنوب بين اليمين واليسار إلى تغذية ثورة مفتوحة. وفي ربيع 1948 قطع الشماليون إمدادات القوة الكهربائية عن الجنوب وتسببوا في كساد اقتصادي جنوبي. وبحدوث الغزو الكوري الشمالي في يونيو 1950 تم دفع إدارة التعاون الاقتصادي بعيدا خارج الأراضي الآسيوية للمرة الثانية. ونتيجة لهذا الاكتساح، توج طلب أمريكا للدفاع على كوريا الجنوبية بالحصول على تفويض أممي للقيام بحملة عسكرية ضد الشيوعيين. وبعد نجاحها في ذلك، أعادت أمريكا صياغة برنامج التنمية لكي تجعل الأممالمتحدة عاملا مؤثرا في إعادة بناء كوريا بتكوين وكالة الأممالمتحدة لإعادة إعمار كوريا وتسليمها مسؤولية تنميتها (وكالة يونكرا). وبعد انتهاء يونكرا والمنظمات المساعدة من القيام بالدراسات المبرمجة، قام دوايت أيزنهاور بالتراجع عن بعض المواقف المهمة اتجاه كوريا الجنوبية حيث شكك في مقدرة المنظمة الدولية على تحقيق الأهداف الأمريكية خاصة أن لدى السوفييت الكثير من التأثير في بعض برامج الأممالمتحدة، بالإضافة إلى المقدرة على إحداث الضرر. وبذلك تم تخفيض مكانة يونكرا لبعض الوقت إلى موقع ثانوي في هيكلة برنامج المساعدات الذي ستسود من خلاله برامج المساعدات الأمريكية الثنائية. هكذا، مع نهاية الحرب الكورية في يوليو 1953، وجدت الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها مستقرة في شبه الجزيرة الكورية استقرارا جعلها الحامي والراعي الرئيسي للاختبار والتجارب زمن الحرب الباردة. ومنذ ذلك الحين تقاطرت عليها المساعدات بنسبة تزيد عن 200 مليون دولار في السنة (وصلت إلى 382 مليون دولار سنة 1957)، ناهيك عن المساعدات العسكرية وتكلفة الإبقاء على الحامية العسكرية الأمريكية. وإجمالا، ما أنفقته أمريكا في جنوب كوريا حتى أواخر عقد الخمسينات وصل إلى مليار دولار سنويا. وبتنسيق من طرف الولاياتالمتحدة، استفادت هذه البلاد كذلك من حشد من دعم المنظمات غير الحكومية حيث انهالت عليها عشرات الملايين من الدولارات سنويا، وكذا من خبرة واستشارات مؤسسات هندسية وعلمية مثل «بتشل» و «تامز». وبالرغم من هذا الدعم المالي والتنموي والتقني الكبير الذي استفادت منه كوريا الجنوبية لم يتحقق مطلب تكوين دولة قابلة للحياة بها. لم يكتب لهذه البلاد أن تشكل نموذجا لأكبر برنامج إنمائي في العالم، ولم يكتب كذلك تحقيق الخطط الأمريكية كما تم الإعداد لها، وباءت بالفشل البرامج التي وضعتها يونكرا والإدارة الأمريكية التي كانت طامعة في تحقيق اقتصاد كوري جنوبي قابل للحياة قبل نهاية العقد. لقد وصل الحد إلى درجة أصبحت التحية المعتادة التي يتبادلها الكوريون في الستينات هي «هل أكلت شيئا اليوم؟». وبعد هذا الفشل الذريع، مقارنة ما تحقق من تقدم نسبي في كوريا الشمالية المدعمة من المعسكر الاشتراكي، برزت مجموعة من التبريرات غير الموضوعية. هناك من قال أن ما كان عليه المجتمع الكوري من وضع بالغ الإنهاك، والتدمير الذي حدث أثناء الحرب جعل هدف التنمية صعب المنال. كما ألقى الأمريكيون اللوم فيما شاب خططهم الكبرى من قصور على عاتق الكوريين الجنوبيين. وفي واشنطن كان البعض يطلق على كوريا الجنوبية وصف «الدولة العاجزة» أو «جحر الفئران»، وقال مسؤولون في وزارة الخارجية من خلال إحدى المذكرات الداخلية إن «المهارات والمعرفة لدى المسؤولين الكوريين ولدى عامة المواطنين لا تتساوى مع هذه المهمة الجبارة». أما المتتبعون للشأن الكوري الجنوبي فقد أوضحوا أن العرقلة الحقيقية لهذا البلد لها ارتباط كبير بنظام الحكم. على الرغم من أن الرئيس رهي انتخب في ولايته الأولى من قبل الجمعية الوطنية، إلا أنه مع مرور الزمن أقام نظاما دكتاتوريا. لم يؤد تفشي مستوى الفساد والانحراف في حكومته إلى جعلها تفقد شعبيتها بين الأمريكيين فحسب، ولكن بين شعب كوريا الجنوبية كذلك. فطوال العقود الأولى بعد سنة 1945 كان الانقسام والفتن يغلبان على السياسات الداخلية للبلاد، وأحيانا ما يصاحبها العنف، ولكنها تميزت أيضا بوجود دائم للقوى المساندة للعملية الديمقراطية. لقد وصل استياء الأمريكيين إلى التصريح بكون موقع كوريا الجنوبية الطبيعي هو أن تكون وصيفة لليابان. 3 . الانقلاب العسكري وفشل ضمان الاستقرار السياسي بعد ادعاء رهي فوزه في انتخابات مزورة، اشتدت التظاهرات والإضرابات في الشوارع وأجبروه على التنحي من السلطة. ومباشرة بعد هذا الحدث، سارعت الولاياتالمتحدةالأمريكية (إدارة ايزنهاور) بدعم تشانج مايون، الديمقراطي الجاد. ولم تمر سنة كاملة حتى تبين أن حكومة تشانج كانت من دون نهج واضح، ووصفها أغلب المتتبعين بكونها أسوأ من سابقتها وهي غير قادرة على رفع عجلة التحديث إلى الأمام. وأمام هذا السخط الشعبي، سهل على الجنرال بارك تشونج هي الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري. ومرة أخرى أسرع الأمريكيون إلى إبداء الرضا نحوه. وبإظهار نفسه على أساس أنه قومي، راغب في الالتزام بإتباع نهج تنموي متساو مع الأمريكيين، تمكن هذا الرئيس على مدى السنوات القليلة التالية من تطبيع علاقة بلاده مع اليابان، وأرسى قواعد اقتصاد متكيف مع التصدير. وتوجت المجهودات بحدوث نمو اقتصادي مثير للإعجاب. كما أبان هذا النجاح عن الإرادة القوية للشعب الكوري لتحقيق التقدم والرقي. فما كان لهذا النجاح أن يحصل لولا الجهد المثير للإعجاب الذي بذله هذا الشعب، فمهاراتهم وأخلاقيات العمل الشاق لديهم كانت بمثابة الغراء اللاصق الذي جعل الأشياء متماسكة. فبعد هذا النجاح الكبير، والذي توج بتناقص المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الولاياتالمتحدة وبتوسيع اقتصاد الصناعة والتصدير، أدت مشاركة الجنرال بارك في دعم التدخل العسكري الأمريكي في الفيتنام إلى دعم مسيرة بلاده التنموية. لقد تلقى الجنرال مكافآت سخية من الرئيس ليندون جونسون، وكذا الاستفادة من تعاقدات عسكرية ومن طوفان من الطلبيات ذات العلاقة بالحرب حيث ابتلع المجهود الحربي 94 بالمائة من صادرات كوريا الجنوبية من الصلب، بالإضافة إلى ذلك، حصلت كمية لا بأس بها من المؤسسات الكبرى التي تهيمن الآن على الاقتصاد الكوري الجنوبي على أول موطئ قدم لها عن طريق عقود ضخمة خلال حرب فيتنام عن طريق الحكومة الأمريكية. واستمرت كوريا الجنوبية في الحصول على مزايا اقتصادية من الولاياتالمتحدة على شكل قروض وضمانات لكنها توقفت على الاعتماد على المنح الهائلة والمساعدات المباشرة. لم تعد كوريا الجنوبية توصف ب«حالة العجز» كتعبير سائد على فشلها في التنمية. وفي السبعينات نظر إليها على أنها انتصار ونموذج يحتذى به، كما أبدى العالم إعجابه ب«الأعجوبة الاقتصادية في شرق آسيا» ومن ثم أحيل الباحثون عن دروس وعن إلهام إلى كوريا الجنوبية، وزملائها من «النمور الآسيوية». 4 . من الحكم الفردي إلى الديمقراطية والمرور إلى صف الدول المتقدمة الحداثية بالرغم من هذا النجاح الاقتصادي، لم تتمكن أمريكا من حث بارك ومن جاء بعده على إجراء إصلاحات اقتصادية حتى مع ازدياد حدة العنف والشمولية الممارسة من قبل النظام خلال عقد السبعينات. وكنتيجة لاشتداد النزعة الشمولية في نظام الحكم، قتل بارك سنة 1979، ليتولى الحكم بعده قادة أكثر ميلا نحو الدموية. وفي سنة 1980، أدى قمع النظام الوحشي لتظاهرة في كوانجيو إلى عنف على نطاق أوسع، وإلى موت المئات من الأفراد. وبالرغم من الدعم الأمريكي للنظام القائم، استجمعت القوى المساندة للديمقراطية قواها وتمكنت عن طريق سلسلة من المظاهرات والاضطرابات من إجبار العسكر بالتدريج على الابتعاد عن السياسة في بدايات عقد التسعينات. وفي سنة 1997، توجت النضالات باكتمال شروط النجاح السياسي في البلد حيث انتخب كيم داي جونج رئيسا للدولة وهو ناشط داعم للديمقراطية، وقد حكم عليه فيما قبل بالإعدام من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة. ونتيجة لهذا التحول الديمقراطي، أصبحت جمهورية كوريا الجنوبية عضوا مرموقا في النادي الخاص للدول المتقدمة صناعيا، والمتطورة ديمقراطيا. وسيول التي كانت مدينة محطمة يسكنها 900 ألف نسمة بعد الحرب الكورية هي الآن مركز متروبوليتاني من الطراز العالمي ويقطنها أكثر من عشرة ملايين نسمة. كما تمكنت منتجات الصلب، والسيارات، والالكترونات الكورية الجنوبية من غزو الأسواق العالمية. واعتبارا لما سبق نستخلص أن الدرس الذي قدمته لنا التجربة الكورية الجنوبية يؤكد أنه مهما بذلت الدولة من مجهودات في المجال الاقتصادي ومهما استثمرت في التجهيزات والأوراش الكبرى، يبقى التقدم المجتمعي رهين بالتقدم على الصعيد السياسي. لقد تأكد أن الافتراض الأمريكي الذي قدمته منذ 60 سنة لم يتحقق. فافتراض الأمريكيون أن معرفتهم الفنية العالية ستسرع في إحداث التغيير اعتبر افتراض سهل دام لأكثر من نصف قرن وانتهى إلى حقائق مؤلمة. فالتقدم السياسي والاقتصادي والتكنولوجي الذي تعرفه كوريا الجنوبية اليوم كان وراءه بالأساس تفجير ما يتمتع به الشعب الكوري من طاقات وإمكانيات مكبوتة. فالتقدم السياسي أبان عن قوة هذا الشعب. إن ما أبان عنه من مثابرة وروح المبادرة لم يتحقق إلا بعد القيام بجهود هائلة وطويلة الأمد من أجل دمقرطة النظام السياسي وتحديثه. لقد تأكد أن بلورة الإستراتيجيات الاقتصادية الناجعة تبقى مرهونة إلى حد بعيد بقوة العمل السياسي. وهذا الاستنتاج ليس بالجديد بل أكده جون مينارد كينس، أكثر رجال الاقتصاد تأثيرا في القرن العشرين وواحدا من مشاهير العصر من دون منازع عندما قال:«أن الاقتصاد يحتل مرتبة ثانوية، فهو عبارة عن تربية تقنية يجب أن تكون في المقعد الخلفي لسيارة تقودها الأخلاق والسياسة». ويرى هذا المفكر وأكبر رجال الاقتصاد تأثيرا في القرن العشرين وواحدا من مشاهير العصر، أن الشرط الوحيد لتحقيق ازدهار الدولة يتجلى في تحقيق الإتحاد بين النجاعة الاقتصادية بالحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. كما اعتبر البطالة تبديدا عبثيا للاقتصاد وظاهرة منافية للأخلاق لها مضاعفات سياسية خطيرة لأنها قد تفرز توترات اجتماعية عنيفة. كما برهن أن الوسيلة المثلى للنهوض بالتشغيل لا تتجلى في تخفيض أو تجميد الأجور بل في تدخل فعال من قبل الحكومات السياسية وخاصة عن طريق مشاريع أشغال عمومية ضخمة.