وقفت على قبر السلطان عبد الحميد الثاني، أحد أكبر سلاطين الإمبراطورية العثمانية الذي خلع عن العرش، في مؤامرة خسيسة تواطأت فيها القوى الصهيونية والماسونية، سنة 1909، والذي ولد سنة 1842 وتوفي سنة 1918. وهو السلطان العثماني الرابع والثلاثون، ووالده هو السلطان عبد المجيد. كنت أمر على المقبرة التي دفن فيها السلطان عبد الحميد الثاني في استانبول، التي تقع على الطريق العام الذي يمرّ فيه التروماي في حي السلطان أحمد، الذي أنزل في أحد فنادقه كلما زرت العاصمة العثمانية السابقة وإحدى أكبر المدن في العالم جمالاً وروعةً وعراقة ومجداً في التاريخ الإنساني، من دون أن أنتبه إلى أن في هذه المقبرة قد دفن أحد كبار الملوك المسلمين الذين دخلوا التاريخ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين. فقد كانت أبواب المقبرة مقفلة، أو هكذا كانت تبدو لي، إلاّ في زيارتي الأخيرة لاستانبول، التي شاهدت فيها ذات مساء بارد، خروج أفواج من السياح ودخولهم إلى هذه (التربة) وهو اسم المقبرة باللغة التركية، ولا يزال هذا الاسم مستعملاً في مصر . دلفت إلى قلب المقبرة، وأخذت أسير عبر الطريق الصغيرة وسط مقابر متفرقة هنا وهناك مبنية بشكل هندسي جميل وكأنها تحف فنية، ثم اقتربت من البناء الكبير الذي يقف على بابه أحد رجال الأمن، فاستأذنت في الدخول، لأنني ظننت أن الأمر يستوجب أداء رسم الدخول، فأذن لي الحارس الذي يلبس بدلة أنيقة مبتسماً، ولما دلفت إلى داخل البناء الفخم الذي يضم ما لا يقل عن عشرين قبراً كبيراً كل واحد منها مكسو بقماش أخضر وفي أعلى مقدمة القبر وضع طربوش أحمر مما نسميه نحن في المغرب (الطربوش التركي). وقفت أقرأ الفاتحة على أرواح هؤلاء الذين دفنوا في هذا الجزء الفخم المستقل من المقبرة. وحتى هذه اللحظة لم أكن أعلم أن السلطان عبد الحميد الثاني مدفون بالقرب مني، إلا بعد أن تقدمت خطوات إلى الأمام، لأتأمل في مصحف شريف وضع على رافعة بجوار الحائط، ولما أدرت ظهري إلى النافذة، ووقفت مرة ثانية في مواجهة القبور المهيبة المكسوة بالأخضر وعليها الطرابيش الحمراء، لفتت نظري اللوحة النحاسية التي كتب عليها باللغة التركية : (السلطان عبد الحميد الثاني : 1842-1918)، فأصابني الذهول، وانتابتني رعشة خفيفة، ووجدتني أعيد تلاوة الفاتحة وأقرأ ما تيسر من سورة يس. هاأنذا أقف أمام قبر الرجل الذي كان اسمه يملأ أسماع الدنيا، ويزرع الرعب في أعداء العالم الإسلامي، وكان مستهدفاً من ثلاث قوى شديدة البطش في ذلك العهد : الصهيونية التي كانت تتحفز للانقضاض على فلسطين التابعة للإمبراطورية العثمانية، والماسونية التي كانت قد تسربت إلى عاصمة الدولة وانتشرت أفكارها في أوساط النخبة، والكنيسة الأرثوذكسية التي التقت أهدافها مع الكنسية الكاثوليكية في الثأر والانتقام من الدولة الإسلامية العظمى. كان خلع السلطان عبد الحميد الثاني في ربيع سنة 1909، الخطوة التمهيدية نحو سيطرة الصهيونية على فلسطين، عبر مراحل متعاقبة قطعتها المؤامرة، بدأت من سنة 1909، ثم توالت في سنة 1917، ثم في سنة 1936، إلى أن انتهت المرحلة الأولى في سنة 1948 بقيام دولة إسرائيل، ثم في سنة 1967 بسقوط القدس كاملة في يد الاحتلال الإسرائيلي. ولا تزال مراحل المؤامرة تتواصل إلى اليوم. لقد استحضرت أثناء وقوفي أمام قبر السلطان عبد الحميد الثاني، ما كنت قد قرأته في مذكرات هرتزل أبي الصهيونية، بخصوص لقائه بالسلطان في سنة 1902، وطلبه منه السماح لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وهو الطلب الذي رفضه السلطان رفضاً قاطعاً. وتأملت في أحوال العالم الإسلامي سريعاً، فازددت يقيناً بأن ما يجري اليوم في فلسطين، وفي مناطق أخرى من البلدان العربية الإسلامية، هو من النتائج المترتبة على تنفيذ المؤامرة الكبرى ضد السلطان عبد الحميد الثاني. ذلك أن عزله عن الحكم ونفيه وأسرته في قصر مهجور محرومين من أبسط وسائل العيش، كل ذلك يشكل الخطوة الأولى على طريق طويلة محفوفة بالأشواك، والفصل الأول من قصة لم تنته فصولاً. يقول المؤرخ التركي نظام الدين نظيف في كتابه (إعلان الحرية والسلطان عبد الحميد الثاني) : «عندما رد طلب الوفد اليهودي –المسند من قبل الإمبراطور ويلهم- في الحصول على وطن لهم، أي عندما خاب هرتزل في مسعاه، اشتد العداء ضد «يلدز» –مقر الحكم-، وهذا ما كان يتوقعه عبد الحميد، لأن اليهود قوم يتقنون العمل المنظم، وكانت لديهم قوى عديدة تضمن لهم النجاح في مسعاهم، فالمال متوفر لديهم، وكانوا يسيطرون على أهم العلاقات التجارية الدولية، وكانت صحافة أوروبا في قبضتهم، فكان في مقدورهم إطلاق العواصف التي يريدونها لدى الرأي العالمي متى شاءوا ..». ويستمر المؤرخ التركي يروي للتاريخ قصة ما جرى عهدئذ : «بدأوا (أي اليهود الصهاينة) أولاً بتحريك الصحافة العالمية، ثم أخذوا بتوحيد وتجميع كل الظروف المعادية لعبد الحميد في المجتمع العثماني، فإذا بنا نجد أن أنصار المشروطية (الحركة الدستورية) يتخذون طابعاً منظماً وهجومياً، علماً أنهم كانوا حتى ذلك الوقت متفرقين ويعملون دون نظام ودون تنسيق، إذ لم يكن صعباً عليهم توحيد أعداء عبد الحميد الذين نشأوا في ذلك المجتمع العثماني الكوزموبوليتي «الخليط». فبمقدور مثل هذه المنظمة «الكوزموبولوتية» القيام بهذه المهمة. وقد أخذ المحفل الأعظم الماسوني الإيطالي على عاتقه هذه المهمة في التوحيد والتنسيق، لأنه كان أقرب مركز ماسوني للإمبراطورية العثمانية. ولعب محفل (Macedonia Risorta) ومحفل (Lux Labos) الإيطاليان وخاصة محفل «ريزورتا» في «سلانيك»، دوراً ملحوظاً». ويقول الكاتب الأستاذ أورخان محمد عليّ، في كتاب له عن السلطان عبد الحميد الثاني : «إن العقول الحقيقية للحركة الصهيونية الماسونية كانت عقولاً يهودية أو يهودية-مسلمة (من اليهود الدونمة)، وقد جاءت مساعداتها المالية من أغنياء «الدونمة» ومن يهود سلانيك ومن الرأسماليين العالميين أو شبه العالميين في فيينا وبودابست وبرلين وربما في باريس ولندن أيضاً». ويقول الزعيم الوطني السوري فخري البارودي (صاحب قصيدة بلاد العرب أوطاني)، في مذكراته الصادرة في جزءين عن دار طلاس في دمشق، والتي سبق لي أن قرأتها قبل سنوات، وهو يصف وضع دمشق بعد نجاح الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد : «وقد ساعد الاتحاديين على نشر دعايتهم اللوج «أي المحفل» الماسوني الذي كان مغلقاً قبل الدستور». ثم يقول : «وبعد الانقلاب فتح المحفل أبوابه، وجمع الأعضاء شملهم وأسسوا محفلاً جديداً أسموه محفل «نور دمشق» وربطوه بالمحفل الأسكتلندي». ويعترف أحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بما يأتي : «كان هناك نوعان من الأعضاء في الجمعية : أحدهما مرتبط بالمحفل الماسوني وهذا كنا نطلق عليه اسم «الأخ من الأب والأم»، وآخر غير مرتبط بالمحفل الماسوني، فكنا نطلق عليه اسم «الأخ من الأب فقط». ويعلق الكاتب التركي المعروف «نجيب فاضل» على هذا الاعتراف بتساؤل مرير :»أكان الضباط الاتحاديون في الجيش الثالث تحت إمرة الدولة يا ترى؟ أم تحت إمرة وخدمة اليهودية؟!. ويعلق الكاتب أورخان محمد عليّ : «والأدهى من ذلك أن هذه المؤامرة التي كانت الأيدي اليهودية تنسجها من وراء الأستار كانت تتم باسم الإصلاح وباسم مقاومة الظلم والاستبداد وتحت شعارات براقة مثل : الحرية، الإخاء، المساواة». ومن المصادفات العجيبة أنني وقعت، أثناء زيارتي الأخيرة إلى استانبول، على كتاب (السلطان عبد الحميد الثاني : حياته وأحداث عهده) لمؤلفه الأستاذ أورخان محمد عليّ الذي صدرت طبعته الأولى سنة 2008 عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة. وهو الكتاب الذي كنت متشوقاً إلى قراءته بعد أن قرأت إعلاناً عنه، ومؤلفه عراقي الأصل تركي الجنسية، توفي إلى رحمة الله قبل شهور قليلة. فكانت فرصة سعيدة بادرت فوراً إلى اغتنامها، حيث أقبلت على قراءة الكتاب ليلاً في الفندق، ومنه أنقل للقارئ هذه المعلومات عن السلطان عبد الحميد الثاني. يروي المؤلف القصة الأليمة على هذا النحو: «في يوم الثلاثاء المصادف لليوم السادس من ربيع الآخر لسنة 1327ه-27/4/1909م حضر الوفد المكلف بإبلاغ قرار خلع السلطان إلى قصر (يلدز) في الساعة 1:32 ظهراً، وكان يتألف من : 1- الفريق عارف حكمت باشا : كان عضواً في مجلس الأعيان وياوراً سابقاً للسلطان، و2- آرام أفندي : وهو أرمني وكان عضواً في مجلس المبعوثان (البرلمان)، و3- اللواء أسعد باشا : نائب «دراج» في مجلس المبعوثان، و4- عمانوئيل قره صو : يهودي من سلانيك إسباني الأصل، ونائب من سلانيك، كان يحمل الجنسية العثمانية والجنسية الإيطالية في الوقت نفسه! ومن زعماء الجمعية الماسونية في سلانيك والمحفل الماسوني الإيطالي». ثم يضيف هذا المشهد المؤلم إلى القصة : «دخل الوفد مع الميرالاي غالب بك على السلطان الذي استقبلهم واقفاً، وقد بادره أسعد باشا قائلاً له : لقد أتينا من قبل مجلس المبعوثان.. وهناك فتوى شرعية شريفة.. إن الأمة قد عزلتك. ولكن حياتك في آمان. فاعترض السلطان على كلمة «العزل»، وفضل استعمال كلمة «الحل». ثم تلا قوله تعالى من سورة يس : ذلك تقدير العزيز العليم. ثم التفت إلى الوفد مشيراً إلى «قره صو» اليهودي قائلاً : «ألم تجدوا شخصاً آخر غير هذا اليهودي لكي تبلغوا خليفة المسلمين قرار الحل؟». ثم أردف قائلاً وهو يشير إلى حوادث 31 مارس التي أتهم فيها بأنه هو المدبر لها: «إني لم أفعل ذلك، وعلى الأمة أن تفتش عن مسببها وأن تجدهم، لقد بذلت كل ما في وسعي من أجل صالح شعبي، أما الآن فقد ذهب هذا هباءً منثوراً، لقد أسدلوا ستاراً كثيفاً على خدماتي ... لقد كان هذا قدري. إن على الشعب أن يكشف المسببين، ولكني أرجو أن أقيم مع عائلتي في قصر «جراغان» الذي كان يسكنه أخي». لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني على وعي كامل بأن خيوط المؤامرة المحاكة ضده هي في أيدي اليهودية العالمية لعدم استجابته لبيع القدسوفلسطين لهم. وهو الموقف التاريخي العظيم الذي كان سبباً في تشويه صورته على نحو غير معهود في التاريخ المعاصر. يقول الكاتب التركي حسام الدين أرتوك، وهو أحد رؤساء الأمن القومي السابقين في تركيا، في كتابه «ما وراء الأستار في عهدين» راوياً للتاريخ هذا الجزء من المشهد الدامي من حياة السلطان المتآمر عليه: «قال لي مرة صديقي ملازم أول خيالة» زنون دبره لي»: «عندما كنت في حراسة السلطان عبد الحميد شكا لي السلطان المخلوع في أحد الأيام قائلاً : «إن أشد ما آلمني هو تبليغي بقرار الخلع من قبل ذلك اليهودي الماسوني، فأنا لا أستطيع نسيان «عمانوئيل قره صو» من بين وفد المبعوثين «النواب» الذين جاءوا إلى يلدز. لقد كان هذا إهانة لمقام الخلافة. ونحن جميعاً نعلم مدى الحقد الذي يكنه اليهود منذ زمن الرسول r للإسلام ولمقام الخلافة، وعندما كنت على عرش السلطنة العثمانية، جاءني في أحد الأيام «تيودور هرتزل» مؤسس المنظمة اليهودية العالمية مع رئيس الحاخاميين، وذلك من أجل غاية صهيونية، وقبلت الزيارة للاستماع إليهم لمعرفة مقاصدهم، فكان طلبهم هو الحصول على وطن لليهود، وكانوا يقترحون القدس لذلك، حتى إن تيودور هرتزل قال بلا خجل : «أحب أن أعرض على جلالتكم بأننا مستعدون لتقديم الملايين التي ترونها مناسبة من الذهب حالاً من أجل القدس». هكذا كنت أفكر وأتأمل وأسترجع الأحداث التي عاشها السلطان عبد الحميد الثاني والتي لا تزال تنعكس على حاضر العالم الإسلامي ولربما تنعكس غداً على مستقبله، أثناء وقوفي على قبر الرجل الذي كان يهز الدنيا، والذي وقف صامداً مدافعاً عن فلسطين.