هامش على سبيل التوطئة، ويتعلق الأمر بالتهميش الذي طال كثيراً من المبدعين، إذ لم يُلتفت إلى تجاربهم المتميزة بما يكفي من متابعة نقدية رصينة، وذلك لسبب من الأسباب أو على الأرجح لأسباب يعرفها العادي والبادي من قبيل «انصر أخاك فهو ابن القبيلة أو الحزب أو لغرض في نفس يعقوب يعرفه مزاج الكثيرين من الذين اعتنوا بتجارب معينة دون غيرها.. بل وأسقطوا من مزاجهم أصواتاً لأن الكتابة عنها لن تفيد في اجتياز امتحان أو الحصول على شهادة أو مكرمة من المكرمات .. كثيراً مما كتب عن مبدعين معينين كُتب لأنهم في مواقع مُعينة، فسَال المداد حدّ الخجل. فلمّعت أسماء وأشيعت وسافرت باستمرار إلى المهرجانات الدولية وربطت علاقات وكُرّست وتُرجمت إلى عدة لغات. في حين هناك تجاربُ إبداعية هائلة في منجزها الشعري، تكتب في صمت وأناةٍ وتمارس الفعل الإبداعي الحقيقي دون القفز على الحواجز ودونما استباقِ لحرق المراحل. هؤلاء قلّما التفت إليهم النقد، وإن فعلوا فبِخجل دون الغوص الحقيقي في نُسْغ هذه التجارب وإيفائها حقّها بما يكفي... الأستاذ الشاعر «محمد الصابر» واحد من هؤلاء الذين أغمط حقهم، راكم تجربةً تستحق الوقوف وليس مُرور الكرام.. في رصيده ستُّ مجموعات شعرية وثلاثةُ عقود من الإبداع المتميز... مهووس حدّ الجنون بالشعر كتابةً وقراءةً له في كلِّ الجغرافيات فهو دائم البحث عن الشعر الخالص مذ عرفته في مطلع الثمانينيات وكان أول من حدثني عنه المرحوم الشاعر «عبد الله راجع»، بل كلما جلست إليه آنذاك في بيته أو في المقهى المجاور لثانوية مصطفى المعاني، حدثني عن محمد الصابر كشاعر شاب واعد، وأذكر أنه قال لي مرّة أن أنشُر معه أي صابر مجموعة شعرية مشتركة للتغلب على شروط النشر التي كانت قاسية ومكلّفة آنذاك. كان عبد الله راجع، يملك حسّاً نقْدياً ملفتاً للنظر فهو أحد الكُهّان العارفين بكمياء الشّعر. رأى فيه شاعراً واعداً فلم يخطىء حدسُه أبداً منذ أن حمل إلى مجلة «الثقافة الجديدة» قصيدته «تجليات النورس المحتمل» العدد 20 سنة 1981. هذه القصيدة أعلنت ميلاد شاعر حقيقي وقد بدا حينها شاعرا استوفى أدواته كما لو أنه كان يكتب منذ عقود ... تشرب روح الحداثة الشعرية رؤية وتخييلا وإبهارا في الصور دون الانسلاخ عن الوجع الانساني، وهو الشديد الإرتباط بالأرض حد الولع بها والهيام. بدا في هذه القصيدة شاعرا رصينا واثقا مما يفعل، بل بدا أكبر سنا من قصيدته. هل كان وحده يخدش العتمات؟ يقول: «لليل وجه ووجه ووجه/ هي الفلوت ترشح عاشقها خائنا للصباحات/ أي الرصاصات هذي التي تنتمي لصفائك والوجه/ يمخر فرحته الكاظمة/ إن يكن ظلمك العادل شدني للوصال / فهذا حصاني قل جاهز لانتعال الليالي التي نصبتك غريبا». سنة بعد ذلك، أي في سنة 1982 أشاد الشاعر «عبد الله راجع» بمحمد الصابر في حوار أجرته معه الطليعة الأدبية التي كانت تصدر في العراق، وكان السياق هو الجواب عن سؤال: ماذا عن الشعراء الشباب المغاربة؟ يقول عبد الله راجع: «هناك شعراء مغاربة شبان يكتبون القصيدة بطريقة جيدة مثلا محمد الصابر زويتني بوجيبري ومازلت انظر الى هولاء الثلاثة الى ما ينبغي أن ينظر الى القصيدة المغربية، لقد كتبوا قصائد لاترتمي على أعتاب شاعر آخر وأعتقد أن هذا هو الشوط الأساس لقيام الشاعر. أن يمتلك صوته المميز وأن تمنحك قصيدته نكهتها الخاصة، وهكذا يفتتح محمد الصابر عالم المكابدة وزويتني عالم آللهاث عبر النفس القصير الذي يميز كتاباته ومايزال يفعل محمد بوجبيري إلى استلهام أدوات الطبيعة ليعبر عن تمزقات هذا الجيل. يكون كل واحد من هؤلاء صادقا مع نفسه وممتلكا للأدوات التي تمكنه من أن ينقل هذا الصدق الى الآخرين. طبعا هناك أسماء أخرى لم تتضح ملامحها بعد..» ص 120 العدد يناير فبراير 1982 . أنا مدين لعبد الله راجع في أمور كثيرة، منها صداقة محمد الصابر، منذ ذاك الزمن الشيق، أيام البحث عن الذات والسؤال توثقت صداقتنا لم يعكر قط صفوها أي شيء. عرفته عن قرب، كما عرفني كان ساعتها نحيفا قلقا على الدوام «كان حاملا لقلق المبدعين ويعرف كيف يؤثثه في فضاء قصائده التي عبر فيها عن حب عارم. لمدينته البيضاء فضاءاتها المتعددة مرورا بزهرة البراري والورشان والأرض بولعها والعتمة وصولا إلى الجيل الذي ليس عقلانيا، وكنت أزوره في مكتبه في قرية الجماعة بسباته وهو في بداية مشوار المحاماة... قرأنا الشعر معا في مهرجان سلا وفي البيضاء والشاون، وغيرها من الأماكن... بعد ذلك عصفت بنا تبعات الحياة وغاص كل في محنه وانشغالاته، لكن ظل ذلك الاتصال الروحي قائما. كانت تلك المسافة أيضا أساسية لأنها سمحت لي كلّما استحضرت شخصَه أن أستعيد صورة الشاعر المرهف الحس وصاحب مبادئ لايتنازل عنها أبدا. صاحب مزاج حاد - على الأقل في نظري - وعليك وأنت تخاطبه أو تجادله أن تحتاط وأن تضع الكلام في موضعه إلا فعليك أن تتوقع منه ثورة عارمة.. وإذا كنتَ من أصدقائه الأوفياء فإنه يعاتب في يُسْر أو يُغلِّف عتابه بمزحةٍ أو مستملحةٍ تتبعها قهقهاته التي لاتملك إلا الانخراط فيها وفيُّ للصداقة. وأذكر كيف بكى في المصحة بعد وفاة صديقه الأثير الشاعر والقاص والصحفي «المهدي الودغيري».. أذكر أيضا أنه رافع عني بالمجان في دعوة الإفراغ من البيت وبفضله كنتُ في مأمن إلى أن غادرت ذلك البيت بمحض إرادتي. كان هذا بعضاً من الصابر الإنْسان.. أما الشاعر فأُداومُ قصائده قراءة، ومن خلالها أتواصل معه وأعرف ذبذبات كينونته الخاصة.. فشعره يمتحك فرصة للتعرف على الحالم فيه والسّار والقلق.. قصائده ذات نفس ملحمي.. ذات نفس طويل تدل على باع طويل في الممارسة الشعرية. شعره مُشبع بواسع ثقافته نلمس ذلك في المعجم وأسماء الأعلام والأمكنة، يغرف من الموسيقى والفلسفة والأدب والتاريخ ومن وداي أحلامه وله قدرة خاصة على تذويب كل تلك العناصر في نشيده السّري الآيسر. له قصائد أعيد قراءتها بين الحين والآخر ولم أعثر بعد على مايشدني إليها.. أقصد ذلك المنفلت دائما وأبداً.. أقصد الماهية الحقيقية التي جعلتها في تلك الرّوعة.. قصائد من قبيل الأمهات و«الصقر» الذي تقمَّصه وخلق معه في الأعالي وانحدَر منه إلى المغاور والأودية، وطاف معه في كل الأمكنة.. أذكر أيضا قصيدة «واصنع الفلك بأعيننا» و«الجبل ليس عقلانيا» وغيرها من القصائد التي ضرب فيها بقوة على سندان الشعر وأسس لنفسه رياضا في مملكة الشعراء الكبار.. لصديقي الشاعر محمد الصابر محبتي الخالصة وعمراً مديداً ومزيداً من العطاء المتميز. البيضاء 09/01/15