جبة الله يشتغل الشريف الشرقاوي مؤذنا و «مهللا» بجامع الشرفاء بالمدينة العتيقة منذ أن ورث هذه «الحرفة» عن أبيه الذي ورثها بدوره عن جده. وهكذا ، يستيقظ الشريف الشرقاوي كل ليلة، في عز الصيف والشتاء في الثلث الأخير من الليل، ويصعد فوق المئذنة الممتدة ... ويروح بصوته القوي والشجي يترنم بالصلوات والأذكار... حتى يحين آذان الفجر... فيؤذن. في الصيف يكون الأمر سهلا. ولكن في الشتاء يصعب الحال. لذا تطوع أحد المحسنين، فوهب جامع الشرفاء ميكروفونا وبوقا استعملهما الشريف الشرقاوي ثلاث ليال بالتمام والكمال. وفي الليلة الرابعة-وكانت بردا زمهريرا- فوجئ سكان درب الشرفاء بصوت الشريف الشرقاوي القوي والشجي ينطلق في الثلث الأخير من الليل ،وعند الفجر، مهللا ومؤذنا بلا ميكروفون ولا بوق. لقد صعد الشريف الشرقاوي فوق المئذنة مرتديا جبة الصوف الثقيلة الزاهية التي ورثها عن أبيه والمعروفة ب»جبة الله» ، حيث إن خياطي درب الشرفاء هم الذين ?مجتمعين- يفصلونها ويخيطونها ، ثم يهبونها في حفل كبير لمهلل ومؤذن جامع الشرفاء ليلبسها ، فتحميه من البرد والزمهرير أثناء التهليل والآذان فوق المئذنة الممتدة... وهذه عادة متواترة منذ القدم في درب الشرفاء. ولما سأل أحد المصلين الشريف الشرقاوي عن سبب عدم استعماله للميكروفون والبوق في التهليل والآذان ?وهما أيسر- أجاب وحسب: - جبة الله فيها الخير والبركة! وهكذا ، عاد صوت الشريف الشرقاوي ، القوي والشجي ،يقوي و يشجي قلوب سكان درب الشرفاء بالتهليل، ويوقظهم للصلاة... بدون واسطة. كما بدأت فكرة بعينها تروج وسط خياطي درب الشرفاء: من المعلمين إلى المتعلمين.حيث ?ذات عصر جمعة-جمعهم مقدم الحنطة في فناء الجامع، وخطب فيهم قائلا: - سنتوكل على الله ،يا جماعة، ونخيط جبة جديدة ثقيلة و زاهية للشريف الشرقاوي يلبسها أثناء التهليل والآذان في ليالي البرد والزمهرير(صمت ثم تنهد): فجبة الله التي ورثها عن أبيه قد قدمت وبليت وهو يرفض أن يهلل - و يؤذن بواسطة الميكروفون و البوق. قال الجميع: سنفعل إن شاء الله. ولما علم الشريف الشرقاوي بالخبر أصلح -وحسب - وضع السلهام الخنبوبي فوق كتفيه والعمامة الشرقاوية فوق رأسه، و قال : - ليس المهم الجبة ولكن ما تحت الجبة! واستمر الشريف الشرقاوي في التهليل والآذان بدون ميكروفون ولا بوق. وشرع خياطو درب الشرفاء في تفصيل و خياطة «جبة الله» الجديدة: الجبة الثقيلة والزاهية.وهذا عمل قدروا أنه سيستغرق وقتا طويلا. فكل شيء في تفصيل و خياطة جبة الله هو خاص: الصوف والخيوط وإبرة الخياطة نفسها: فالمهم أن يلبس الشريف الشرقاوي «الجبة» الجديدة ،ويصعد فوق المئذنة ليهلل ويؤذن في ليالي البرد والزمهرير فلا ينال منه البرد و الزمهرير لا حقا ولا باطلا-كما يقال. هكذا علق مقدم حنطة خياطي درب الشرفاء. وتمت خياطة «جبة الله « الجديدة الزاهية، وحملها مقدم الحنطة بنفسه إلى بيت الشريف الشرقاوي الواقع أسفل المئذنة ...الممتدة ، وطرق الباب،ولم يرد أحد، وأعاد المقدم الطرق مرارا،ثم دفع الباب...المفتوح.وانكشف المنظر التالي: الشريف الشرقاوي مرتديا جبة الله القديمة و المهلهلة... ممدودا فوق حصير قديم و مهلهل: العينان المكحلتان مغلقتان فيما يشبه الاستغراق في النوم العميق والهادئ، والوجه الضامر يشع منه ضوء مثل زيتونة لا هو شرقي و لا غربي. إن الرجل المهلل و المؤذن ميت و شبعان موتا. وتقدم مقدم حنطة الخياطين متمتما ببعض الدعوات والبركات ونشر «جبة الله» الجديدة الزاهية فوق «جبة الله» القديمة و المهلهلة ...ثم انسحب صامتا صمت مئذنة جامع الشرفاء التي لم ينطلق منها، في الغد، صوت مهلل أو مؤذن... القفزة الكبرى يشتغل الأستاذ عبد العالي عز الدين مدرسا يدرس الفلسفة لأولاد المسلمين في ثانوية بالمدينة العتيقة. وهذا عمل لم يكن يستغرق وقته بالكامل: فساعات تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية معدودة،و التلاميذ عموما غير مبالين،وبالتالي، كان يتبقى وقت طويل للأستاذ عبد العالي عز الدين يصرفه في العمل الوحيد الذي يشغله: التفكير في العمر الذي ينقضي معلنا اقتراب المواجهة مع المصير المحتوم: الموت. فالأستاذ عبد العالي عز الدين لم يتزوج وينجب ويملأ البيت بالأولاد كما يفعل البشر العقلاء ،ولكنه تنسك كالفلاسفة وملأ البيت بالكتب. ويوم زاره زميله أستاذ الرياضيات ?سين- في الثانوية ذهل لعدد الكتب وحجم صفوفها الهائل وسأله: هل قرأت يا السي عبد العالي عز الدين كل هذه الكتب؟ وهل استخلصت منها شيئا محددا؟ وما هو هذا الشيء المحدد؟ كان هذا سؤالا فكر فيه الأستاذ عبد العالي عز الدين نفسه مرارا وتكرارا -كما يقال. ولم تمر سوى شهور معدودات حتى زاره أستاذ الرياضيات نفسه -الأستاذ سين - في بيته وقد تبدل حاله تبدلا عجيبا ، بحيث أنه أطلق اللحية ولم تعد السبحة تفارق يديه ، وقال له: أنت يا أستاذ عبد العالي عز الدين تبحث عن الحكمة ، و الحكمة كلها جمعت ووضعت في رأس واحدة هي مخافة الله.وما ينقصك يا أستاذ عبد العالي عز الدين هو أن تقوم- مثلي- بالقفزة الكبرى،قفزة الإيمان البسيط، فتدرك شط الأمان القلبي والعقلي. وفكر الأستاذ عبد العالي عز الدين في هذا القول متفلسفا: لقد قرأت كل كتب التصوف و أنا أحس بالاستغراق التام أثناء فعل القراءة.ولكن أنا رجل عقلاني أو هكذا أتخيل نفسي.ولكن أقول وأردد: لا أدري.لا أدري. لذا أنا أقرأ نصوص التصوف الكبرى وأنا في حالة ذهنية عجيبة: الجسد في الحانوت والروح في الملكوت.وهذه ليست عبارتي ولكنها عبارة ذاك الرجل العقلاني والروحاني الذي مثلي، بدون شك ، كان يتصور القفزة الكبرى ويعجز عن تحقيقها. وذات يوم خطرت للأستاذ عبد العالي عز الدين فكرة طريفة حيث إنه طلب من تلامذته أن يكتب كل واحد منهم نصا إنشائيا يصف فيها الله. فجاءت الأجوبة ساذجة و طريفة. ولكن جوابا واحدا لفت انتباه الأستاذ عبد العالي عز الدين بحيث قرأه في ذهول. كتب تلميذ ما يلي: الله هو ما نراه نحن وهو لا يرانا. وفكر الأستاذ عبد العالي عز الدين: إنه لم يقرأ هذه العبارة قط في أي كتاب سابق. وسأل التلميذ المعني عن الكتاب الذي نقل منه هذه العبارة فأجابه التلميذ في عفوية : أنا يا أستاذ لم أنقلها من أي كتاب. هذه العبارة جاءتني وأنا أراك في القسم يا أستاذ تنظر إلينا دائما وكأنك لا ترانا بينما نحن نراك و أنت في حال الحاضر الغائب. وقال الأستاذ عبد العالي عز الدين في نفسه بأن التلميذ العجيب يصف حاله تماما. وفكر في زميله أستاذ الرياضيات سين. وفكر في المعنى الحقيقي للقفزة الكبرى. وقال بأن القفزة الكبرى لا يلزم أن تكون محسوبة وإلا فقدت اعتبارها كقفزة كبرى.وفكر طويلا: من قال هذه العبارة : كانط أم نيتشه؟ ومن هنا ، فهو ، الأستاذ عبد العالي عز الدين، أستاذ الفلسفة في ثانوية المدينة العتيقة، لا يمكنه أبدا القيام بالقفزة الكبرى لأنه ببساطة يحمل في رأسه آلة خفية ما تنفك تحسب وتطيل في الحساب.ومع ذلك فهو يحس في قرار روحه أو عقله (لا يدري) بأنه في كل لحظة من لحظات العمر المنقضي يقفز قفزات كبرى و صغرى؟ ( لا يدري). وذات مساء من أماسي الخريف البليلة (طائر الحكمة لا يطير إلا في المساء، وإذا كان المساء خريفيا ومبللا فهذا أنسب!) وقعت له الواقعة العجيبة التالية: لقد أغمض عينيه، وحبس أنفاسه، وقفز ?أخيرا- القفزة الكبرى.وأحس أنه يهوي، ويهوي، وسرعة سقوطه تزداد اطرادا ?وهذا أمر غريب- مع حاله المستقر. وطال أمد السقوط. وحاول الأستاذ عبد العالي عز الدين أن يفتح عينيه و يرى ... لكن بدون جدوى: إن ضبابا، ما هو بالضباب، يحجب عنه الرؤية. وسمع أصواتا : هذا صوت يستغيث. هذا صوت بوق سيارة إسعاف. هذا صوت زميله أستاذ الرياضيات ?الأستاذ سين- يهتف و كأنه في حيرة من أمره: كنت أتوقع أن يقوم بكل شيء إلا أن يقفز هذه القفزة الكبرى اليائسة