فوت علينا معشر نحن الأستاذات الباحثات الإخوة المنظمون للأمسية التكريمية للأديب المتألق الأستاذ عبد الجبار السحيمي فرصة المشاركة بكلمة تعبر عن الاعتزاز بكتاباته الصحفية أو القصصية، والتنويه بنبوغه وتألقه في سوح الكتابة النقدية الإصلاحية او الإبداعية، ومع ذلك، فسأحاول الحديث عن شخصيته صحفيا ملتزما وأديبا مقتدرا كما عرفتها من خلال كتاباته وانتقاداته: الأستاذ عبد الجبار السحيمي من الأسماء اللامعة في ميدان الكتابة، وفي عالم الصحافة، ناسك في محراب الكتابة الهادفة الى الانتقاد والتصحيح والتوعية ، كتابته ساخنة بعباراتها ومعانيها، تطاوعه الأساليب في أخطر الموضوعات وأدقها، وفي أحرج اللحظات وأشدها، تفتنك إشارته، وتأخذك عبارته وتثيرك بداهته، ومن ثم يطالعك اقتداره ورائق اختياره... يهيم في عالمه، ليعانقه عناقا حميميا: فهو يرى ويسمع ، ينتقد ويأسف، ويحظى بقلم يطرز به خطوط يده ويوشيها، ليتحفنا بها مقاطع رائقة من أدب رفيع، يجلو به أدران واقع متعفن، بلطف ورصانة، ودقة ورزانة، ونقد وبراعة، فيضوع عبقها، ويفيدك لمحها. الأستاذ السحيمي وهو يشاكس القارئ بخط يده، يحسن المشاكسة، ويتفوق في الإثارة: إثارة القارئ من جهة، وإثارة الموضوع من جهة ثانية، بطريقة أو بأخرى، بجرأة وشجاعة، وقدرة على الإفصاح عن المسكوت عنه ببساطة وعفوية. تشدك كتابته وتبهرك تعليقاته ، فمقالاته هادفة، ذات نفس طويل في انتقاد الأوضاع المزرية، وفي اقتراح الحلول المجدية، يبدو فيها ذو بصيرة نافذة، وهو يعالج الأحداث بهدوء، ومن ثم، فهو يغبط على أناته وهدوئه في توجيه الانتقادات، وفي اقتراح الاصلاحات بصراحة ووضوح، وبساطة وشموخ يقول في زاوية »أنا الموقع أسفله« بتاريخ 6 دجنبر 2000 عن الواقع الثقافي في البلاد، وعن التردي الذي يعيشه الكتاب وعن تدني مستوى الكتابة »حصلت لي هذه الانتكاسة حين رأيت ركام كتب على الأرصفة ، يعلوها الغبار، ويمر بها الصبيان والصبايا لايتفضلون عليها ولو بالتفاتة عين، وقلت ربما يكون الحق معهم، فكثير من الإصدارات شعرا أوقصة او رواية استباحة وتسيب في غياب أي محستب » لكن يستدرك الكاتب قائلا: » في نفس الوقت اجد كتبا كنا نتسابق اليها رغم ارتفاع اسعارها وقد أصبحت ملقاة فوق طاولات من الخشب بثلاثة دراهم فقط للكتاب « ويضيف: »إنها تدور، ولا بأس أن يتصادق الكتاب مع الرصيف، وينزل من كبرياء الرفوف، ولا بأس أن يساوي ثمن الكتاب ثمن الخبزة، ويختم ركنه الأسبوعي بقوله: »شجاع من يستمر في الكتابة، شجاع من يذهب الى ناشر ويطبع كتابه«. ويظهر أن براعته في تصيّد الأساليب الذكية، والمراوغة في طرق الموضوعات الشائكة يعودان إلى تنوّع قراءاته، وإلى تعدّد صداقاته، وإلى نضج أفكاره وتصوراته، إضافة إلى خبرة كبيرة بأساليب الكتابة على اختلافها وتنوعها، بلغة راقية، لكنها بسيطة، تتدفق منسابة سلسلة، يستعذب المتتبع كيفما كان حلاوتها وطلاوتها، سحرها وبريقها. من انتقاداته الساخرة في عموده الشهير »بخط اليد« ما يجد عليه الناس من عيّ وصمت أمام تدهور الأوضاع على اختلافها، يقول: »سوف يأتي يوم يحاسب فيه الناس على الصمت. سوف يأتي يوم يحاسب فيه الناس على أن أرض الله واسعة، فلم يهاجروا سوف يأتي يوم تفزع فيه المرضعة عما أرضعت. علامة ذلك اليوم، انتشار مرض البراءة، مرض الصمت والصمم وإغلاق العينين«. (مرض البراءة، بخط اليد: ص 17) يبدو الأستاذ السحيمي في أغلب الأوقات بصمته ووقاره وتأمله بعيدا عن عالم الآخرين، بعيدا عن أوضاع البلاد التي تؤذي المشاعر والعقول، لكن الواقع غير ذلك، فهو يلاحظ ويسجل ويدوّن، ميزته أنه لا ينفعل ساعتها كما نفعل نحن يختزن في ذاكرته صورا ومشاهد عن هموم المواطن البسيط، وعن ظروف الشعب البئيس، وبعد أن تختمر كل تلك المشاهد والأحداث في فكره وذاكرته، يطل عليك من نافذته، بل من عموده الأسبوعي، بكتابة تهز مشاعرك، وتفتح عينيك جيدا على ما أغفلتاه ، ولو أنهما رأتاه، إنها عين الكاتب اللاقطة، وذاكرته اليقظة، وقلمه المتمرس على التعبير والاختيار وحسن الأداء. ميزة الأستاذ السحيمي أنه نجح وينجح باستمرار في التعبير عن حبه لوطنه وغيرته على مجتمعه بوسائله الخاصة وأدواته الإجرائية، فلا يترك موضوعا شائكا إلا طرحه بناء على رؤية واضحة، ولا قضية وطنية إلا وتناولها بمبضع الجراح رغبة في التصحيح والإنقاذ. نفتقد اليوم أعمدة الأستاذ الصديق عبد الجبار السحيمي، نفتقد قلما سخره لخدمة الصالح العام، نفتقد أحاديثه الصادقة، وجلساته الأخوية، شافاه الله ليعود إلينا كما عودنا قويا صلبا، شغوفا بعمله، محبا لصحيفته التي أخلص لها، وللقلم الذي ارتضاه خليلا وصديقا في حله وترحاله، ودعاؤنا له باجتياز المحنة التي يعيشها ليعود إلى قرائه وأصدقائه وأهله وعشيرته، وإلى أسرته الصغيرة سليما معافى بإذن الله. الرباط، في 22 محرم1431 هC8 يناير 2010 م