هل يمكن بجرة عود ثقاب، أن نحول الجمجمة، الى مجمرة لاحتراق الذاكرة، ونجزم بموت الكتاب...؟؛ من وجهتي التي لا بوصلة تستطيع خندقتها في رأي قطيعي، أعترف أن أصابعي ما فتئت تخف فوق أزرار الحاسوب كالمغزل الدوار على ساق جدتي، لكن يعسر على يدي التخلص من الرائحة الفاغمة للكتاب، فبالأحرى ما يكتنفه من مكتوب في الآداب والعلوم مازالت أسطرها تتسكع بالمعرفة في أفئذتنا منذ سحيق الأعصر؛ تراه الضوء يعم العالم من هذه القناديل الالكترونية المصفوفة على المكاتب في أشكال هندسية مختلفة، أم أن ذا الضوء مجرد محرقة كبرى تَشِبُْ في الكتاب دونما نار أو رماد؟؛ كل الألسن تلهج دون أن يعتكز عرجها على قلم؛ (الكتاب الإلكتروني قادم...)؛ بل إن مؤسسيه قد عمدوه باسم جميل لايعدم جَدًْا في معجم القراءة، فغدا يُعرفُ هذا الوافد المعدني، بميسم «قَرَْاء liseuse»؛ تراه سيخلع حقا الكتاب المطبوع عن العرش؛ تلكم إذا كانت القطرة التي أفاضت قدح حوارية أجراها «جان فيليب دوتوناك» فانتسج عن رحمها كتاب صدر أخيرا عن دار غراسيت الفرنسية تحت عنوان «لاتأملوا التخلص من الكتب» ل «جان كلود كاريير » و «أومبيرتو إيكو»؛ معلوم أن هذين الكاتبين قد ذابا ولعا في عشق الكتب، ولم يحبذا أبدا السبل الموجزة؛ ذلك أن «جان كلود» مفتون بالمختلف الموغل في البلاهة، بينما السيميولوجي والروائي «أومبيرتو إيكو» يعشق تجميع المؤلفات ذات العلاقة مع الأشياء المغلوطة ؛ وإذ نؤوب الى الكتاب المستمسك بأوراقه الصفراء في مهب زوبعة التقنية، نجد أن إيكو وجان كلود قد أسهبا حديثا في محبة الكتاب كما لو كان الكلام عن أرسطو، نابليون، فيليني، أو بوذا؛ ويجزم إيكو في الامتداد المصطخب لهذه الحوارية، أننا مع الأنترنيت قد رجعنا الى العصر الألفبائي الأول، مندلقين إلى حضارة الصور، ذلك أن الحاسوب قد أقحمنا من جديد في مجرة غوننبرغ؛ وغدا الجميع اليوم مجبرا على القراءة؛ لكن كيف لنا بقراءة رواية، مثلا، إن لم يكن الكتاب هو المسند الأنجع؟؛ ليبقى الكتاب مشبوبا برومانطيقية قد تمنح حتّى للجسد في وضعيات القراءة المُختلفة، إيقاعا شعريا؛ كأن تسبقك الأعين للارتواء من منظر امرأة تقرأ على الشاطئ، وقد وهبت أثوابها للرياح من أجل أن تبقى ممسكة بكتاب شغفها قراءةً؛ ولا يمكن هنا أن نعمى عن رؤية كبار الرسامين العالميين الذين صاغوا من الكتاب حلية ثمينة تزدان جسد المرأة القارئة... لا أحد يعارض أنه يمكن تطوير الكتاب في بعض مكوناته كأن لا تصبح صفحاته من ورق؛ لكن يبقى في جوهره هو ذاته؛ فالكتاب - حسب الحوارية التي بين إيكو و«جان كلود» - مثل عجَلة أو حتى مطرقة، يكتسي صنفاً من الكمال الذي لا يُتجاوز؛ لذا لا يستسلم البحَْاثتان أبداً إلى الموت المعلن للورق؛ فليس ثمة من زائل - في نظرهما - سوى الدعامات الثابتة؛ ذلك أن أدوات تخزيننا تبْلَى بسرعة قصوى، وليس لدينا ماكنات ملائمة لقراءة أسطوانات المعلومات التي تعود لسنوات 1980 أو لما قبل التاريخ المعلوماتي ؛ لنقل إن الكتاب المطبوع هو الذي يقاوم أفضل في خضم التطور التقني وفعل الزمن؛ إذا يمكن تقدير سيئات الحقل المعلوماتي دون أن نكون ماضويين؛ في البدء يجب تعلم القراءة، مثلما نتعلم ركوب درّاجة؛ فهذا الأمر مفيد في الحياة؛ كما يجدر من الآن فصاعداً، التكيف باستمرار مع الابتكارات التقنية، لنغدو طلاّباً أبديين، مُتَجاوَزين، قلقين ومحرومين دائماً؛ فالثقافة بمثابة اختيار، وليس ثمة من دماغ لا يمكنه تخزين كل معرفة العالم؛، وقد مَكَْن اكتشاف المطبعة، من أن نحفظ في كتب جوانب كاملة من الذاكرة الإنسانية؛ ولا يجب نكران أن الأنترنيت يروي أيضا ظمأنا بالتفاصيل ويغرقنا بمعلومات يجعلها جميعا في ذات المستوى؛ «إن المعرفة، يلاحظ «جان كلود كاريير»، هو نقل علم إلى تجربة حياة»؛ فهل نحن قادرون إذاً أن نعهد بحمولة معرفية لا تني تتجدد، إلى الآلات أكثر من الكتب؛ هنا يكمن مستقبل القرّاء الذين هم نحن...!