أكد الخبير الجبائي الأستاذ ادريس فلكي أن إمارة دبي كانت ضحية نجاحها ، بعدما استطاعت أن تتبوأ مكانة متقدمة في عالم التجارة والمال والأعمال ، موضحا أن الأزمة التي عرفتها هذه الإمارة خلال الأسبوعين الماضيين تداخلت فيها العديد من العوامل ، مبرزا أن هذا المشكل ربما كان مبالغا فيه ، وتفاقم بسبب ضعف تداول المعلومات و انعدام الثقة وطغيان العنصر الأجنبي ، وهي عناصر سلبية ، يجب معالجتها من أجل إنجاح المشاريع التنموية وتجنب الانعكاسات السلبية للأزمات المفاجئة .. وأوضح فلكي في حوار مع جريدة العلم أن تأثير أزمة دبي على المغرب سيكون محدودا جدا حسب التوقعات، داعيا صناع القرار في المغرب آن يدركوا بأن الأزمات قد تشكل فرص حقيقية لإنجاز المشاريع وتحقيق التقدم والرفاه .. في ما يلي نص الحوار : س :لا شك أن الحدث الذي عرفته إمارة دبي أخيرا سيدفع الباحثين والخبراء ،إلى دراسة أسبابه ودوافع وتداعياته ، في نظركم كيف انفجرت الأزمة بهذه السرعة علما بأن المسؤولين في الإمارات العربية سبق أن اتخذوا مجموعة من التدابير لتطويق الأزمة العالمية؟ ج : على إثر انفجار الأزمة العالمية وتفاديا لانعكاساتها السلبية على دبي ، سارعت السلطات الحكومية ، على غرار ما قامت به العديد من الدول كالمغرب ،إلى إحداث لجنة لتتبع الوضع وتقييم انعكاسات الأزمة على الإمارات عموما ، وتحديد التدابير التي من المفروض اتخاذها لمساعدة قطاعات الأبناك والتأمين والبناء والتعمير. إلا أن هذا الأمر في دبي كان مختلفا عن الدول الأخرى، حيث إن عمليات الإعمار والبناء ارتكزت في معظمها على التوقعات المضاربتية من أجل تحقيق الأرباح المحتملة والمستقبلية في ميدان البناء. وكانت هذه الوضعية نتيجة الهالة الكبيرة التي خلفتها، عند المضاربين ، سياسات الإشهار لمشاريع لم تنجز بعد ولوضعية اقتصادية لم تكتمل بعد، مما دفع بالمضاربين والوسطاء إلى وضع أموالهم في سوق الصكوك لدبي. وقد جذبت هذه الوضعية أيضا ، العديد من المستثمرين قصد تملك مسكن في دبي ،والتمسك بأحلام عريضة من أجل تحقيق ربح مستقبلي، وهو ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار البناء دون الاهتمام بالتكلفة، وهذا ما يفسر وجود المشاريع الخيالية كمشاريع «النخيل» و «قارات العالم» و «سوق ابن بطوطة» و «برج العرب»وغيرها... إلا أن كل هذه الأحلام واجهتها إكراهات وصعوبات جمة بسبب وجود وضع غامض وربما غير سليم ، لأن شركات البناء التي تعمل على إنجاز المشاريع العقارية الكبرى في دبي، تحملت قروضا ضخمة ، معظمها من البنوك والبورصات العالمية، مراهنة على ارتفاع أسعارا لعقار عند الإنتاج ، وعلى جذب مستثمرين كثر لاقتناء المباني بمبالغ خيالية، لكن ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية تسببت في انخفاض الأسعار بشكل رهيب كنتيجة حتمية لتراجع الطلب. جوانب النقص والقصور س : اسمح لي بطرح السوال بصيغة أخرى ، ما هي العوامل التي تسببت في الأزمة ، أو على الأقل ساهمت في انفجارها ؟ ج : الواقع أن دبي كانت ضحية نجاحها الملحوظ ، على الأقل ، في منطقة الخليج العربي ، حيث استطاعت أن تتبوأ مكانة متقدمة في عالم التجارة والمال والأعمال . ففي فترة وجيزة نسبيا ، أصبحت دبي مركزا قويا للمبادلات التجارية ، فرض وجوده على مستوى منطقة الشرق الأوسط وأسيا وإفريقيا ، حيث تتميز الإمارة بأسواقها الضخمة والمتعددة وبالتخفيضات الكبيرة في بضائع «الماركات العالمية» التي تصل أسعارها ، في بعض الأحايين ، إلى أقل من 75 % مقارنة بالأسعار الحقيقية ، ويلاحظ الزائر الكميات الهائلة من مختلف البضائع التي توجد حمولاتها في الميناء أو على جنبات النهر قصد التصدير نحو وجهات مختلفة داخل الإمارات وخارجها .. لقد أثبتت دبي قدرتها على اعتماد روح المقاولة في إنجاز المشاريع الكبرى ، بل إن جودة خدمات بعض مؤسساتها وقوة تنافسيتها ، وهو الأمر الذي ينطبق مثلا على شركة الخطوط الجوية الإماراتية التي استطاعت أن تتبوأ مركزا متقدما ضمن شركات الطيران العالمية ، وهو ما دفع بعض الدول إلى الخوف واتخاذ تدابير احتياطية ضد منطق التنافسية في الأسعار والجودة ، وفي هذا الإطار تحرك الألمانيون بقوة من أجل إجبار شركة الطيران الإماراتية على التخفيض من أسعار رحلاتها تجاه فرانكفورت ، من أجل الحد من تنافسيتها مع شركة لوفتانزا .. ولكن مع ذلك لابد من الاعتراف ببعض جوانب النقص والقصور في السياسات العمومية ، ومنها بالأساس ضعف تداول المعلومات المالية في الإمارات العربية بالرغم من مظاهر الانفتاح، ولابد أيضا من الإشارة إلى نقطة أخرى ذات أهمية بالغة ، تتعلق بالدور البارز للعامل الخارجي في التحول الذي شهدته وتشهده دبي ، ذلك أن العنصر الأجنبي ( النخبة والخبرة والعمالة البسيطة ) كان له دور حاسم في التقدم على مستوى القطاعات الصناعية والخدمات والعقار ، الذي تعرفه دبي بصفة خاصة والإمارات العربية بصفة عامة .. وتظهر غلبة العنصر الأجنبي بشكل جلي لزوار دبي من العرب الذين يصعب عليهم إيجاد من يتكلم معهم بالعربية ، حيث إن عدد سكانها الذي يصل إلى حوالي 5 . 1 مليون ، ضمنهم حوالي 80 % من الأجانب، وعنصر في الجانب الإيجابي ، وفيه أيضا الجانب السلبي .. وبشكل عام يمكن القول إن ضعف تداول المعلومات المالية و انعدام الثقة وطغيان العنصر الأجنبي داخل أي مجتمع تعتبر عناصر سلبية يجب معالجتها من أجل إنجاح المشاريع التنموية وتجنب الانعكاسات السلبية للأزمات المفاجئة .. حقيقة الأزمة المالية لدبي س : الأستاذ فلكي ، بعد أن هدأت الأوضاع نسبيا ، كيف يمكنكم تقييم ما حصل بالنسبة لأزمة دبي ؟ ج : لقد استفاق رجال المال والأعمال ومسؤولو مصرف الإمارات المركزي والأبناكالإماراتية و فروع الأبناك الأجنبية في دولة الإمارات، على إثر إعلان مجموعة دبي العالمية عجزها عن تسديد ديونها في التاريخ المحدد حيث أن حكومة دبي، طلبت بتاريخ 25 نونبر 2009، مهلة 6 أشهر لإعادة تسديد ديون «مجموعة دبي العالمية»وشركة «نخيل العقارية» إلى حين انتهاء عملية إعادة الهيكلة . ويهم هذا التأجيل أداء 5.3 مليار دولار لصكوك إسلامية مستحقة بتاريخ 14 دجنبر 2009. إن هذا الإعلان خلق حالة من الهلع والذعر لدى المستثمرين في الأسواق والبورصات العالمية وخصوصا بورصات الإمارات عموما وبورصة دبي على وجه الخصوص. ولا شك أن مظاهر الخوف والهلع لم يكن لها مبرر واقعي ، ومن المنتظر أن يكشف التاريخ عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء أزمة دبي ، ويمكن إبراز عنصرين مهمين في هذا الجانب ، أولا إن الدين الإجمالي لا يتجاوز 80 مليار دولار ، وهو مبلغ متواضع على كل حال ، إذا ما قورن بالديون الضخمة المتراكمة على بعض الدول كأمريكا مثلا. ثانيا إن دولة مثل الإمارات العربية المتحدة التي تتمتع بثروات طبيعية مهمة ، و خصوصا إمارة أبو ظبي التي تعد ثالث مصدر للنفط في العالم ، لم يكن صعبا عليها التدخل من أجل تقديم يد المساعدة ومعالجة مشكل هذا الدين .. ومن المؤكد أن الساسة وأصحاب القرار في الإمارات كانوا يدركون جيدا أن أي خلل في الوضعية المالية والاقتصادية لدبي سيؤثر لا محالة على المنطقة برمتها،كما أنهم يعرفون أن أبو ظبي لوحدها قادرة على التحكم في المشكل الذي ربما كان مبالغا فيه ، وتفاقم بسبب ضعف تداول المعلومات و انعدام الثقة.. أصل الطفرة الاقتصادية لإمارة دبي س : بعض الباحثين يرون أن إمارة دبي بشكل خاص لم تكن تمتلك الإمكانيات الذاتية لتحقيق ما وصلت، وهو ما يفسر إلى حد ما حصول الأزمة ، ما هي وجهة نظركم بهذا الخصوص ؟ ج : هذا سؤال متشعب ، ويتعلق بموضوع من الصعب محاصرته من جميع الجوانب ، ولكن مع ذلك سأحاول توضيح بعض الأمور . لقد تمكنت إمارة دبي من استقطاب الاستثمارات و القروض الكافية من الأبناك العالمية ومن المؤسسة المالية الإمارتية ، وظهرت كمركز مستقبلي لرجال الأعمال و التداولات المالية و التجارية على المستوى العالمي ، وواكب ذلك إنجاز العديد من المشاريع الضخمة في وقت وجيز ، ربما حرقت فيه المراحل ، حيث تم إهمال منطق التدرج والتراكم في تنفيذ البرامج والخطط . وفي هذا السياق بالضبط يمكن الإشارة إلى المجهود الذي بذله رجال الدولة في الإمارات وفي مقدمتهم الشيخ زايد ابن سلطان رحمه الله الذي أسس هذه الإمارة وكان أحد موحدي الإمارات السبع، حيث انطلق من فكرة بسيطة ولكنها كانت حاسمة في مسلسل بناء الدولة ، وهي اعتماد مبدأ تكامل الإمكانيات والفرص بين مخلف الإمارات، وساهم في رسم إستراتيجية تنموية تجعل من إمارة دبي سوقا عالمية ضخمة بكل المقاييس ، وهو ما تحقق فعلا ، حيث إن هذه الإمارة الفقيرة مقارنة مع باقي الإمارات ، استفادت من موقعها الجغرافي المتميز ومن الظرفية التاريخية والأوضاع السياسية المناسبة واهتمام القوى العظمى بالمنطقة. حدود تأثر المغرب بأزمة دبي س : قيل الكثير عن تأثر المغرب بأزمة دبي ، في نظركم ماهي حدود هذا التأثير ؟ ج : يبدو من الوهلة الأولى أن منطق التأثير والتأثر بين الدول ، في وقت الضيق والرخاء ، أمرا محسوما ، خصوصا ونحن نتحدث عن العالم باعتباره قرية صغيرة ، ولكن طبيعة هذا التأثير والتأثر تختلف حسب السياقات والعلاقات التي تربط بين الدول وحجم المبادلات التجارية والاستثمارات بينها ، صحيح أن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المغرب والإمارات العربية المتحدة تصنف بالمشجعة حيث توجد استثمارات إماراتية في عدد من القطاعات الحيوية للمغرب كالزراعة والصيد والسياحة والطاقة والعقار والموانئ والسدود، لكن لابد من الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن حجم استثمارات دبي في ذلك ، يبقى متواضعا جدا ، لأن معظم هذه الاستثمارات من الإمارات الأخرى المكونة للاتحاد وخصوصا أبو ظبي وليس من إمارة دبي . س : وماذا عن المشروع الضخم لتهيئة ضفتي أبي رقراق ، ألا تعتقدون سيتضرر بهذه الأزمة ؟ ج : لا يمكن حجب الشمس بالغربال في هذه النقطة بالضبط ، ذلك أن المشروع الأكثر تضررا هو فعلا مشروع أمواج لتهيئة ضفتي أبي رقراق، الذي تمتلك فيه الشركة العقارية سما دبي حصة تصل إلى حوالي 50 % ، ولكن يجب ألا ننسى الحصة الأخرى التي تتوزع على 20 % لصندوق الإيداع والتدبير و10 % للصندوق المغربي للتقاعد و20 % لوكالة تهيئة أبي رقراق.وبشكل عام يمكن القول إن تأثير هذه الأزمة على المغرب سيكون محدودا جدا ، وهو ما توقعه الكثير من المتتبعين. بالإضافة إلى ذلك لابد من الإشارة إلى أن المشروع الذي يتم إنجازه في ضفتي ابي رقراق يهم عدة برامج تشمل قنطرة ونفقا و فضاءات عمومية والتراموي والتهيئة المائية وغيرها ، وتدعمه مؤسسات مغربية ومؤسسات مالية دولية مثل الوكالة الفرنسية للتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار ، علما بأن «سما دبي»لا تساهم إلا في جزء من المشروع .. وبخصوص الشركة العقارية «سما دبي»بالضبط ، يجب التذكير بأنها طلبت فعلا تأجيل مساهمتها في مشروع أمواج بأبي رقراق إلى إشعار آخر ،إلا أن ذلك كان خلال شهر يناير 2009 أي قبل الإعلان عن الأزمة الأخيرة . وفي هذا الإطار يمكن للمغرب أن يستعمل التقنيات والوسائل نفسها التي استعملت في دبي لجلب المستثمرين والمضاربين العقاريين عبر بورصات العالم لتغطية حصة «سما دبي» في مشروع أبي رقراق . إن أهمية هذا المشروع وضخامته و الموقع الجغرافي الإستراتيجي الذي يتميز به المغرب ، عناصر مهمة يجب استغلالها في هذا المجال ، ومن المفروض على أصحاب القرار في المغرب أن يدركوا بأن الأزمات قد تكون فرص حقيقية لإنجاز استثمارات كبرى وتحقيق التقدم والرفاه . بل أن أكثر من مدينة مغربية يمكنها أن تستلهم نموذج دبي وتطوره نحو الأفضل كما هو الشأن بالنسبة لمدينة طنجة أو الناظور أو الدارالبيضاء أو القنيطرة أو الرباط أو الداخلة أو العيون أو غيرها .. خطط استباقية لتجنب الأزمات س : ألا يمكن التفكير في بلورة خطط استباقية لمواجة الأزمات الطارئة ؟ ج : هذا أمر مهم جدا فالبرامج والخطط التنموية بشكل عام يجب أن تتوقع الأزمات ، وتحدد مسبقا طبيعة التدابير التي يجب اتخاذها من أجل تجنب هذه الأزمات أو معالجتها إذا وقعت. وفي هذا الإطار يحتل نظام التأمين موقعا مركزيا باعتباره آلية استباقية لمواجهة أي اختلالات على مستوى تنفيذ البرامج والحد من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الوطني بسبب الأزمات العالمية، مع الأخذ يعين الاعتبار أن قطاع التأمين نفسه قد يكون عرضة لهذه الانعكاسات. وهو الأمر الذي حصل في المنطقة العربية ، حيث إن تداعيات الأزمة العالمية كان لها تأثير واضح على قطاع التأمين في الوطن العربي، ولاسيما في منطقة الخليج العربي التي تعتمد أكثر على الاستثمار في الأسهم والسندات ، ويتوقع الخبراء أن يعرف هذا القطاع وضعا حرجا مع نهاية سنة 2011 . ومن الضروري أن يتنبه المسؤولون المغاربة لهذا الأمر ، خصوصا وأن المغرب يحتل موقع متقدما مقارنة مع باقي الدول العربية . ويبقى أهم تدبيريجب القيام به ، حسب الاتحاد العام العربي للتأمين، هو اندماج شركات التأمين الصغيرة ، وتنسق الجهود العربية من أجل الوصول إلى بلورة نظام قانوني موحد للتأمين .